صفعة جديدة للجزائر.. بنما تقرر سحب الاعتراف بالبوليساريو    تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"        لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جنايات طنجة تدين المتهمين في ملف فتاة الكورنيش ب 12 سنة سجنا نافذا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'            المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل فهم الفرق بين الإمتلاك و الوجود

نواصل رحلتنا في سبر أغوار كتاب "الإمتلاك أو الوجود" لإريك فروم، خصيصا لقراء جريدة الإتحاد الإشتراكي، و كلنا أمل في إعادة إحياء التأمل و التفكير العميق في الفكر اليساري عامة و الإشتراكي خاصة، لأنه فكر لم "يمت" و "يندثر" مع أفول نجم الشيوعية السوفياتية و "انهيار" حائط برلين، بل انكمش على نفسه إلى حين. كان الإتحاد الإشتراكي للقوت الشعبية في زمن غير بعيد، حامل مشعل "الثورة" الإشتراكية، ليس في المغرب فقط، بل في عموم الوطن العربي. و إذا كان قد عرف بعض التقهقر في السنين الأخيرة، فلأنه أُصيب بما نصطلح عليه "عُمى" السلطة، و هذا نقد بناء له، الغرض منه هو إعادة عجلاته إلى السكة الطبيعية له و تجاوز حالة الدوخة التي فرضتها الهيمنة الليبرالية، بكل ما حملته من مصائب وخيمة على العنصر البشري عامة. أعتقد شخصيا بأن الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية ما يزال يتوفر على طاقات مهمة و على كفاءات فكرية لا تنتظر إلا الفرصة للإنطلاق في عالم الإبداع و اقتراح نموذج حكم قوامه الإنسان و هدفه تعزيز النزعة الإنسانية في العمل السياسي و الفكري، لبلد هائم على نفسه، في بحر من الإرتجال السياسي و الصراع الأيديولوجي لأحزابه. تعزيز النزعة الإنسانية في المجال السياسي لا يعني أكثر من الإنطلاق من حاجيات الناس الحقيقية و الرجوع إلى ما كان يصطلح عليه القاعدة الشعبية، لأنها هي الوحيدة القادرة على التغيير.
نكتشف مع فروم في هذا النص مجموعة مهمة من الأفكار التي تساعد لا محالة على وعي البركة القذرة التي رمتنا فيها الليبرالية المتوحشة و المتمثلة في شبه تأليه لعالم الإستهلاك، الذي لا يقود إلا إلى المزيد من الإستيلاب و حرمان الإنسان من إعمال ملكاته العقلية في التعامل مع واقعه الإجتماعي و السياسي، بل أغمسته في عقلية تنافسية مرضية: التنافس على المناصب و المظاهر و استهلاك أعمى لما يقيده و يقوي الرأسمالية إلخ. كما نكتشف أن لغتنا العربية، و على غرار الكثير من لغات المعمور، لا تتوفر على فعلي "Haben و Sein"، بل نترجم فعل Haben بالإمتلاك، و هي ترجمة تقريبية ليس إلا، لا تعبر عن عمق فعل Haben. و نفس الشيئ يمكن أن يقال على فعل Sein، البعيد كل البعد عن المفهوم الهيديجيري "كينونة"، لأن فروم يعني بالتحديد "الوجود" و ليس أي مفهوم ميتافيزيقي آخر.
النص المُتَرجم:
"لا يساعد الإختيار بين الإمتلاك أو الوجود الإنسان السوي للمزيد من الفهم. و يبدو أن الإمتلاك وظيفة عادية في حياتنا، فمن أجل أن يعيش المرء عليه أن يملك بعض الأشياء؛ من اللازم أن نملك بعض الأشياء لكي نفرح بها. كيف يمكن أن يكون هناك اختيار بين الإمتلاك و الوجود في حضارة هدفها الأسمى هو الإمتلاك أكثر فأكثر، و تحدد قيمة شخص ما ب" مليون دولار"؟ يبدو و كأن جوهر الوجود هو الإمتلاك؛ و من لا يملك شيئا لا يساوي شيئا.
