جاءت في وقت كانت فيه سطوة الكبار في الأغنية التونسية، بدءا بالرواد كالشيخ «العفريت» و«صليحة» و «خميس الترنان»، مرورا بأساتذة الطرب التونسي كمحمد الجاموسي الشهير بأغنية (قهوجي)، وعلي الرياحي صاحب أغنية (هز السيف يا لله قابلني)، والهادي الجويني. فضلا عن منافسة مجايليها كأحمد حمزة، الطاهر غرسة والمطربة نعمة. فكيف استطاعت أن تجد مكانة لها بين هؤلاء ؟ ولدت في تونس عام 1936، اسمها الحقيقي بية بنت بشير الهادي رحال. والدها ينحدر من أصول مغربية تنتمي إلى قبائل الرحامنة بأحواز مراكش. كانت تغني في الحفلات المدرسية وهي طفلة. وقد اكتشف هذه الموهبة الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها 14 ربيعا الملحن وعازف الكمان «رضا القلعي»، فلحن لها «ظلموني حبايبي» التي لقيت نجاحا كبيرا وسجلت بإذاعة تونس، ثم مدها بعد ذلك بلحن ثان «يا قلبي آش بكاك» فأشر بذلك على ميلاد موهبة فنية أخذت تشق طريقها. استدعاها « صالح المهدي « الملحن أستاذ الموسيقى ومدير فرقة الرشيدية (وهي أعرق فرقة موسيقية في تونس لازالت تشتغل لحد الآن)، حيث أدت أغان شرقية أمام الجمهور بحضور وجوه فنية كبيرة كرئيس اللجنة العليا للموسيقى بالقاهرة، والمطرب المصري الكبير محمد عبد المطلب. لما استقلت تونس تقدمت كمرشحة لامتحان في الإذاعة سنة 1957، نجحت بامتياز واعتمدت كمطربة رسمية من خلال لجنة الاختيار التي ضمت كبار المشتغلين بالموسيقى والغناء من بينهم صالح المهدي المذكور. من هنا انفتحت أمامها أبواب الشهرة وأصبح الملحنون يتهافتون عليها في مقدمتهم صالح المهدي الذي أدخلها إلى المعهد الموسيقي لتتلقى تكوينا أكاديميا. فغنت خلال هذه المدة عددا من الأعمال من تلحين أستاذها صالح الذي أطلق عليها لقب «علية» وعدد من الملحنين كالهادي الجويني والشادلي أنور وغيرهم. اشتهر اسمها منذ أواخر الخمسينات وبداية الستينات حتى أصبحت ألمع مطربة في أقطار المغرب العربي. إذ اعتبر النقاد صوتها في حد ذاته آلة موسيقية بمواصفات بشرية لما له من رقة وانسيابية ونغم وفير و وضوح في صفاء الأداء. تعرف كيف تمسك بطبقة الصوت، وكيف تغني خلالها، وكيف تتمكن من تغييرها ! تشبعت بالمحلي التونسي بما فيه الأندلسي و المالوف وأنتجت أغان تونسية صرفة نذكر منها «يا للي ظالمني، نظرة من عينيك تسحرني، جاري يا حمودة، قالوا زيني و العوينة الزركا»، ثم غنت القصيد منها «الساحر» للشاعر التونسي جعفر ماجد التي يقول مطلعها : لأنك لم تعرف الحب قبلي لأن النساء على كل لون وشكل لأن البساتين لا تنبت الورد في كل فصل وأن الطبيعة لا تمنح الخصب في كل حقل و كذلك قصيدة «عش يا فؤادي بالأمل»، ورائعة المغرب العربي التي لحنها الأستاذ محمد بن عبد السلام «أنا من أنا» من شعر إيليا أبي ماضي. وقبل وفاتها بشهور قليلة وهي تزور المغرب أعادت غناء هذه القصيدة بأداء غاية في الروعة والجمال وبتوزيع متقن جديد بثته إحدى القناتين وهي تستضيفها. ومنذ ذلك التاريخ لم ير هذا العمل النور ! لعل أهم ما قامت به المطربة «علية» في مسيرتها الفنية إن لم نقل في حياتها، هو إعادة إحياء التراث التونسي سواء كان مالوفا أو ألوان أخرى في قالب جديد من حيث التوزيع الموسيقي، وبخاصة تراث الكبيرة «صليحة» ك «فراق غزالي، فوق الشجرة أم لحسن غنات» « يا خليلة، أو ناعورة الطبوع « وغيرها من التراث التونسي الجميل. لم تنتقل اذن إلى القاهرة إلا بعد أن تشبعت بتراثها المحلي والمغاربي، واكتسبت ناصية الطرب بحرفية كبيرة (وفي هذا عبرة لمن يتهافت من أول وهلة على الشرق من مطربات اليوم)، بل إن الشرق من سعى إليها وطلبها من خلال عدد كبير من الفنانين الذين زاروا تونس واستمعوا إليها وفي مقدمة هؤلاء «أم كلثوم» نفسها التي سمعتها وهي تغني أمامها مقطعا من الأطلال سنة 1968 .بعد ذلك شدت الرحال إلى القاهرة، تزوجت الملحن الكبير «حلمي بكر « الذي أبدع لها لحن «علي اللي جرى» التي يعتقد الكثير أنها تنسب للمطرب السورية أصالة التي أعادت فقط غناءها بنفس المواصفات اللحنية. أقامت في القاهرة 14 سنة تنقلت خلالها عبر أنشطة فنية في المشرق، ومن خلال هذه التجربة أضافت إلى ربيرتوارها رصيدا غنائيا هاما تعاملت فيه مع أكبر الملحنين والشعراء كمحمد الموجي والشاعر أحمد رامي في «قيثارة نغم » والموسيقار بليغ حمدي في أغنية « دامعة أبكي والناس دامعة « التي استلهم فيها روح التراث التونسي في اللحن كما فعل من قبل مع وردة وعبد الحليم حيث استلهم أيضا فيها التراث الجزائري و المغربي في بعض أغانيهم. وضع لها كذلك زوجها العديد من الإبداعات الغنائية بما فيها الأغاني الوطنية عقب حرب أكتوبر 1973 « يا حبايب مصر «. كما تكفل الموسيقار « داوود حسني « برعايتها فنيا. وهكذا كانت مرحلة عاشت خلالها مع أساطين اللحن والطرب في الشرق. عادت إلى تونس سنة 1988 لتودع إلى دار البقاء بعد سنتين في 19 مارس 1990، عقب عودتها من زيارة فنية للمغرب بشهور قليلة وسنها لا يتجاوز 53 عاما.