لا ضمانات بمستقبل أفضل. العدمية تتسع ومساحة المناورة تزداد ضيقا. لون الحداد يعلو الوجوه وبوتفليقة يهيئ نفسه ككل مرة، لمقابلة الجماهير من خلف ستار، ورفع يديه عاليا إلى السماء، بفم مبتسم وعينين غائبتين. إنه يحلم مثلما حلم الإسلاميون قبله بالدولة المطلقة، وبحق الفرد في الانتصار على الجماعة. يتقلب على سرير العسكر- المدنيين، ذات اليمين وذات الشمال، ثم يتهاوى من قبة الصلوات والدعوات والأولياء الصالحين، ويتراجع خطوة خلف التاريخ، ثم خطوتين، ثلاث خطوات: خمس عشرة سنة من الخطو إلى الوراء. رمى كل شيء خلف ظهره، ثم استقام في مشيته فلم يستطع. طرقه ملتوية كالتواءات الحروب الصغيرة جدا التي شنها ضد الإخوة وبني العمومة. بالنسبة له، الشعب كتلتان وليس كتلة واحدة موحدة، ينقسم نصفين لا ثالث لهما: معي أو ضدي! من (معه) يجب عليه أن يرفع صوته عاليا صارخا، مهللا بطريق النصر الذي لا يغيب عن أعين الآلهة، ومن (ضده) فلابد أن يدس رأسه في التراب، خجلا من عدم مباركة جهود رجل السلم والوئام والمصالحة. فبوتفليقة هو رابع نفسه، ولا يرى غير ظله بديلا عن جسده المرهق من عويل الحاشية ومديح البطانة. (أنا الأول وأنا الآخر، أنا المقدم وأنا المؤخر) هكذا يهذي على سريره ليسمعه قوم (التحت) بصمت الخائب، ويسمعه قوم (الفوق) بكثير من اليأس. )ليتها كانت القاضية ما أغنى عني سلطاني!) سيرددها بوم لا ينفع الترديد. الشعب لم ينس، لكن الرئيس السبعيني نسي، وقرر أن يقاوم النسيان بالقفز فوق سور الذاكرة المشتركة، فلم يعد يهمه شيئا عدا محو بطولات البلد، ليبقى هو نفسه البطل الوحيد، المعلق، الناصع، المتدلي من على عقول العبيد والجواري، يمحو انتصارات الأجيال ليقول سادة القوم المزيفون: يمارس تعتيما لم يمارسه قبله أحد ويشطب في حفلة تنكرية قرنا من نضالات العربي بن مهيدي، لخضر بن طوبال، مصطفى بن بولعيد، ديدوش مراد، زيغود يوسف، محمد بوضياف.. يدوس على أرواح الشهداء، على كرامتهم وخيارهم الوحيد الأحد: الحرية، وهو الذي قيد الحرية والحريات، بالمفرد والجمع. كيف ستخاطبه أرواح الشهداء اليوم وغدا؟ سيردّون على هرطقته بصوت عميق ومزلزل: ارحل! تبت يداك! فقد ضيعت موسم الحصادات، وشوهت ماضيك بيدك، والحاضر لن يبك عليك! كم كنا نحلم ببلد أفضل! كنا نحلم وننسى أن للحلم ثمنا. كنا نعيش وراء الحقيقة وفخامة الرئيس يخط آية من آياته الفاضلة أن يحكم الجزائر خمس عشرة سنة، ويزيد عليهم خمسة أعوام أخرى، لتكتمل العدة، ولا يكلم فيها أحدا، عدا الأجنبي، الذي يحكمنا بغير علم منا، أو الخاضع الساكت ليشير عليه بأصبع واحدة، أصبع الأمر والنهي والتواطؤ والصمت وغض البصر. * كاتب جزائري