كان الإختيار بين الإمتلاك و الوجود الإشكالية المحورية في فكر كبار مُعَلِّمِي الحياة. يعلمنا بوذا بأنه لا يجب على من يريد الوصول إلى درجة أعلى في تطوره الإنساني اللهث وراء الإمتلاك. و يقول المسيح: "إن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها و من يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله و أهلك نفسه أو خسرها" (إنجيل لوقا، 9، 24 و 25). و قد كان المايستر إيكهارت Eckhart يعلم بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الثراء والقوة الروحيين هو ألا يملك المرء شيئا و ينفتح على ذاته و "يفرغها" و ألا يكون عائقا أمام أناه. و قد علَّم ماركس بأن الرفاهية مثلها في ذلك مثل الفقر هي عبئ، و من اللازم أن يكون هدفنا هو الوجود بطريقة جيدة/أحسن لا أن نملك أكثر. (أرجع هنا إلى ماركس الحقيقي، صاحب النزعة الإنسانية الجذرية، لا إلى التشويه الذي تقدمه عنه الشيوعية السوفياتية).
لقد كنت معجبا لسنوات عديدة بهذا التمييز. وحاولت أن أجد أساسه الإمبيريقي/التجريبي بدراسة فعلية للأفراد والمجموعات بمساعدة طريقة التحليل النفسي. وما توصلت إليه قادني إلى استنتاج مفاده بأن هذا التمييز، مثله في ذلك مثل التمييز بين حب الحياة وحب ما هو ميت، يمثل المشكل الأساسي للوجود الإنساني؛ وبأن المعطيات الميدانية للانتروبولوجية والتحليل النفسي تشير إلى أن الإمتلاك والوجود هما أساسا نمطان مختلفان للتجربة الإنسانية، و بأن قوة كل واحد على حدة هي التي تحدد الإختلافات بين طباع الأفراد و بين مختلف نماذج الطباع الإجتماعية.
أمثلة من الشعر:
أود الإستشهاد بقصيدتين تشتركان في نفس المضمون كمثال لتوضيح الفرق بين نمط الحياة الإمتلاكي ونمط الحياة الوجودي، يذكرهما الراحل د. ت. سوزوكي في محاضراته حول الزين (Zen) البوذي عام 1960. إحداهما من شعر الهايكو كتبها باشوBasho (1644 1694) و هو شاعر ياباني؛ والأخرى لشاعر انجليزي من القرن التاسع عشر هو تينيسون Tennyson. كل منهما يحكي تجربة مماثلة لرد فعلهما تجاه زهرة صادفاها خلال نزهتهما. يقول تينيسون:
أيتها الوردة، في الجدار المتصدع،
أقطفتك من شقوق الجدار،
و أحملك في يدي بالجذور،
أيتها الوردة الصغيرة، لكن لو كان بإمكاني أن أفهم،
ما أنت في كليتك، بما في ذلك الجذور،
لعرفت ما الله وما الإنسان.
ترجمة ماريون شتايبا Marion Steipe
وتقول قصيدة الهايكو لباشو:
"عندما أنظر بعناية،
أرى "النزونا" تتفتح
قرب السياج!"
إن الفرق ملفت للنظر. فرد فعل تينيسون أمام الزهرة هو الرغبة في امتلاكها. إنه يقطفها "بما في ذلك الجذور". يقود اهتمامه بها إلى قتلها و هو في غمرة المضاربة الفكرية في كون الوردة قد تخدمه في فهم طبيعة الله و الإنسان. و يمكن أن يُشبه تينيسون في هذه بالعلماء الغربيين الذين يبحثون عن الحقيقة بتمزيق الحياة.
