كعتبة للنص: مسار فني يقارب نصف قرن من البلاغة الصباغية داخل الحيز الزمكاني التشكيلي المغربي، استطاع عبد الكريم الغطاس (1945 الدارالبيضاء) أن يبصم على تجربة جمالية ذات ملامح خاصة ومتفردة. تنتمي أعمال الغطاس إلى جيل الستينيات، جيل هؤلاء الفنانين المتشبعين بسؤال الذات والبحث عن القول الاستتيقي في ابتعاد عن الأبوية وفرض الذات. جيل تسكنه قضايا عدة وهموم وأوهام إيديولوجية كان من الصعب تخطيها وتغاضي البصر عنها، لما كانت تحمله الضرورة الزمنية آنذاك من حراك سياسي مغربي وعربي وعالمي، إذ ستبرز توجهات فكرية وتيارات وتعابير فنية متحمسة لجل الأحداث السياسية آنذاك، ما يولد إحدى أهم المجلات الحداثية بالمغربية، مجلة «أنفاس» التي اعتبرت رائدة ويسارية الطرح. معها ستبرز مجموعة من الفنانين والكتاب المعارضين لنظام الحكم. كما سيبرز من خلالها مجموعة من المبدعين في حقول أدبية وفنية منتمين إليها أو متعاطفين معها، زيادة على كونها كانت الحاضن الفكري والأدبي لجماعة 65 بالدارالبيضاء. كل هذا بالإضافة للصراع العربي-الإسرائيلي، والحروب الباردة بين الضفتين المشرقية والغربية، رسم معالم جل فنانين تلك الحقبة في العالم العربي وداخل المغرب. عبد الكريم الغطاس خريج المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدارالبيضاء (1964)، التحق بعد سنوات قليلة بمدرسة الفنون بباريس، من ثم سيعود إلى مسقط حلمه الدارالبيضاء، حيث سيحتل منصب أستاذ بالمدرسة العليا منذ 1972، إلى جانب مجموعة من الأساتذة الآخرين والفنانين أمثال فريد بلكاهية ومحمد شبعة وطوني مارايني ومحمد حميدي وغيرهم… الغطاس أحد الفنانين الذي أنجبتهم حراكات جيل الستينيات من القرن الماضي، لن ينطوي داخل أي تيار سياسي صريح، بل ظل وفيا لفنه معتبرا إياه وسيلته التعبيرية المثلى. فهذا الفنان هو وليد جيل كان متحمسا لليسار الجديد وأفكاره الطلائعية، إلا أنه لم يكن متحمسا حد الذوبان في الخطابات المؤدلجة وما ينبثق عنها من غياب كامل لفردانية وفردية المبدع، مقابل إعلاء صوت الجماعة. الانفعال الاستتيقي: وككل الشباب المتحمس للفن، كانت أعمال عبد الكريم الغطاس متسمة بملمح تصويري واقعي، إلا أنه يحيد عن تلك الصباغية التصويرية إلى تصوير تجريدي للعالم والكون والدواخل. فأعمال هذا الفنان البشوش، تستمد عمقها من كونها تصاوير للكون عبر الصباغة وتدرج اللون. فلا أجد بدا، هنا، من وصف هذه اللوحات /الآثار بأنها سُدُم كونية منها تنبع وتتولد تلك الأجرام والشموس. فاللوحة تأتي باعتبارها سديما كونيا تندلق منه تراكيب متعددة مكونة للعمل ككل، في تناسق وتناغم لوني مبهر يعتمد على سيكولوجيا اللون والتي قِوامها المدى الذي يمكن أن يُمارسه اللون من تأثير هائل على البدن، حسب روحانية الفن لدى كانداسكي، الذي يؤكد على أن الألوان تثير هزة روحية يسميها: الأثر السيكولوجي1. من هذا الأثر ينطلق الغطاس في اشتغاله على أشكاله الهندسية التي يُنشئها فوق سطح قماشاته /أكوانه. فالفنان يركب انفعلاته الجمالية عبر توليفات مجردة، تقدم نفسها بسهولة وببساطة، ما يجعل معها المتلقى يبحث فيها عن انفعالاته ومقاصده الذاتية، إذ يظل العمل الفني على الدوام غامضا مهما أحدثه من انفعالات استتيقية في المتلقي، الذي يدخل معه في سجال الأخذ والعطاء، حسب التصور النفسي الفرويدي. فالعمل الفني (لوحة، منحوتة…) ينطوي على أشكال دلالية هي نتاج عن انفعالات استتيقية، لا تتولد إلا عبر التقاء عين المتلقي بالعمل بشكل مباشر. هندسة الحلم: يُشكل عبد الكريم الغطاس لوحاته بمختلف أسنادها وخاماتها ومفرداتها الجمالية، عبر