الصين بلد شاسع الأرجاء، متعدد القوميات والثقافات واللغات، ذو تاريخ عريق وصروح حضارية تشهد على عبقرية أمة، وتجسد ذكاء شعب يؤمن بقدرته على كسب التحديات وربح الرهانات في الماضي كما في الحاضر. الصين المعاصرة تعيش نهضة رائدة، قوامها التنمية الايكولوجية المستدامة، والانفتاح على العالم، وتمثل العلوم والتكنولوجيا الحديثة، شعارها « من أجل العيش في مجتمع رغيد» . الصين بلد مختلف، مجتمعا وفلسفة حياة ونمط عيش وحكامة سياسية. للقيادة رؤية مغايرة للديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان . الصين بلد له مشكلاته ومعضلاته، من قبيل الفقر، والتفاوتات المجالية والاجتماعية، والفساد، والتلوث، وله حظ من الجريمة والبغاء وغيرها من مثالب الاجتماع البشري. ولعل من عناصر قوة المقاربة الصينية لتجاوز معيقات النمو و نواقص مجتمع هائل ومعقد، اعتراف القيادة الصينية بتلك النواقص وامتلاك رؤية إستراتيجية للتطور التدريجي العقلاني في أفق بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وفق مخططات خماسية تتعبأ من أجل تنفيذها كل مؤسسات الدولة والمجتمع . ولذلك فإن زيارة الصين زيارة اجتمعت فيها متعة اكتشاف عالم جديد مع الإطلاع على تجربة فريدة لواحد من أكبر بلدان العالم، وأقواها اقتصاديا وعسكريا، وعضوا دائما في مجلس الأمن؛ وبالتالي فاعلا رئيسيا في السياسة الدولية، وفي صنع مستقبل البشرية. كانت زيارة استكشافية رائعة رفقة أناس رائعين، كما كانت مناسبة للإفادة والاستفادة عبر ندوات فكرية، ومحادثات سياسية، وزيارات ميدانية، وعلاقات إنسانية متعددة الأبعاد؛ هي زيارة تفاعلت معها فكريا وإنسانيا، ورسخت لدي الإيمان بالاختيار الاشتراكي وبالفكر الاشتراكي في صيغته المغربية كما صاغه المهدي وعمر وعبد الرحيم وعابد الجابري، أي فكر اشتراكي ديمقراطي، منطلق من عمق الحضارة المغربية وقيمها النبيلة . ولأنني حضيت بتمثيل حزب القوات الشعبية ضمن الوفد المغربي، اعتبرت أنه من واجبي اقتسام خلاصات الزيارة مع غيري من المناضلات والمناضلين وكل المغاربة .. فكان هذا المؤلف المتواضع.
لم أحلم أبدا بزيارة أرض الرفيق ماو، وبلاد المليار ونصف من ساكنة المعمور، رغم شغفي بالأدب الصيني واطلاعي منذ شبابي على أهم ما كتبه زعيم الثورة الصينية : « في التناقض «،» في الممارسة»، وغيرها من الكراسات التي حسبناها زمن انتصار الإيديولوجيا مرجعا لا غنى عنه لفهم التاريخ والمجتمع. في الطريق إلى الصين غير أن الأحلام الجميلة قد تتحقق تحت أنوار الشمس بدل دياجير الليل ودفئ الفراش … ذات صباح من شهر سبتمبر 2017 ، جاءني صوت الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، الأخ المناضل إدريس لشكر، ليخبرني بأن القيادة الحزبية قد وافقت بالإجماع على تكليفي إلى جانب الأخ العزيز والاتحاد الغيور محمد إنفي، بتمثيل الحزب ضمن الوفد المغربي الذي سيقوم بزيارة استطلاعية للصين. شرح لي الكاتب الأول حيثيات الاختيار وأسباب التكليف، فلم أجد بدا من الانضباط وقبول المهمة؛ وما أن انتهت المكالمة حتى هزني شعور قوي بثقل المسئولية وجسامة المهمة، خاصة وأنها المرة الأولى التي يكلفني فيها الحزب بمهمة دبلوماسية لدى دولة عظمى وحزب عتيد يحكم إمبراطورية صاعدة … استنهضت كل تراثي الماركسي/ اللينيني/ الماوي، واستعنت بالفقيه « غوغول» للإطلاع على أكبر قدر من المعطيات حول الصينالجديدة، تاريخا وجغرافيا ومجتمعا وسياسة، وسارعت إلى الاتصال بالأخ «إنفي محمد» بمكناسة الزيتون للتنسيق والتشاور، واقترحت عليه منذ البداية أن نجعل من الزيارة فرصة لتأليف كتاب حول الصين… كانت استجابة الرجل