أما رد فعل باشو (Basho) أمام الزهرة فهو مُغاير تماما. لا يريد قطفها، ولا يمسها حتى. إنه ينظر بعناية، لكي "يراها"
يعلق سوزوكي (1960، ص. 1) على ذلك بالتالي: "من المحتمل أن باشو كان يتنزه في إحدى الطرق في البادية عندما لمح شيئا غير واضح قرب سياج نباتي. اقترب ناظرا إليه بدقة و وجد بأن الأمر لا يتعلق إلا بنبتة برية، غير ذات أهمية، لا يهتم بها المارة عادة. تصف القصيدة إذن واقعة بسيطة، دون التعبير عن أي إحساس شعري يذكر، باستثناء المقطعين الأخيرين اللذين يقرآن باليابانية على شكل Kana. و يعبر هذا اللفظ، الذي يُربط في الغالب باسم أو نعت أو ظرف، عن نوع من الشعور بالإعجاب أو الحمد أو المعانات أو الفرح، ويمكن أن يُقابل نقطة التعجب عندما نترجمه. و ينتهي البيت الأخير في الهايكو الذي أمامنا بهذا النوع من نقطة التعجب".
يجب أن يملك تينيسون الزهرة ليتمكن من فهم الإنسان والطبيعة، و بامتلاكها فإنه يدمرها. أما باشو فيريد أن يشاهد الزهرة ، ليس فقط مشاهدة الإتحاد بها، بل إبقائها على قيد الحياة. و تشرح قصيدة لجوتي الفرق بين تينيسون و باشو:
وجدت
كنت أتنزه في الغابة
وحيدا،
و لم يكن في نيتي
البحث عن شيئ ما
لمحت في الظل
زهرة صغيرة واقفة،
لامعة كالنجوم
جميلة كعينين.
أردت قطفها،
لكنها قالت لي برفق:
أمن أجل أن أذبل
يتم تكسيري؟
حفرت عليها
بكل جذورها،
وحملتها إلى الحديقة
في البيت الجميل.
غرستها من جديد
في ركن هادئ؛
وهي الآن، ما تفتأ تتفرع
و تُزهر بسرعة.
ذهب غوتي للتجول بدون هدف محدد، عنما جذبت انتباهه زهرة مضيئة. و يقول بأنه كان له نفس دافع تينيسون، وهو أن يقطف الزهرة. لكنه و على خلاف تينيسون، فإنه كان يعي أنه سيقتلها بذلك. كانت الزهرة حية إلى درجة أنها تكلمت معه محذرة إياه. و يحل المشكل بطريقة مغايرة لتينيسون وباشو: إنه يحفر على الزهرة ويعيد استنباتها لتستمر في الحياة. وبهكذا فإن جوتي يقف إلى حد ما بين تينيسون وباشو، لكن في اللحظة الحاسمة يكون حب الحياة عنده أقوى من الفضول الفكري. و تُعَبِّر هذه القصيدة الجميلة على الموقف المبدئي لجوتي اتجاه البحث في الطبيعة.
إن علاقة تينيسون بالزهرة مطبوعة بالنمط الإمتلاكي، على الرغم من أن هذا الإمتلاك ليس ماديا، لكن الأمر يتعلق بامتلاك المعرفة. و تتميزعلاقة باشو وجوتي بالزهرة بنمط وجدوي. وأقصد "بالوجود" نمط وجود لا يكون فيه المرء يملك شيئا و لا يرغب في امتلاك شيئ ما، لكنه يكون مغمورا بالفرحة باستعمال كفاءاته بطريقة مُنتجة و يكون متحدا بالعالم.
دافع جوتي، محامي الحياة الشغوف و المقاوم ضد تدمير الإنسان و مَكْنَنَتِهِ، في الكثير من قصائده على الوجود ضد الإمتلاك، و استعرض الصراع بين الإمتلاك و الوجود بطريقة درامية في مسرحية "فاوست"، حيث يجسد ميفيستو فيها الإمتلاك. له كذلك قصيدة قصيرة تعبر عن جودة الوجود بطريقة بسيطة للغاية:
ملكية
أعرف أن لا شيئ لي
باستثناء الفكر
الذي يريد أن يتدفق دون عائق من روحي،
متمتعا بكل اللحظات الملائمة
التي يمنحني إياها بخت طيب
بكل أعماقي.
