خلال الربيع العربي، ابتعدت قطر عن دورها التقليدي في السياسة الخارجية باعتبارها وسيطاً دبلوماسيّاً، لقبول التغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودعم الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية. رأى اللاعبون الإقليميّون أن قطر تبالغ في مقاربتها، وازداد التشكيك في دوافع الدوحة السياسية. تتأقلم القيادة القطريةالجديدة، التي استلمت سدة الحكم في يونيو 2013، مع هذا الواقع عبر العودة إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر براغماتيكية، ومعالجة تداعيات دعمها للحركات الإسلامية في المنطقة. صعود قطر وردّ الفعل الإقليمي العنيف يرتبط استقرار قطر السياسي وثروتها الاقتصادية بالإخوان المسلمين، وقد منحتها سمعتها الدولية كوسيط الثقةَ لتأدية دور تدخّلي خلال الربيع العربي. أيدت القيادة قوى سياسية إسلامية صاعدة في البلدان التي تمرّ في مراحل انتقالية، وقادت الردود الإقليمية تجاه الاضطرابات في ليبيا وسورية، تحت شعار البحث عن حلول عربية للمشاكل العربية. كان هناك عدم تطابق بين نوايا القيادة القطرية وبين قدرات قطر الدبلوماسية والبيروقراطية: افتقرت قطر إلى الموارد الإدارية والميدانية لاستخدام نفوذها من أجل تحقيق نتائج ملموسة. واجه الأمير الجديد، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ضغوطاً متنامية من جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمعاكسة دعم أسلافه للإخوان المسلمين وفروعها المحلية في الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية. العودة إلى الأصول ميزة قطر النسبية في الوساطة هي قدرتها على التوسّط في المفاوضات غير المباشرة واتصالات القنوات الخلفية بين أعداء لدودين، وعلى تحقيق التوازن في العلاقات بين مجموعة من الخصوم الذين تجمعهم عداوة متبادلة. أي عودة إلى سياسة الدبلوماسية الهادئة في الغرف المغلقة ستعزز رصيد قطر باعتبارها محاورة فعالة بين أطراف متنازعة يصعب عليها المشاركة في حوار مباشر. يمكن أن تؤدّي قطر دوراً بارزاً كقناة خلفية للتوسّط بين مجموعات قد يعجز المسؤولون الأميركيون عن الوصول إليها مباشرة، إلّا أن مشاركتها في العمليات السياسية بنّاءة. مع أن قطر على الأرجح لن تستعيد بالكامل سمعتها ماقبل الربيع العربي كوسيط دبلوماسي، ينبغي على المسؤولين الأميركيين والقطريين أن ينظروا في كيفية المشاركة بشكل منتج في مجموعة من القضايا الشائكة، مثل الحوار مع إيران حول الملف النووي، والاستقرار السياسي في أفغانستان عقب انسحاب القوات الدولية في العام 2014، والمحادثات مع المجموعات الإسلامية في سورية ومصر، إضافة إلى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. لاستعادة سمعتها كوسيط وللتغلّب على قدرتها المؤسسية المحدودة، قد تحتاج الدوحة إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء والسماح للآخرين بقيادة الدفة ? وهو أمر قد لاترغب القيادة القطرية في القيام به. مقدمة لعبت قطر دوراً حيوياً في الأشهر الأولى الصاخبة من الربيع العربي. إذ هي بلورت، عبر شبكة الجزيرة الفضائية، سرديات الاحتجاج البازغة، كما أنها عبأت الدعم العربي، بداية لصالح التدخّل الدولي في ليبيا في آذار/مارس 2011، ثم لاحقاً لفرض العزل الدبلوماسي على نظام بشار الأسد في سورية. وفي خضم مرحلة من الغموض والشكوك، قدّمت قطر صورة