تقسيمها إلى مستويين بصريين يحد بينهما خط أفق (الاستواء)، ينمحي فيه خط التلاشي. ما يجعل العمل عند هذا الفنان ليس تجريديا خالصا، بقدر ما هو يمزج بين التجريدي والتشخيصي في لملمح من الطمس المبهر. هذا التقسيم اللوحة يمنحها بعدا دلاليا وتأويليا متعددة، من حيث أنها تكسر العمق الاعتيادي عبر خلق عمقها البصري الخاص داخل تقطيع شكلاني وتعبيري. من أهم تلك القراءات التي تقدمها اللوحة لدى الغطاس، أنها مركبة من حيزين يدلان على البحر والسماء، كأننا أمام تقارب بين اسم الفنان ودلالة موضوعاته الجمالية، ف»الغطاس» يغطس بالمتلقي إلى أعماق الذات وهو يأخذه إلى إمكانية التخييل. إذ أن الخط الذي يحافظ عليه هذا الفنان دائما داخل جل أعماله ، والذي يقسم به العمل، يأتي باعتباره أفق التقاء السماء والبحر، أي أفق البصر الانساني. بينما تتخذ السماء المساحة الكبرى في اللوحة، فهي تحضر باعتبارها سديما تنبثق منه شمس أو جرم، وذلك عبر تلك الدائرة التي يعشق رسمها الفنان. في التقاء بالتصور الصوفي للدائرة من حيث أنها الأصل والمنتهى، وهي الشكل الأكبر دلالة على الذات الإلهية، من حيث أنها الشكل الكامل والمكتمل بلا زوايا ولا أضلاع، والذي تتوسطه نقطة (حقيقة الحقائق) والتي تبتعد عنها كل النقط بنفس المسافة. وهذا ذاته ما هو ملاحظ في شكل «سباحة الأفلاك» التي تحوم حول بعضها البعض في مركزية غالبة على حركية الكون واتساعه. من هذه الهندسية الصباغية، تحضر الدائرة باعتبارها شمس شموس عبد الكريم الغطاس، والتي يجعلها مركز التلاشي البصري في أعماله، أي باعتبارها النقطة التي تسقط فيها كل الخطوط وتذهب إليها وعندها. ومنها يتصاعد الضوء ليخلق تدرجا لونيا من الأعمق إلى الفاتح (من الأسفل إلى الأعلى)، من الماء إلى السماء، من العتمة إلى النور. في تقابل مع التصور الديني الرائي لكون «الأعلى» دائما منير ومشع، بل إنه دلالة الخلاص والفلاح، إنه منبع الشمس والنور ومآل الروح… من كل هذه التصورات يجعل الغطاس من اللون يتدرج من العتمة إلى النصاعة. ما يولد حلم يقظة، بالمعنى الباشلاري، في ذهنية المتلقي. من حيث أن العمل لديه هو تكامل بين فعل التخيّل والانفعال الاستتيقي، إنها بالتالي «شاعرية حلم اليقظة»، حيث يحضر العالم ليس باعتباره تمثلا لي بل إنه بالأحرى رغبتي، أي استقاطاتي الحُلمية عليه، فيغدو صلة وجودية تربط ذهنية المتأمل بالصور الجمالية المتولدة على تأمل العمل الفني. هذا ويضفي الغطاس على سُدمه الصباغية عمقا متولدا عن الكولاج Collage، وذلك عبر إلصاق مجموعة من المِزَقِ وقطع الكارتون والورق والخيوط… فالفنان يعمد إلى الكولاج والتركيب ليمنح أعماله عمقا خارج ما يتولد عن الصباغة وأطيافها وضوئها وظلالها. هذا ونجد عبد الكريم الغطاس متأثرا بالزرابي وأشكالها الهندسية والتزويقية، فهذا الفنان الطلائعي الذي اعترف بذلك في كثير حوارات، يرى كون العمل الفني الأول المغربي على حامل (المَنْسَج) هو الزربية. إذ أن مجموعة من اشتغالاته الهندسية فوق حيز اللوحة يشير إلى نسيج الزرابي، من حيث حضور تلك التدرجات اللونية وتعدد الألوان والاشتغال على الأشكال الهندسية من دائرة ومربع وغيرهما. الكتابة باللون: «الكتابة باللون» هو ما يمكن أن نصف به مجمل الأعمال الفنية لعبد الكريم الغطاس، من حيث أنها تأتي مؤلفة من أشكال دلالية هي عبارة عن رسم كاليغرافي يعتمد على انعراجات الخط ودورانه واستقاماته، كما أن الغطاس يذهب إلى اعتبار اللون لديه أحرفا، لكل لون حرف يُقابله. ما يجعل اللوحة «جملة تشكيلية» يكتبها الفنان بألوانه ليُجسّد انفعالاته الجمالية. ناقد جمالي