إن الفرق بين الوجو و الإمتلاك لا يشبه الفرق بين الفكر الشرقي و الفكر الغربي. بل إنه يتعلق بمجتمع متمركز حول الأفراد/الأشخاص و آخر متمركز حول الأشياء. فالتوجه "الإمتلاكي" سمة تطبع المجتمع الصناعي الغربي، حيث أصبح شغف المال والشهرة والقوة هي الموضوع المسيطر على الحياة. للمجتمعات الأقل استلابا، كالمجتمع الوسيطي أو هنود الزوني (Zuni) أو بعض المجتمعات القبلية في إفريقيا، الغير المصابة بعد بأفكار "التقدم"، شعراء خاصين من فصيلة باشو، و قد يكون لليابانيين، بعد بِضْعَة أجيال من التصنيع شعراء مثل تينيسون. لا يتعلق الأمر بعدم تمكن الإنسان الغربي من فهم الأنظمة الشرقية كبوذية الزين (Zen) (كما اعتقد ذلك يونغ)؛ بل إن الإنسان المعاصر لا يستطيع فهم روح مجتمع لا يتأسس على الملكية و الجشع. في الواقع من العسير فهم إيكهارت كما هو عسير فهم باشو أو الزين، لكن إيكاهرت و البودية ليسا إلا لهجتين لنفس اللغة.
تغيرات في استعمال المفهومين
يمكن التأكيد بأن تحول ما قد حصل في لهجة الإمتلاك و الوجود، و هو تحول يشهد عليه الإستعمال المتزايد للأسماء و انخفاض استعمال كلمات الفعل/العمل في اللغات الغربية خلال القرون الماضية.
إن الإسم هو التعيين/التحديد المضبوط لشيئ ما. من الممكن أن أقول بأن لدي أشياء ما، مثلا طاولة، دار، كتاب، سيارة. أما الفعل فإنه التعيين المضبوط لنشاط ما للتعبير عن عملية ما: كأن أقول مثلا أنا موجود، أنا أحب، أنا أرغب، أنا أكره إلخ. لكن يعبر المرء أكثر و أكثر عن عملية ما بمصطلحات الإمتلاك؛ يعني أن المرء يستعمل اسما عوض فعل. إن التعبير عن عملية ما من خلال ربط فعل"امتلك" بإسم ما هو استعمال خاطئ للغة؛ لأنه لا يمكن امتلاك العمليات و الأنشطة، بل فقط عيشها.
ملاحظات دومارسي Du Marsais وماركس
وعى المرء النتائج الضارة لهذا الإستعمال اللغوي في القرن الثامن عشر. وقد عبر دومارسي عن هذا المشكل تعبيرا دقيقا في مؤلفه المنشور بعد موته: المبادئ الحقيقية للنحو (1769)، حيث قال : "في المثال التالي: عندي ساعة، يجب فهم عندي في المعنى الحرفي؛ أما في مثال : "عندي فكرة" فإن كلمة عندي تستعمل على سبيل التقليد فقط. إنه تعبير انقرض. فمعنى "عندي فكرة" هو أنني أعتقد و أتصور شيئا ما بهذه الطريقة أو تلك، و معنى : "عندي حنين" هو "أنني أحن"، ومعنى "عندي الإرادة" هو "أنني أريد" إلخ ( إنني مدين إلى د. نعيم شومسكي الذي نبهني لدومارسي).