لبلد مستقر ومزدهر، حتى حين تمدّدت الاحتجاجات إلى دول مجلس التعاون الخليجي. علاوة على تعزيزه وتمليعه صورة قطر في أنحاء العالم، أشاع هذا الاستقرار الثقة في صدور قادة البلاد ? الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس الوزراء حمد بن جاسم آل ثاني- وحفّزهم على دعم قوى الإسلام السياسي الصاعدة في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية، وأيضاً على تزعم التفاعل الإقليمي مع الانتفاضة في ليبيا وسورية تحت شعار السعي إلى إيجاد حلول عربية للمشاكل العربية. في خضم مرحلة من الغموض والشكوك، قدّمت قطر صورة لبلد مستقر ومزدهر، حتى حين تمدّدت الاحتجاجات إلى دول مجلس التعاون الخليجي. امتلكت قطر، على وجه الخصوص، القدرة على تحويل الكلمات إلى أفعال، لأنها تسنّمت الرئاسة الدورية للجامعة العربية في الفترة 2011-2012، وشعرت براحة أكبر من الدول المجاورة إزاء رياح التغيير السسياسي في الدول التي لفح وجهها الربيع العربي. مثل هذه السياسات توّجت عقداً ونصف العقد من السياسة الخارجية القطرية. ففي السنوات التي سبقت الربيع العربي، راكم قادة قطر شهرة متنامية بوصفهم وسطاء دائمين، بهدف توفير مساحة ومكانة لهم في الدبلوماسية الإقليمية.1إضافة إلى ذلك، مكّن القرار بعيد النظر، الذي اتُّخِذ في أوائل التسعينيات لبناء البُنى التحتية للطاقة، قطر من مراكمة وإطلاق أشكال معتبرة من القوة الناعمة. فالعقود طويلة الأمد الخاصة بالغاز الطبيعي المسال، ربطت حاجات الشركاء الخارجيين إلى أمن الطاقة بالاستقرار الداخلي في قطر، هذا في حين كانت تُستثمَر تراكمات ضخمة من الرساميل في كلٍّ من قطر والخارج في شكل استحواذات لها رنين واستثمارات تجذب الانتباه. وقد سمحت العقود طويلة الأمد لقطر بتنويع علاقاتها الدولية، من خلال جعل مروحة من البلدان لها مصلحة في الاستقرار القطري. وشكّل تقاطع هذه العوامل والتوجّهات أُسُس صعود قطر كقوة إقليمية ذي باعٍ دوليٍّ منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأضفى الواقعية على الزعم بأنها أحد مراكز الشرق الأوسط الجديد. بيد أن النجاح الأوّلي لقطر في تشكيل التفاعل الإقليمي مع الانتفاضات، لم يكن مقدَّراً له أن يستمر. فمع تباطؤ عمليات التغيير في العالم العربي، بدأ أمير قطر الجديد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يواجه مروحةً مختلفةً من التحديات لم يعاينها سلفه، خصوصاً بعد إعادة تثيبت السلطوية في مصر على إثر إطاحة حكم الإخوان في تموز/يوليو 2013. وفي ضوء الحملة المتواصلة التي شنّتها السعودية والإمارات العربية المتحدة لتقويض جماعة الإخوان المسلمين في مصر مع تفرّعاتها الإقليمية، تمّ وضع الدعم القطري لإخوان مصر تحت الرقابة المكثّفة في الرياض وأبو ظبي. وتواجه حكومة قطرالجديدة الآن المهمة الصعبة المتعلقة بتخفيف دعم الحكومة السابقة العلني للإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه إعادة تحديد طبيعة انخراطها مع الشركاء الإقليميين والدوليين. صحيح أن النخب الجديدة في قطر تقول إن شيئاً لم يتغيّر في أعقاب إطاحة الحكومة المدعومة من الإخوان في مصر، إلا أن سلوكها على المسرح العالمي بعد حزيران/يونيو 2013 يشي بعودةٍ إلى مقاربات أكثر حذراً في المنطقة. فقد سعى الأمير تميم إلى موازنة عملية الحفاظ على استقلالية قطر في صنع القرار، مع اتخاذ إجراءات