عفوية وغير مشروطة، وأوحت لي كلماته الطيبة بأنه مرتاح لمرافقتي، وأن مقامنا المشترك بالصين سيكون فرصة غالية لتبادل الأفكار حول أوضاع حزبنا وبلادنا، وغيرها من القضايا الفكرية والسياسية. سافرت إلى الرباط قصد الحصول على التأشيرة، ففوجئت بغياب الأخ إنفي وتعويضه بالأخت بديعة الراضي عضو المكتب السياسي التي تربطني بها صلة ود ومحبة وذكريات قديمة، … وكانت بداية الرحلة . بمطار محمد الخامس، التأم الوفد المغربي، المكون من مندوبي الإتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية، والأصالة والمعاصرة، والعدالة والتنمية، والأحرار، والحركة الشعبية، والإتحاد الدستوري، من بينهم خمس نساء.التقينا بقاعة الإركاب، وتعارفنا في زمن وجيز، من حيث الجهات، والانتماءات، والمسؤوليات الحزبية؛ وكان بين بعضنا جدال سياسي ومناوشات على سبيل المزاح أحيانا، ومن باب الانتقاد الملفوف في عبارات ملبسة أحيانا أخرى. لم أسع إلى خوض غمار مثل ذاك النقاش الذي اعتبرته دوما عقيما ويدمر العلاقات بين الناس أكثر مما ييسر التواصل. لذلك بادرت إلى القول: «مهما تكن انتماءاتنا واتجاهاتنا ، فنحن منذ الآن وإلى أن نعود من الصين نمثل بلدنا المغرب، ويجب أن نراعي المشترك ولا نخوض في القضايا الخلافية، وإن حدث يلزمنا احترام بعضنا البعض»، لم أجد من أعضاء الوفد سوى الآذان الصاغية والذوات الفاهمة والمتفهمة، ولعل ما ساعد على ذلك وجود أشخاص عرفتهم منذ سنوات في مواقع ومناسبات مختلفة . أمتطينا طائرة عملاقة تابعة للخطوط الجوية التركية، وارتمى كل في مقعده في اتجاه اسطنبول، سبع ساعات قضيناها في الأجواء العليا ، ربما خارج الجاذبية ، لم أنم أثنائها إلا قليلا، في حين غط بعض جيراني في نوم عميق، وركز الآخرون على مشاهدة أفلام مختلفة. كذلك فعلت بداية الرحلة قبل أن أنشغل بتتبع مسار الطائرة على الشاشة الخلفية للأريكة الأمامية ،من الدارالبيضاء إلى وجدة، فالساحل الجزائري إلى تونس، فالبحر الأبيض المتوسط إلى جنوبإيطاليا، إلى تركيا، خالجتني خلال الرحلة أسئلة طالما شغلتني كما شغلت كثيرا من ذوي الاهتمام السياسي عامة والاشتراكيين خاصة: ما هي خصائص النموذج الاقتصادي والاجتماعي الصيني؟ وما سر نجاح الصين في تحقيق نمو اقتصادي مضطرد ومتسارع جعلها تتبوأ مكانة متقدمة بين أقوى اقتصاديات العالم؟ وكيف يتعايش ضمن هذا النموذج الاختيار الاشتراكي المعلن مع قوانين اقتصاد السوق والانفتاح على النموذج الرأسمالي؟ وهل يمكن التوفيق بين الليبرالية الاقتصادية ونظام الحزب الوحيد الذي يتبنى الاشتراكية والشيوعية؟ وأسئلة فرعية أخرى اختصرت عليَ الرحلة، وجنبتني هوس سقوط الطائرة أو انفجارها. كان مطار « أتاتورك»َ غاصا بوجوه تمثل كل الأجناس والجنسيات وسط إجراءات أمنية مشددة حولت غادات صبوحات إلى لبوءات مهيأة للافتراس. إنه زمن التطرف والإرهاب، وتعميم الكراهية بين هويات دموية قاتلة ، كيف لا ونحن على أميال معدودة من مذابح داعش في العراق وسوريا، وبؤر التصدع الإثني والحروب الطائفية. التقطنا الأنفاس، بعد أن تناول كل منا ما اشتهاه من أطباق أو مشروبات، ثم استأنفنا الطيران نحو بكين. كان الليل قد أرخى سدوله على الكون، وكان التعب قد بلغ مني مبلغه أرغمني على النوم لفترة قبل أن أعاود تتبع مسار الطائرة من تركيا إلى أرمينيا، فكازاخستان ومنغوليا، إلى صحراء الصين، إلى أن وصلنا بكين. كانت أنوار شموس الشرق الأقصى قد عمت الجبال والوهاد وأضاءت الغابات الكثيفة وضفاف الأنهار الجارية …. مطار بكين الدولي ساحة لا نهاية لها، تعج بمئات الطائرات متعددة الجنسيات، منها من يقلع ومنها من يهبط، وأخرى