قرن من الزمن بعد ملاحظة دي مارسي لظاهرة تعويض الأفعال بالأسماء، انشغل ماركس وانجلز بطريقة راديكالية بنفس المشكل مقارنة بدي مارسي. ذلك أن نقدهما ل " مراجعة نقدية kritischer Kritik" لإدغار باور Edgar Bauerيحتوي على مقالة موجزة عن الحب، لكنها مهمة. و يعتمدان في هذا المقال على ما قاله باور: " إن الحب هو إلاهة شرسة، و ككل ألوهية فإنها تريد الإستيلاء على الإنسان بكامله و لا تكتفي بتقديمهه لها لروحه فقط، بل جسده كذلك. إن عبادتها هي المعاناة و قمة هذه العبادة هي التضحية بالنفس، الإنتحار" (باور 1844).
يجيب ماركس وإنجلز: "يحول السيد إيدغار "الحب" إلى "إلهة"، وهي في الواقع "إلهة همجية"، عندما يجعل من الإنسان المحب، و من حب الإنسان للإنسان الحب، و عندما يجعل من الحب جزئا منفصلا عن الإنسان، و بهذا يصبح الحب مستقلا" (كارل ماركس، 1962، ص 684).
يشير ماركس وانجلز هنا إلى العامل الحاسم في استعمال الإسم عوض الفعل. ذلك أن إسم "الحب"، و الذي لا يعتبر إلا تجريدا لنشاط الحب، يُعزل عن الإنسان. يصبح الإنسان المحب إنسان الحب. و يصبح الحب إلهة، معبودة، يُسقط عليها الإنسان حبه. و في غضون عملية الإستلاب هاته يتوقف عن عيش الحب و لا يبقى على اتصال مع قدرته على الحب إلا عن طريق خضوعه لإلهة الحب. فقد توقف عن كونه إنسان يُحس بذاته، و أصبح خادما مسلوبا للأصنام.
الإستعمال اللغوي للمفهومين اليوم
منذ القرنين اللذان مرا على دى مارسي، تزايد الميل إلى تعويض الأسماء بالأفعال بمقادير لم يكن باستطاعة دوماريس نفسه تصورها. و هناك مثال نموذجي للإستعمال اللغوي، حتى و إن كان مثال مبالغ فيه بعض الشيئ: لنفترض بأن امرأة باشرت الحديث مع محلّل نفسي ما هكذا : "السيد الدكتور، عندي مشكل؛ عندي عسر نوم؛ و رغم أن عندي منزلا جميلا، وأطفالا رائعين وزواجا سعيدا، فإن عندي هموما". هناك احتمال كبير في كون هذه المريضة قبل بضعة عشرات السنين قد كانت قالت عوض "عندي مشكلة" "أنا قلقة/مشغولة البال/مهمومة". إن أسلوب الكلام الحالي هو مؤشر على الإستيلاب اليوم. عندما أقول: "عندي مشكل" عوض "إنني مهموم"، فإن التجربة الذاتية تُقصى. يُعوض الأنا Ich الذي يقوم بالتجربة بالهو Es الذي يملك. أُحَوِّلُ أحاسيسي إلى شيئ أملكه: المشكل. ذلك أن "المشكل" هو تعبير مجرد على كل أنواع الصعوبات. لا يمكن أن يكون عندي، لأنه ليس شيئا يمكن للمرء امتلاكه، لكن يمكن للمشكل امتلاكي، بعبارة دقيقة، إنني أتحول إلى مشكل، و من تم يسيطر علي ما خلقته. و تكشف طريقة الكلام هذه الإستيلاب اللاواعي المُضمر.
الإشتقاق اللغوي للمفهومين
إن "الإمتلاك" هو كلمة بسيطة خادعة. لكل واحد شيئ ما: جسده، ملابسه، منزله و بالنسبة للإنسان المعاصر سيارة، جهاز تلفزة و ألة غسيل الملابس. أصبح العيش بدون امتلاك أمرا مستحيلا عمليا. فَلِمَ سيكون الإمتلاك مشكلة إذن؟
يُظهر التاريخ اللغوي لكلمة "امتلاك" بأنه يطرح مشكلا حقيقيا. سيفاجئ الذين يعتقدون بأن "الإمتلاك" هو أعلى صنف طبيعي في الوجود الإنساني، إذا علموا بأن لا وجود لكلمة "امتلاك" في العديد من اللغات. ففي العبرية أعبر عن "عندي/لي" مثلا بشكل غير مباشر (هذا الشيء لي) "jesh li ?? ??. بالفعل، هناك الكثير من اللغات التي تعبر عن الملكية بهذا الشكل عوض "عندي".