حصيفة لبناء الثقة التي لايزال يتعيّن عليها تهدئة روع وقلق زميلاتها في مجلس التعاون الخليجي. تواجه حكومة قطرالجديدة الآن المهمة الصعبة المتعلقة بتخفيف دعم الحكومة السابقة العلني للإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه إعادة تحديد طبيعة انخراطها مع الشركاء الإقليميين والدوليين. وهكذا، وفي حين أن القيادة القطرية في ظل الأمير تميم عدّلت تكتيكاتها، إلا أن الحكومة لاتزال تواجه ردود فعل مضادّة على سياساتها إزاء الربيع العربي. وإذا ما أرادت قطر تجاوز إرث الربيع العربي واستعادة سمعتها كوسيط ودبلوماسي، فسيكون عليها أيضاً التخلّي عن القيادة الإقليمية، والعمل بدلاً من ذلك كمسهّل للحوار والمفاوضات الهادئة بين الأطراف التي لاتستطيع الانخراط في اتصالات مباشرة مع بعضها البعض. وهذا يوفّر فرصاً جديدة للتعاون الأميركي مع قطر، فيما تدخل عمليات الانتقال السياسي عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مرحلة جديدة ملتهبة وعصية على التنبؤ. سياق الصعود القطري يعود صعود قطر إلى مواقع الأهمية الدولية إلى امتلاكها ثلث أكبر احتياطي في العالم من الغاز الطبيعي المسال، وإلى استخدامها سياسات صُمِّمت لتفعيل هذا الاحتياطي. هذه السياسات ُطوِّرت ونُفِّذت إبان عهد الأمير حمد (1995- 2013) ووزير خارجيته (ورئيس الوزراء بين 2007 و2013) النابض بالحيوية الشيخ حمد بن جاسم. فقد برز هذان الرجلان كمهندسَي استراتيجية التدويل الجريئة التي وضعت قطر على الخريطة بوصفها لاعباً إقليمياً ديناميكياً. كما عكست الخطوات التي اتّخذاها مروحةً من التوجّهات العميقة التي تكمن في أساس السياسات الأمنية والخارجية القطرية, أبرزها التحديات المتعلقة بضمان الاستقرار في منطقة ملتهبة، ومواجهة نقاط الضعف الكامنة في دولة صغيرة محاطة بجيران أكبر وأكثر قوة. جوهر أمن الطاقة القطري صعود قطر المثير إلى المواقع البارزة يعود إلى حدّ كبير إلى احتياطي الغاز الطبيعي المسال. إذ تبنّت البلاد سياسة خارجية نشطة وحاولت نسج توازن بين مصالح متنافسة، بسبب حاجتها إلى حماية أمن هذا المورد الطبيعي. لقد أنفقت قطر أكثر من 120 مليار دولار على البُنى التحتية للغاز المسال، غالبيتها كديون من المصارف وشركاء صناعيين كأكسون موبل.2 أول شحنة من الغاز المسال تمّت العام 1995. وبحلول العام 2006، كانت قطر قد تجاوزت إندونيسيا كأكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم. وفي كانون الثاني/يناير 2010، وصل الإنتاج إلى الهدف الحكومي الإنمائي وهو 77 مليون طن في السنة. وحينها كانت قطر تحوز على مابين 25 إلى 30 في المئة من الصادرات العالمية للغاز الطبيعي المسال.3 منحت ثروات الموارد الضخمة هذه، جنباً إلى جنب مع الحجم الصغير لعدد السكان الأصليين، المسؤولين القطريين فسحة واسعة من حرية المناورة، وحرّر الإمارة من الضغوط الاجتماعية-الاقتصادية التي يعاني منها جيرانها الأكبر في المنطقة. ومع الوقت، ترجم هذا نفسه في شكل مخزون مهم من القوة الناعمة، وعزّز شهرة قطر الدولية. تزويد قطر للمملكة المتحدة والصين بالغاز، يُظهِر بشكل جليّ المدى الذي طوّرت فيه قطر علاقات الاعتماد المتبادل مع شركائها حول العالم. بدأ شحن الغاز الطبيعي المسال عبر السفن من مدينة رأس لفان الصناعية القطرية إلى محطة ساوث هوك في ميلفورد هافن في الويلز، في آذار/مارس 2009. ومع