صدرت الطبعة الثانية لكتاب «الجزائريون في تطوان خلال القرن 13ه/19م- مساهمة في التاريخ الاجتماعي للمغرب الكبير»، لمؤلفه الأستاذ إدريس بوهليلة، سنة 2015، وذلك في ما مجموعه 180 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويعد هذا العمل تتويجا لمسار أكاديمي رفيع وممتد في الزمن، انشغل –فيه- المؤلف بالبحث وبالتنقيب في مكونات البنية السوسيوديمغرافية لمدينة تطوان خلال القرنين الماضيين، ليس -فقط- على مستوى التوثيق الحدثي المتواتر للوقائع وللسياقات ولظروف التكون التاريخي، ولكن –أساسا- على مستوى تفكيك المضامين الثقافية والحضارية والإثنية التي صنعت معالم التميز داخل الهوية المحلية لمدينة تطوان. وإذا كان العديد من الباحثين قد اهتموا بالبحث في ظروف تشكل المكون الأمازيغي أو المكون العربي أو المكون الأندلسي أو المكون العبري داخل فضاءات مدينة تطوان، فإن الاهتمام بالبحث في أصول حضور المكون الجزائري وأشكال تأثيراته المتقاطعة في البيئة المحلية، لم ينل –في حدود علمنا المتواضع- ما يكفي من البحث ومن التنقيب، لاعتبارات متعددة، لعل أبرزها مرتبط بانسيابية ظاهرة التنقل بين المغرب والجزائر خلال مرحلة ما قبل الهيمنة الاستعمارية على المنطقتين، مما كان يندرج في إطار التواصل المجتمعي الاعتيادي الذي لم يكن يضع أي حواجز ولا أي تمايزات بين مكونات الواقع المجالي بالدولتين. لذلك، فإن هذا التنقل بين المجالين ظل يحمل صبغة اعتيادية اندرجت في سياق حيوية المجتمع الواحد/المتعدد الذي كانت تتقاطع خصوصياته فوق المجالين المغربي والجزائري بدون أي مظاهر تنافرية أو تأثيرات جانبية. ومع وصول الفرنسيين للمنطقة عقب احتلالهم للجزائر سنة 1830، تغير الوضع بشكل تام، فأضحت ظاهرة التنقل بين الجزائر والمغرب تحمل صبغة الإكراه المرتبط بتبعات التهجير القسري لفئات سكانية لم تقبل الاستسلام للواقع الكولونيالي، فاختارت الهجرة نحو المغرب بديلا عن سوء حال واقع بلادها خلال القرن 19. ولقد استطاع الأستاذ إدريس بوهليلة توضيح آفاق البحث بهذا الخصوص، من خلال متواليات مسترسلة من الأسئلة المنهجية المؤطرة للبحث وللتنقيب، عندما قال في كلمته التقديمية: «في ظل هذه الظروف العصيبة من تاريخ المغرب المعاصر، كان لابد وأن يثير الوجود الجزائري على أرض المغرب إشكالية تفرعت عنها جملة من الأسئلة والاستفهامات. نستجزئ منها كيف تعامل المخزن المغربي، ممثلا في السلطان المغربي مولاي عبد الرحمان بن هشام، مع ظاهرة الهجرة والوجود الجزائريبتطوان؟ وما هو موقفه منها؟ وكيف فسرها؟ وما هو الموقف الذي تبناه بعض أهالي تطوان من هذه الظاهرة؟ وإذا كان للطرفين المغربيين موقفا موحدا بينا، عبرت عنه الوثائق المخزنية، لسان حال السلطان، والوثائق والكتابات التاريخية، فكيف كانت بالمقابل، مواقف الجزائريين، إزاء الحروب المفروضة على المغرب الأقصى والاحتلال الأوربي، وفي مقدمته إسبانيا وفرنسا، من خلال ما خلفوه من كتابات، والتي تؤشر على مدى وطنيتهموقوميتهم العربية الإسلامية؟ وما هي مواقفهم تجاه نظام الحكم المغربي، والتي تعبر عن مدى تشبثهم بالسلطان وسيادته؟ وما مدى اندماجهم في الوسط الاجتماعي والثقافي بتطوان؟ وما هي درجة تأثيراتهم، وأنواعها، وآثارهم الباقية منها بالمدينة؟وفي الاتجاه المعاكس نتساءل عن الطرف الآخر، ونعني به كتاب الاستعمار، ونقول: كيف فسر منظرو الاستعمار، مفهوم الهجرة كما مارسها الجزائريون عندما حطوا رحالهم، في مدن وقرى المغرب سنة 1246ه/1830م وما بعدها؟ وكيف حاولوا توظيفها لتحقيق مصالح دولتهم الفرنسية، وبث التفرقة بين أبناء المغرب الكبير والتي مازالت آثارها، تؤثر سلبا في سياسات حكامه إلى الآن…» (ص.10). وللاستجابة لأفق هذه الأسئلة المهيكلة للبحث، حرص المؤلف على توزيع مضامين كتابه بين سبعة فصول متكاملة، اهتم في أولاها بتقييم حصيلة عطاء الوثائق المخزنية الخاصة بهجرة الجزائريين إلى تطوان سنة 1830، وانتقل في الفصل الثاني لتدقيق النظر في مواقف النخبة الجزائرية التي استقرت بالمغرب من حرب تطوان. وفي الفصل الثالث، اهتم المؤلف بتجميع المعطيات التوثيقية الخاصة بالعائلات الجزائريةبتطوان من خلال كتاب «عمدة الراوين في تاريخ تطاوين» لأحمد الرهوني، وخصص الفصل الرابع للحديث عن تركيبة التشكيلة الاجتماعية للجزائريين في تطوان خلال القرن 19. وانتقل في الفصل الخامس للتعريف بالأحياء الجزائريةبتطوان خلال القرن 19، مع التركيز على إبراز علاقة الجزائريين بالعمارة والتعمير في تطوان. وفي الفصل السادس، تتبع المؤلف بعض مظاهر التأثيرات الجزائرية العثمانية في الحياة الثقافية والاجتماعية لمدينة تطوان، وهي التأثيرات التي لاتزال الكثير من مظاهرها قائمة إلى اليوم، سواء كشواهد مادية منتصبة داخل الفضاء المحلي العام، أم كتراث رمزي ولامادي يجد تعبيراته في الكثير من النظم المعيشية للسكان وفي أنساقهم الفكرية والرمزية المشتركة، ولعل هذا ما سعت إلى إبراز أبعاده العامة مضامين الفصل السابع والأخير، عندما ركزت على إبراز مظاهر إسهامات الجزائريين الثقافية في تطوان خلال القرن 19. وبذلك، استطاع الكتاب تقديم نبش عميق في إحدى روافد الهوية المحلية لمدينة تطوان المعاصرة، مما يعزز مكانة البحث العلمي الرصين في جهود استثمار عطاء التاريخ لفهم تحولات الواقع ولبلورة شروط استيعاب عناصر الخصب والتميز والتنوع التي صنعت لتطوان ألقها المتميز.. تطوان التاريخ والأصالة.. تطوان الرقي الحضاري والتساكن المستدام.