هناك ملاحظة مهمة تتمثل في كون بناء (هذا الشيء لي) لم يُعوض ب "عندي" في تطور الكثير من اللغات إلا في وقت لاحق، في الوقت الذي لا نلاحط أي تطور معاكس، كما وضح ذلك إيميل بينفينست Emile Benveniste. و تُظهر هذه الواقعة بأن كلمة "امتلاك" تطورت في سياق تطور الملكية الخاصة، في الوقت الذي لا نجد لها أي أثر في المجتمعات التي تسودها ملكية وظيفية، أي ملكية من أجل الإستعمال. و على الدراسات اللسانية الإجتماعية المعمقة أن تظهر مدى صحة هذه الفرضية.
في الوقت الذي يظهر فيه بأن كلمة "امتلاك" هي مصطلح بسيط نسبيا، فإن كلمة "وجود" أكثر تعقيدا وصعوبة. إنها ستعمل بطرق متعددة:
1) كفعل مساعد كما في قولي: "أنا كبير"، "أنا أبيض"، "أنا فقير" أي كتحديد نحوي للهوية. لا تتوفر العديد من اللغات على كلمة للتعبير عن "كائن/موجود" في هذا المعنى. و يميز المرء في الإسبانية بين الخاصية الدائمة ، التي تنتمي لجوهر الذات الفاعلة (Ser) ، و الخاصيات المؤقتة، التي لا تنتمي لهذا الجوهر Estar)).
2) في تشكيل الفعل السلبي"ضُرِبْتُ" تعني أني موضوع نشاط شخص آخر و لست الذات الفاعلة لنشاطي الخاص، كما هو الأمر في : "أنا أضرب"
3) يختلق "الزاين Sein" في معنى الوجود، كما وضح ذلك بنفينست، جوهريا عن الفعل المساعد "Sein" الذي يدل على الهوية: "فالكلمتان قد تعايشتا و يمكنهما الإستمرار في التعايش، رغم أنهما مختلفتان تماما".
تسلط دراسة بنفينيست ضوءا جديدا على معنى " الزاين Sein " كفعل مستقل و ليس على معناه كفعل مساعد. يُعَبَّرُ عن فعل "الوجود" في اللغات الهندوأوروبية بواسطة الجذر ES، الذي يعني " الوجود الذي يمكن أن نعثر عليه في الواقع". و يُعَرَّفُ هذا الوجود و هذا الواقع كوجود و واقع أصيل و مُقْنِع و صحيح.
أما في السنسكريتية (لغة هندية قديمة) فإن كلمة Sant تعني "كائن، ماثل، موجود"، "حقا"، "جيد"، "حقيقي" و يعني لفظ التفضيل Sattama "الأحسن". طبقا لجذره الإيتيمولوجي، فإن "الزاين Sein" هو أكثر من مجرد مدلول للهوية بين الفاعل والصفة، إنه أكثر من لفظ وصفي لظاهرة من الظواهر. إنه يعبر عن واقع ما هو موجود و ما هو كائن و يشهد على أصالته و صحته. عندما يقول المرء بأن شخص ما أو شيئ ما موجود، فإن المرء يتحدث عن جوهره و ليس عن قشوره أو مظهره.