حلول العام 2011، كانت المملكة المتحدة قد أصبحت مُعتمِدة بشكل كبير على واردات الغاز القطري لتلبية احتياجاتها من الطاقة المحلية.4 وبالمثل، وقَّعت شركة قطر للغاز في العام 2009 اتفاقيةً لمدة 25 سنة لبيع 5 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال في العام إلى كلٍّ من شركة China National offshore corporation (CNOOC) وشركة Petrochina. وقد أوضح فو تشنغيو ، Fu Chengyu، رئيس شركة CNOOC، أهمية هذه الرابطة بعيدة المدى، حين لاحظ كيف أن الصين «يمكنها ضمان وجود سوق يعتدّ به إلى أمد طويل لقطر، فيما يكون في وسع قطر أن تكون مزوّداً مستقراً للطاقة للسوق الصينية».5 منحت ثروات الموارد الضخمة هذه، جنباً إلى جنب مع الحجم الصغير لعدد السكان الأصليين، المسؤولين القطريين فسحة واسعة من حرية المناورة، وحرّر الإمارة من الضغوط الاجتماعية-الاقتصادية التي يعاني منها جيرانها الأكبر في المنطقة. علاوة على خلق روابط مستدامة مع الاقتصادات الصناعية والناشئة، سعى أمير قطر ورئيس الوزراء إلى إقامة توازن دقيق في العلاقات الإقليمية والخارجية. إذ أن إرث تعبئة المجتمع الدولي ردّاً على الغزو العراقي للكويت العام 1990، ترك بصماته واضحةً على تفكير حكام قطر، وفي الواقع في عقول كل قادة الخليج. فعلى الرغم من أن الروابط الأمنية الوثيقة مع واشنطن عنت، بدايةً، اعتماداً كبيراً على راعٍ واحد ? الولايات المتحدة ? لضمان الأمن الخارجي (أساساً من خلال بناء قاعدة العديد الجوية واستقبال القيادة المركزية الأميركية بعد العام 2003)، إلا أن تطوير قطر لإنتاجها من الغاز الطبيعي مكنّها من تنويع علاقاتها. فبسبب أهمية الغاز الطبيعي القطري بالنسبة إلى أمن الطاقة في بلدان عدة حول العالم من خلال اتفاقات بعيدة المدى، بات للعديد من اللاعبين الخارجيين مصلحة في الأمن القطري والاستقرار الإقليمي. كما أن تحرُّك قطر كي تكون على رادار عملية صنع القرار الإقليمي والدولي، جاء بعد فترة من الاحتكاكات الكبيرة والتوتّرات الحدودية مع السعودية في أوائل التسعينيات.6 فتح كوّة إقليمية كوسيط تحوّلت الوساطة الدبلوماسية إلى عنصر رئيس من عناصر السياسية الإقليمية المستقلة والتجديدية لقطر، ماميّزها عن جيرانها في كلٍّ من الخليج ومنطقة الشرق الأوسط ككلّ. وهذه الوساطة باتت مَعلَماً بارزاً في الدستور القطري الذي أُقِرّ في نيسان/إبريل 2003، حيث نصّت المادة السابعة على وجه الخصوص على أن السياسة الخارجية القطرية «تقوم على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليَّين، عن طريق تشجيع فضّ المنازعات الدولية بالطرق السلمية». وقد عكس وضع مبدأ الوساطة في قلب أهداف السياسة الخارجية القطرية كلاًّ من خصوصية دوافع القيادة القطرية وإداركها بأن مثل هذه الخطوة توفّر فرصة للدفاع بشجاعة عن استقلالية البلاد على المسرحَين الإقليمي والدولي.7 وبسطَ الأمير الأُسُس المنطقية لهذا التوجّه في أيلول/سبتمبر 2007، حين أبلغ الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن «النزاعات الرئيسة في العالم أصبحت كبيرة للغاية بحيث لاتستطيع دولة واحدة معالجتها بنفسها».8 أما الأمثلة الأكثر بروزاً عن الوساطات القطرية فكانت في اليمن (2008-2010) ولبنان (2008) ودارفور (2008-2010).9 كما عملت الدوحة كذلك على حلّ نزاعات بين السودان وتشاد (في 2009)،10 وبين جيبوتي