تمهيد لا بد منه : «حان وقت مراجعة «العلاقات القائمة بين الغرب ودول الجنوب»، وقيام حكام الغرب «بالدور الصحيح»، من خلال «إقامة شراكات تصل بها إلى أن تصبح دولاً نامية ومتقدمة»... « نريد «الديموقراطية التكاملية»، و»ليس تقديم مساعدات اسمية محدودة الآثار، ومشروطة بشروط مجحفة، وتخضع لتنقيطات ومقاييس لا تناسب إلا الدول التي أنتجتها»... هذه بعض الأفكار الواردة في خطاب الملك أمام الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة... يستوقفنا في الخطاب مفهوم «الديموقراطية التكاملية»، الموقف من واقع حال «الشراكات» المفروضة على بلدان الجنوب من لدن حكام الغرب، والتطلع المشروع لهذه البلدان لأن «تصبح دولاً نامية ومتقدمة». أما الباقي، فمرافعة للدفاع والإقناع بهذه الأفكار والمواقف... من سلامة التشخيص إلى تفعيل الإرادة . لا يختلف اثنان في أن الغرب، بل من يحكم الغرب، قد أرهقنا إلى حد الإعياء والشلل، وذلك منذ أكثر من 500 سنة... يمكن الاكتفاء زمنياً فقط، بالقرن الذي مضى وهذا الذي نحن في أواله، من خلال بعض الوقائع الملموسة والنتائج الماثلة: 1 - خضع المغرب لتجربة «الاستعمار المباشر» أوائل القرن العشرين، وقبله لاستنزاف طويل عمق ضعفه الذاتي ومهد الطريق لاستسلامه... وعلى طول هذه الفترة عمد الاستعمار إلى تركيز بنياته ومؤسساته ولغته وثقافته واختيارات تخدم مصالحه، في العاجل والآجل من الوقت... هذه الحقائق، تتضح بجلاء في توزيع المجال وإعداد التراب من خلال «ثنائية المغرب النافع والمغرب غير النافع»، وبالتالي عبر التمييز في ولوج الخدمات الأساسية... وقد اتضحت وتتضح أيضاً، في توزيع الثروات وفوائض القيمة(أقلية محظوظة غبر منتجة مقابل أغلبية واسعة كادحة ومفقرة)، في « ثنائية الحاكمين والمحكومين» بواسطة تكريس ازدواجية التقليد والتحديث في مجالات الحكم والإدارة والصحة والتعليم واللغة(...)، وفي «ثنائية المعرفة وولوجها»... هذه «الثنائيات القاتلة والمصطنعة»، تواصل الاشتغال عليها بوسائل ووسائط وتوجيهات مختلفة. وهي تتجسد اليوم في السلطة والثروة والمجال والمعرفة، في اللغة( الفرنسية مقابل العربية، العربية مقابل الأمازيغية والدوارج)، في السياسة والإيديولوجيات( المحافظون مقابل الحداثيون أو العلمانيون)، في الفلاحة والصحة والتعليم والثقافة والعقيدة... وفي السيادة على الأرض( محررة وغير محررة). 2 - من أجل ضمان المغرب ككنز للثروات الطبيعية والبشرية واحتياطاً استراتيجياً لفرنسا، وضعت خرائط لها، زرعت الترسانة النظامية والمؤسساتية والقانونية المتلائمة مع مصالحها وأهدافها، واخترقت نسيج الدولة بمن تعلموا على يدها وبكثير من العملاء المحليين... هذا «الإرهاق المستدام»، استنزافاً للخيرات والقدرات والأدمغة، تواصل بعد «الاستقلال الناقص والمنقوص»، بواسطة استراتيجية ومخطط «الاستعمار المباشر»، ثم «الاستعمار المعولم» حتى الآن... ... ولم يسجل على أي استعمار في تاريخ الشعوب والبشرية، أنه دخل البلدان من غير أن يخضعها تحت شعارات إنسانية أو حضارية أو حقوقية... باسم الأخذ بيدها وتأهيلها وتحضيرها في السابق، ودمقرطتها وحماية حقوق الإنسان بها في اللاحق... ومن المؤكد جداَ أن المخططات الأجنبية في أي بلد من البلدان، لا تحقق أهدافها كاملة أو منقوصة إلا لوجود عامل أو عوامل داخلية مساعدة... 3 - المغرب بعد كل «الإرهاق» الذي عرفه ويعرفه، بواسطة الخارج وضعف الداخل، تمكن من أن يبقى، من أن يحافظ على كيانه واستمراره، ومن أن يبقي الأمل مفتوحاً على التصحيح والمراجعة وممكنات الانطلاق من جديد، رغم ثباته- حتى الآن- على النظام والاختيارات الموروثة من الفترة الاستعمارية... ... بيد أن خروج المغرب من «الحِراكات» والاضطرابات الجارية بالمنطقة، بأقل الخسارات والأرباح معاَ حتى الآن، لا يعني- ويجب أن لا يعني أبداً- أننا نقف فوق أرض صلبة، وأننا على استعداد لمواجهة المستجدات المتوقعة وغير المتوقعة... ... لكننا، ونحن نتابع- متفاعلين- الإرادة السياسية المعلنة في هذا الخطاب وغيره، لا يمكن إلا أن نحلم مرة أخرى بفك الارتباط مع الثالوث القاتل والمحبط المجسد في:التخلف والاستبداد والتبعية... من تفعيل الإرادة إلى تشييد البديل الموثوق. إنها معركة «الأقوياء النفوس»، العقول والأذهان المغربية المبدعة والمنتجة والخلاقة، القوى الوطنية الحية والأصيلة، وكل المغاربة جيلاً بعد الآخر... وهذا الورش المغربي الكبير والواعد، بعد المراجعة بالعقلانية و»النقد والنقد الذاتي»، بعد الاقتناع بمنافع وأرباح التغيير المنشود، بعد استرجاع الثقة في النفس واستحقاق الاعتماد على الذات، وبعد كل شيء وأي شيء، كفيل بتوق المغرب المشروع لبناء دولته الوطنية والديموقراطية المستقلة، بتطلعه الحيوي لاستعادة التحكم في زمام أموره، بإحياء نهضته وبعث ازدهاره... من أجل مغرب بكل أبنائه وبناته وأجياله المتعاقبة. ولنا عودة للموضوع، إسهاماً في تعميق النقاش حول عبارة ومفهوم «الديموقراطية التكاملية»، و»البديل المجتمعي المنشود»....