تقودنا هذه النظرة العامة على معنى "الإمتلاك Haben " و "الوجود Sein "إلى الخلاصات التالية:
1 حينما أستعمل فِعْلَيْ الوجود و الإمتلاك، فإنني لا أعني خاصيات منفردة محددة لموضوع ما، كما تكون في تأكيدات مثل "عندي سيارة، "أنا أبيض" أو "أنا سعيد". إنني أقصد نمطين أساسين للوجود، نوعين مختلفين لتوجه الذات اتجاه ذاتها و اتجاه العالم، نوعين مختلفين لأساس الطبع، و طبقا للجانب الطاغي منهما يحددان مجموع ما يفكر في الإنسان و يشعر به و يسلك طبقا له.
2 تكون علاقتي بالعالم في النمط التملكي للوجود قائمة على أساس الإمتلاك والملكية؛ و هي علاقة أحاول فيها أن يكون كل واحد و كل شيئ، بما في ذلك أنا ذاتي، ملكا لي.
3 من اللازم أن نميز في النمط االوجودي للوجود شكلين للوجود. أحدهما يتعارض مع الإمتلاك، و قد وصفه دو مارسي في شرحه. و يعني الحيوية و الوحدة الأصيلة مع العالم. أما الثاني فإنه ضدا للمظهر، و يعني الطبيعة الحقيقية، و الواقع الفعلي لشخص ما، على عكس المظهر الخادع، كما هو موصوف في الإشتقاق اللغوي لكلمة "زاين Sein" (Benveniste).
التصورات الفلسفية للوجود
إن شرح مفهوم الوجود لمن الصعوبة بمكان، لأن الوجود كان موضوع آلاف الكتب الفلسفية و انتماء إشكالية "ما هو الوجود؟" إلى الإشكاليات الأساسية للفلسفة الغربية. و على الرغم من أن مفهوم الوجود مُعالج هنا من وجهة نظر أنتربولوجية و نفسية، فإن الشرح الفلسفي للموضوع سيشمل من طبيعة الحال الإشكالية الأنتروبولوجية. و بما أن حتى عرض مقتضب لتطور مفهوم الوجود في تاريخ الفلسفة ابتداء من القبل السقراطيين إلى الفلسفة الحديثة سيتجاوز حدود إطار عملنا هذا، فإنني أود أن أذكر نقطة مهمة: الفهم القائل بأن "أصبح" و "النشاط" و "الحركة" هي عناصر للوجود. كما أكد على ذلك جيورغ سيمل Georg Simmel، فإن الوجود يُضْمِرُ التغيير، يعني أن له نفس المعنى ك "أصبح"، و قد كان أهم المدافعين عن هذا في الفلسفة الغربية كل من هرقليط و هيجل.
أما الفهم الذي كان يدافع عليه بارمينيد و أفلاطون و "الواقعيين" المدرسيين، و القائل بأن الوجود هو جوهر غير متغير و مستمر/دائم و أزلي، و بهذا فإنه نقيضا لأصبح، فلا معنى له إلا على أساس تصور مثالي، يؤكد بأن الفكرة (فكرة ما) هي الوجود الحقيقي في آخر المطاف. فإذا كانت فكرة الحب، في معنى أفلاطون، تتمتع بوجود أكثر من مُعاش تجربة الحب، فيمكن للمرء أن يقول بطبيعة الحال بأن الحب هو فكرة أزلية و غير متغيرة. لكن إذا انطلقنا من واقع الناس الأحياء و حبهم و كراهيتهم و ألامهم، فسوف لن يكون هناك أي وجود لا يكون في نفس الوقت أصبح/مستقبلا و مُتغيرا. لا يمكن أن توجد أُسُسا حية إلا إذا كانت قابلة لأن تُصبح، و لا يمكن أن توجد إلا إذا كانت قابلة للتغير. فالتطور/النمو و التغيير هي خصائص مُتأصلة في صيرورات الحياة.