وأريتريا (في 2010).11 وخلال الفترة التي سبقت مباشرة الربيع العربي، تميّز صانعو القرار القطري بالانخراط الشخصي والعلَني للأمير ورئيس الوزراء، ولحلقة صغيرة من صانعي القرار، هذا إضافة إلى تخصيص موارد مالية كبيرة للتأثير على محصّلات الوساطات. وقد سهّلت هيكلية دائرة صنع القرار الصغيرة والمركزية إلى حدّ كبير على المسؤولين القطريين أن يضعوا في تصرّفهم معاً الموارد السياسية والاقتصادية من خلال الوزارات والمؤسسات التي تملكها الدولة. وهذا ساعدهم على إبراز نفوذهم في المناطق التي يتدخّلون فيها. كل هذه العوامل تقاطعت كي تحقّق لقطر شهرة متنامية كلاعب قادر على الإنجاز في الشؤون الدولية والإقليمية. قد عكس وضع مبدأ الوساطة في قلب أهداف السياسة الخارجية القطرية كلاًّ من خصوصية دوافع القيادة القطرية وإداركها بأن مثل هذه الخطوة توفّر فرصة للدفاع بشجاعة عن استقلالية البلاد على المسرحَين الإقليمي والدولي. ومع ذلك، وقفت في وجه هذه المزايا نقاط الضعف القطرية، خاصة منها المزاوجة غير الملائمة بين نوايا القيادة وبين القدرات الدبلوماسية. إذ أن البلاد تفتقد إلى سلك دبلوماسي كبير ومحترف قادر على ترجمة الانخراط الأوّلي إلى تنفيذٍ مستدامٍ للاتفاقات.12 فهذا السلك صغير للغاية، ولذا لايستطيع متابعة أو ملاحظة التقدّم نحو التنفيذ فور انتهاء المفاوضات. وفي غياب «اليوم الذي يلي»، فإن الوساطة القطرية لحل أزمات سياسية معقّدة كما في لبنان والنزاع الداخلي في دارفور، كانت في الواقع تدريباً على جَسر الانقسامات السطحية أكثر منها جهداً لمعالجة الجذور البنيوية الأعمق للنزاع أو للمساهمة بشكل ملموس في بناء السلام، وفي عملية التعافي في مرحلة مابعد النزاع.13 لاعب صغير في مسرح كبير علاوة على احتياطيها من الغاز الطبيعي وتشديدها على الوساطة، أدّت التغييرات الواسعة في النظام الدولي إلى تسهيل بروز قطر كلاعب قوي ويزداد قوة. وعلى وجه الخصوص، جعلت العولمة من الأسهل على الدول الصغيرة أن تقفز فوق وزنها، وأن تستعرض/وتمارس أشكالاً جديدة من القوة الناعمة.14 وهكذا، فإن الطبيعة المتحوّلة لمفهوم القوة في عالم كثيف الترابط، مكَّنَ الدول الصغيرة مثل قطر من ممارسة نفوذ أكبر بكثير في الخارج. خلال العقد الأول من القرن الحالي، ظهرت مجموعة دول الخليج كأطراف فاعلة بوضوحٍ جليِّ على مسرح النظام العالمي للسياسة وصنع السياسات. واستخدمت دول مجلس التعاون الخليجي مواردها من الطاقة وتراكمات رأس المال لممارسة التأثير، أثناء الطفرة في أسعار النفط بين العامَين 2002 و2008، وأصبحت فاعلةً أكثر في القضايا الدولية. وقد ترواحت مشاركتها من الانخراط العميق في شبكات الجنوب-الجنوب، إلى استعراضٍ أكبر للاستثمارات في الثروة السيادية؛ لابل حتى أيضاً إلى تغيير المواقف تدريجياً في الجدل الدولي حول تغيّر المناخ. وعلى الرغم من أن هذه الروابط ارتكزت إلى مجال استخراج وتصدير النفط، وهو المجال الذي كان ربط الخليج بالاقتصاد العالمي لعقود، إلا أنها تجاوزت حدوده.15 على سبيل المثال، أقامت دول الخليج روابط صناعيةً أكثر تعقيداً مع اقتصادات ناشئة وصناعية على السواء، وذلك في خضمّ تحوّلها إلى مراكز إنتاج رائدة في العالم لصناعات متنوّعة تتراوح من البتروكيميائيات والألمنيوم، إلى الإسمنت ومشاريع البناء.16 هذه الروابط شملت تدفّقات أكبر للاستثمارات الأجنبية المباشرة ونقل