تربض على أرضية رمادية في صمت أو هدير… نزلنا درج الطائرة وركبنا ترامواي أسرع بنا نحو باب المطار حيث كان في استقبالنا رائد ولبيبة صحبة سيدتين وقورتين تجاوزتا الأربعين من العمر. قدم رائد نفسه على انه مرافق الوفد صحبة لبيبة، وأنهما اختارا اسمين عربيين لتيسير التواصل مع أي وفد قادم من الوطن العربي، وأفصح أنه ولبيبة يعملان ضمن الدائرة السياسية لشمال أفريقيا، وعبر عن سعادته لأن يكون مرافقا لنا طيلة تواجدنا بمقاطعة غوانشي، وعن استعداده للتفاعل معنا و تلبية كل ما يستطيع من مطالبنا. كان رائد يتكلم لغة عربية فصيحة وإن كان نطقه لبعض الحروف محوا لها أو أحيانا تحريفا للمعنى، وقد أوضح أنه تعلم اللغة العربية بالجامعة الصينيةببكين حيث تدرس اللغات السبع الأشهر في العالم ، ثم قدم رائد البرنامج العام للشق الأول من الزيارة. واصلنا السفر إلى مدينة نانينغ التي وصلناها عند منتصف الليل وقد نال التعب من حماس كثير من أعضاء الوفد، الذين سعوا دون تريث إلى ولوج غرف الفندق الجميل الملحق بالمدرسة الحزبية للجنة الحزب الشيوعي الصيني بمنطقة غوانشي الذاتية الحكم. حرص مرافقا الوفد على سحب جوازات السفر قبل تسليمنا مفاتيح الغرف وبرنامج الزيارة، وأوصانا رائد بضرورة احترام المواعيد، وباختيار رئيس الوفد المغربي ليكون المخاطب الرسمي لدى الجانب الصيني. رغم التعب، لم يفت بعض أعضاء الوفد جس نبض الآخرين حول الشخص المناسب لرئاسة الوفد المغربي . نزلت الغرفة 13 التي ما أن تجاوزت عتبتها حتى ملأني شعور قوي بالراحة والارتياح، غرفة رائعة حقا ، ليس فقط لأنها غرفة رحبة تحتوي أثاثا من الطراز الرفيع وفراشا وثيرا وكل وسائل النظافة والانتعاش، وإنما أيضا للطريقة التي رتبت بها الأشياء كلها. لم يغفل مسيرو الفندق أي شيء يمكن للمقيم أن يحتاجه، بدءا بمظلة تعانق أخدود الباب إلى أخفاف ناعمة، إلى علبة تحوي إبرة وخيوطا ودبوسا، فضلا عن أدوات إعداد مشروب ساخن. خلدت لنوم عميق، وكذلك فعل أعضاء الوفد جميعا إذ خيم الصمت على ممرات الفندق وأطفئت الأنوار، وكان من حسنات ذلك أننا كنا في الموعد صباحا، مما ترك انطباعا جيدا لدى المرافقين الصينيين. ذاك الصباح تناولنا الفطور بمطعم « تشوان شين يوان» الذي يضم جناح : « فطور إسلامي»، وقد كتبت على جداره: « لا إلاه إلا الله محمد رسول الله «. أشار رائد أن كل مكونات الفطور حلال، والحقيقة أننا وجدنا أنفسنا أمام أطباق غريبة لا نعلم أسماءها وكثيرا من مستلزماتها … تبادلنا التعليقات، والتهم كل منا ما استطاع إليه ذوقا وتذوقا، وعيون الصينيين ترقب استجاباتنا؛ وتحاول لبيبة أن تقدم لنا الأطباق المختلفة، مبرزة مزاياها الغذائية وطرق إعدادها. أنهينا الفطور، فكان اختيار رئيس الوفد. فاجأني أعضاء الوفد بإجماع على شخصي المتواضع لأتشرف بتحمل مسؤولية قيادة الوفد المغربي، لاعتبارات أجملوها في سني، وتجربتي السياسية، ومعرفتي بالفكر الشيوعي، وعلاقات الإتحاد الاشتراكي بالحزب الشيوعي الصيني. وإني إذ أشكر جزيل الشكر جميع أعضاء الوفد المغربي على الثقة التي وضعوها في شخصي، فلابد من الإشارة ضمن هذا السياق أني اعتبرت موقفهم النبيل ذاك تكليفا وطنيا يقتضي انجازه روحا عالية من المسؤولية والحكمة والتبصر، اتجاه كل مكونات الوفد من جهة، واتجاه مسئولي الحزب الشيوعي الصيني والحكومة الصينية من جهة ثانية . اعتبرت أن نصيبي من المسئولية في إنجاح الزيارة، سياسيا وإعلاميا وتواصليا، نصيب أوفر، وأن أحد شروط النجاح المطلوب صيانة تماسك الوفد وتضامنه في مناخ إنساني رفيع ووعي وطني ثاقب يتيح للجميع تجاوز ذاته وانتمائه الحزبي ونحن فوق أرض الوطن.