الإمتلاك و الإستهلاك
قبل أن نهتم ببعض الأمثلة البسيطة التي توضح لنا الفرق بين كِلاَ نمطي الوجود، لابد أن نتطرق لتمظهرين آخرين للإمتلاك، ألا و هو الأكل/البلع. إن بلع شيئ ما كالأكل أو الشرب هو شكل قديم للإمتلاك. ذلك أن الرضيع يميل في مراحل معينة من تطوره إلى وضع كل ما يريده في فمه. و يعتبر هذا طريقته للوصول إلى امتلاك شيئ ما عندما لا يسمح له تطوره الجسدي للمحافظة على ما يملكه و السيطرة عليه بطريقة أخرى. و نجد العلاقة بين البلع و الإمتلاك في الكثير من أشكال أكل لحوم البشر. ففي عملية أكلي لإنسان آخر، أمتلك قوته، و بهذه الطريقة يمكن أكل لحوم البشر أن يعادل شراء العبيد. عندما يأكل المرء قلب إنسان شجاع، فإن المرء يمتلك بهذا شجاعته. و إذا أكل المرء حيوانا طوطاميا، فإنه يصبح جزءا من جوهر الإله الذي يمثله هذ الطوطم و يتحد معه.
من طبيعة الحال لا يمكن للمرء أن يبتلع جسديا أغلبية الأشياء (و حتى و إن كان ذلك ممكنا، فإنها تُفقَد إثر عملية التغيط). لكن هناك بلع و أكل رمزي و سحري. إنني أبتلع رمزيا هذا الشيئ و أعتقد في حضوره الرمزي فيَ. و بهذه الطريقة يوضح فرويد على سبيل المثال الأنا الأعلى: مجموع استدماج المحرمات و المحللات الأبوية. و بنفس الطريقة يمكن لسلطة ما و لمؤسسة ما و لفكرة ما و لصورة ما الإندماج: إنني أمتلكها، أحتفظ بها دائما في أحشائي: يستعمل "الإستدماج" في الغالب مرادفا "للتشخيص". و من الصعوبة بمكان الإقرار ما إذا كان الأمر يتعلق بنفس العملية. على كل حال من اللازم ألا يُستعمل "التشخيص" في حالات حيث من الضروري أن يسمى محاكاة أو تبعية.
هناك الكثير من أشكال الإبتلاع الأخرى لا علاقة لها بالحاجات النفسية و بهذا تكون محدودة. ذلك أن السلوك الإستهلاكي يتأسس على الرغبة في ابتلاع العالم كله، و بهذا فإن المستهلك هو رضيع أزلي يصيح طلبا في قارورة الحليب. و يتمظهر هذا الأمر في الظواهر المرضية كالإدمان على الكحول و المخدرات، لأن تأثيرها يُعِيق المدمنين القيام بواجباتهم الإجتماعية. و لا يُنظر للمدخن المدمن بهذه الطريقة، لأن هذا النوع من الإدمان لا يأثر على الوظيفة الإجتماعية للمدخن، لكنه يُقصر "فقط" من حياته. و قد وصفت في كتاباتي السابقة الأشكال المختلفة للإستهلاك الإضطراري/الإكراهي و لا حاجة هنا للتكرار. ما يمكن إضافته هنا، فيما يخص وقت الفراغ، هو أن السيارة و التلفزة و الأسفار و الجنس قد أصبحت المواضيع الرئيسية للإستهلاك الإضطراري. يتحدث المرء عن "أنشطة وقت الفراغ"، و الصحيح هو أن المرء يمكنه نعته ب "وقت الفراغ الخامل/السلبي".
لنلخص: إن الإستهلاك هو شكل من أشكال الإمتلاك، و قد يكون أهمها في "مجتمع الوفرة" الحالي، و هو حمال لوجهين. إنه يقلل من الخوف، لأن المرء لا يمكنه أن يأخذ مني ما استهلكته، لكنه يفرض علي كذلك أن أستهلك باستمرار، لأن الإستهلاك مرة واحدة لا يعمل على إرضائي. و قد يُعبر عن المستهلك الحالي بالمعادلة التالية: إنني ما أملكه و ما أستهلكه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.