التكنولوجيا، إضافة إلى الاندماج في الإنتاج العالمي وحلقات الإمداد.17 سرّعت الأزمة العالمية المالية والاقتصادية التي بدأت في العام 2007، التحوّل نحو الاعتماد المتبادل في الاقتصاد الدولي. كما وفّرت فرصةً لقطر، إضافة إلى دول خليجية أخرى غنيّة بالموارد (ولاسيما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية)، لزيادة قوة تأثيرها في المؤسسات العابرة للحدود الوطنية، وفي طبقات الحوكمة العالمية. فانضمّت قطر، من ناحيتها، إلى مبادرة إعادة التصميم الشامل Global Redesign Initiative التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي إلى جانب سويسرا وسنغافورة، وهي مبادرة طُرِحَت لإدراج وجهات نظر ثماني وعشرين دولة صغيرة ومتوسّطة الحجم في مسار مجموعة العشرين.18 استضافت قطر قمة إعادة التصميم الشامل في الدوحة، في 30 و31 أيار/مايو 2010، كما استضافت واحدة من جلسات الاستماع الثلاث الإضافية الخاصة بالمبادرة.19 بعد العام 2008، وفيما كانت البلدان الغربية تطبّق إجراءات اقتصادية تقشّفية، كان توسّع الغاز الطبيعي المسال القطري يبلغ ذروته، مع ارتفاع الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 17 في المئة سنوياً في حدّه الأقصى. هذا النمو اللافت أتاح لصانعي السياسات القطريين مجالاً واسعاً في العمل على إعادة تشكيل بنية نظام دولي في تغيّر دائم. وفي أيار/مايو 2009، عالج رئيس الوزراء حمد بن جاسم هذه القضايا مباشرةً، إذ دعا إلى إعادة تشكيل عميق «للأطر التنظيمية للنظام السياسي السائد»، كترجمةٍ لبروز نظامٍ متعدّد الأقطاب حيث «الغرب لم يكن اللاعب الوحيد في العالم».20 كان الأمير صريحاً أكثر في تعليقات أدلى بها في آذار/مارس 2009، حين قال إن «الصين آتية، والهند آتية، وروسيا في طريقها أيضاً... لا أدري إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا ستبقيان في موقع القيادة».21 استغلّت قطر بالكامل المجالَ الذي أُتيح لبروز لاعب جديد يؤدّي دوراً مبتكراً في الشؤون الإقليمية والدولية، من خلال المقاربة التي اعتمدتها تجاه صنع السياسات، والاستقلالية شبه التامة الممنوحة لدائرة صغيرة من نخبةٍ من صانعي القرار غير المُثقَلين بقيودٍ سياسيةٍ محلية. قطر والربيع العربي بعد فترة أوّلية من الحيطة والحذر في كانون الثاني/يناير 2011، أدرك قادة قطر الملامح الناشئة للانتفاضات السياسية المتصاعدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وعدّلوا السياسة العامة بشكل براغماتيكي. كانت قطر في موقع مناسب للاضطلاع بدور علني وتدخّلي بشكل استثنائي أثناء المراحل الأولى للاضطراب في المنطقة. فكان قرار المسؤولين القطريين بتبنّي توجّهات التغيير قراراً فريداً بين دول المنطقة، التي قاومت الضغوط الشعبية التي أطلقها الربيع العربي، والتي رأوا أنها خطيرة بطبيعتها. عكست سياسات قطر تقييماً دقيقاً لمصالحها في مختلف البلدان التي تشهد اضطرابات، فسَعَت إلى التدخّل بشكل مباشر وغير مباشر في ليبيا وسورية بذريعة البحث عن حلول عربية للمشاكل العربية، ووفّرت مساعدات اقتصادية في تونس ومصر. إلا أن الدوحة اقتصرت على التنسيق الحذر مع خطوات مجلس التعاون الخليجي لإعادة إرساء النظام السياسي في البحرين واليمن، معترفةً بالنفوذ الأكبر للمملكة العربية السعودية في هذه البلدان، والتهديد المحتمل الذي قد تشكّله الثورات الناجحة في الخليج للاستقرار قرب حدودها. تبنّي توجّهات التغيير مثَّلَ التفاعل القطري مع الربيع العربي استمراراً للتوجّهات السياسية الأعمق التي سبقت العام 2011، مثل الموازنة الدقيقة بين القوى المتباعدة؛ هذه الموازنة التي كانت السِّمة المميِّزة للسياسة الخارجية القطرية. تموضعت الدوحة كحليف للغرب في العالم العربي من خلال الدفع إلى تطبيق التدخّل الإنساني في ليبيا والحل السياسي في اليمن.22 كما قرّرت على نحو مماثل دعم الإسلاميين في المنطقة نظراً إلى اعتياد الحكومة القطرية منذ فترة طويلة توفير ملاذٍ للإسلاميين والمعارضين السياسيين من مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي، وإلى البراغماتية في الحسابات السياسية القطرية الإقليمية. وقد تقاطعت هذه العوامل في علاقة قطر الوثيقة ? ولكن المثيرة للجدل ? بجماعة الإخوان المسلمين.23 قامت روابطُ وثيقة بين الدوحة وبين حركة الإخوان المسلمين العالمية، مع أن قطر تؤيّد رسمياً السلفية وتتبنّى المدرسة الحنبلية في الفقه الإسلامي، التي يختلف تشديدُها على الطاعة السياسية للرعايا لحاكمهم اختلافاً جذرياً عن الطبيعة الشعبوية والنشطة للإخوان المسلمين. بدأت هذه الروابط تتطوّر عندما هرب أعضاءٌ من جماعة الإخوان المسلمين من الاضطهاد في مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفي سورية في العام 1982؛ وقد ذهب العديد منهم إلى قطر.24 تطوّر هذه الروابط لاحقاً مع الإخوان المسلمين ميَّزَ قطر عن موقف دول مجلس التعاون الخليجي المجاورة التي فرّ إليها الإخوان، إذ هي وسَّعَت ونوّعت روابطَها مع الفروع الإقليمية للحركة، لكنها أبقت قبضتها محكمةً على أي أنشطة لهم في الداخل، في حين سعَت الكويتوالبحرين إلى ترويض حركات الإخوان المسلمين. مُنِح الشيخ البارز ومصري المولد يوسف القرضاوي، المُقيم في قطر منذ بداية ستينيات القرن الماضي، إضافةً إلى آخرين، منبراً في قناة الجزيرة للتعبير عن آرائهم بعد تأسيس القناة في العام 1996، إلا أن منفيّي الإخوان استُقبِلوا في الدوحة على أساسِ تفاهمٍ ضمنيٍّ بأن يمتنعوا عن التدخّل في القضايا المحلية أو التعليق عليها. هذا التفاهم رسم تمييزاً واضحاً بين المجالَين المحلي والإقليمي للنشاط، وحدّد ماهي الأنشطة الجائزة وتلك غير الجائزة.25 أقامت قطر، نتيجةً لتواصلها مع شخصيات إسلامية، روابط مع العديد من قادة المعارضة الذين اضطّلعوا بأدوار قيادية في الاضطرابات الثورية في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن. وتمتّع الإسلاميون السياسيون بقدرةٍ تنظيميةٍ أكبر من مجموعات المعارضة الأخرى في تلك البلدان، الأمر الذي دلّ على أنهم كانوا قادرين على نحو غير متناظر من الاستفادة من الفرص الانتخابية وفرص المشاركة التي تكشّفت. هذا الأمر منح قطر شكلَين من قوة التأثير في الدول والأنظمة التي تخوض مراحل انتقالية عقب الربيع العربي: روابط فردية من خلال المنفيين المقيمين في الدوحة، والذين عادوا إلى أوطانهم الأم، ونفوذ مؤسّسي مع بروز جماعة الإخوان المسلمين بصفتها لاعباً قوياً في عمليات الانتقال السياسي. إضافة إلى الروابط مع جماعة الإخوان، أفادت القيادة القطرية أيضاً من حيّز حرية المناورة النسبية التي تمتّعت بها محلياً. فما ميَّز قطر عن غيرها في العام 2011 كان الغياب شبه التام لأي نوع من المطالب السياسية للمواطنين القطريين، سواء أكانت منظَّمة أم غير رسمية. وحتى في حالة الإمارات العربية المتحدة «الريعية للغاية» المشابهة ظاهرياً لقطر، وُجِدَت جيوبٌ من الفقر والحرمان النسبيَّين في صفوف السكان، كانت قادرةً على أن تولّد (وولّدت فعلاً) استياءً اجتماعياً-اقتصادياً ومعارضةً سياسية.26 ما ميَّز قطر عن غيرها في العام 2011 كان الغياب شبه التام لأي نوع من المطالب السياسية للمواطنين القطريين، سواء أكانت منظَّمة أم غير رسمية. كان مستوى الموارد للمواطنين في قطر كبيراً في العام 2011، في إطار حالة فريدة تقريباً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مادفع قطر إلى أن استبعاد احتمال حصول أي اضطراب اقتصادي محلي أو استياء سياسي ذي أهمية. وإذ بلغت مستويات نصيب المواطن القطري من الناتج المحلي الإجمالي حوالى 440 ألف دولار، أتاحت ثروة البلاد الهائلة (لمواطنيها على الأقل) حصانةً فعّالةً من تمدّد اضطرابات الربيع العربي. كما أدّت حُكماً إلى درجة من اللامبالاة السياسية، وإلى طمس التطلّعات الديمقراطية، حيث أن قلّةً من القطريين شعرت بمَيلٍ إلى تغيير الوضع القائم. وقد أشارت نتائج استطلاعٍ لرأي الشباب العربي إلى أن نسبة المُستطلَعين الذين اعتبروا الديمقراطية مهمةً، انخفضت إلى أكثر من النصف، من 68 في المئة في العام 2008، إلى 33 في المئة فقط في العام 2010. 27 ومرة أخرى، ظهر تباين واضح حتى مع الدول المجاورة مثل الإمارات العربية المتحدة، حيث نسبة المُستطلَعين الذين قالوا إن الديمقراطية مهمة، ارتفعت بشكل ملحوظ من 58 في المئة في العام 2008، إلى 75 في المئة في العام 2011. 28 حين اندلعت الاحتجاجات في تونس في أواخر العام 2010، كانت قطر في وضع مؤات. وفي غمرة الفوز بحقوق استضافة كأس العالم في كرة القدم للعام 2022، ومع تنامي الاعتراف العالمي بها نتيجة لذلك، استغلّت الإمارة وقيادتُها الفرصةَ لتصنيف قطر بشكل قاطع على أنها منفصلة عن المتاعب التي تبتلي بها المنطقة ككلّ. وفي ضوء استبعاد الاحتمال بأن تتأثّر قطر بالتفشّي المُعدي للاضطرابات الاجتماعية-الاقتصادية في أرجاء المنطقة، كان ثمة مكاسب كثيرة يمكن جنيها من اتّخاذ موقف واضح للغاية ضد الحكم السلطوي السيء في شمال أفريقيا وسورية. كما أن كلفة فرصة القيام بذلك كانت منخفضة في البداية. ثم أنه كان من المستبعد أن يُسفِر التعبير القطري عن الدعم الإعلامي والمادي لحركات المعارضة في أمكنة أخرى، عن عواقب محلية في قطر. كما أن مثل هذا الدعم ساهم أيضاً في أخذ جهود قطر على محمل الجدّ باعتبارها لاعباً مسؤولاً على الساحة الإقليمية والدولية. تزعّم كلٌّ من الأمير وحمد بن جاسم صراحةً مقاربةً تقوم على وضع الحلول العربية للمشاكل العربية في صلب الأولويات، ولاسيما أثناء الاستعداد للتدخّل الدولي في ليبيا في آذار/مايو 2011. فتولّى رئيس الوزراء حشد الدعم للقرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والقاضي بالسماح بإنشاء منطقة حظر جوي فوق ليبيا. وأوضح رئيس الوزراء أن «قطر ستساهم في العمل العسكري إيماناً منها بضرورة أن تكون هناك دول عربية تقوم بهذا العمل لأن الوضع [في ليبيا] لايحتمل».29 وإلى جانب الدعم من الإمارات العربية المتحدة، كان تأييد قطر للقرار مهماً في تخفيف أي شكٍّ إقليمي بتدخّل غربي جديد في العالم العربي، وفي تأمين دعم الجامعة العربية لهذا العمل. عن مركز «كارينجي»