كثيرة هي الأعمال المسرحية التي تنبني على نص قصصي أو روائي أو سيرة أحد الأعلام أو حدث تاريخي، ولكن أن يتحول نص في نقد الاقتصاد السياسي اعتبره المفكرون مؤسسا للتاريخ المعاصر، ومرجعا في تاريخ الأفكار، فذلك حدث بارز صنعته مجموعة من الشباب الطامحين إلى تحطيم كل القواعد المسرحية المعروفة، وساهمت به في مهرجان الخريف بباريس الذي تنظمه كل عام جريدة «لوموند» الفرنسية. الكتاب هو «رأس المال» الذي قضى الفيلسوف كارل ماركس (1818/ 1883) في تأليفه 20 عاما دون أن يتمّ سوى جزئه الأول. وهو نقد للاقتصاد السياسي استند فيه صاحبه إلى ملاحظاته حول الصناعة البريطانية في القرن 19 وظروف العمل في مؤسساتها، وتجاوز فيه سابقيه مثل دفيد ريكاردو وآدم سميث، كاشفا عن طبيعة الرأسمالية وتناقضاتها العميقة. هذا الكتاب الذي يعتبره ماركس نفسه «أخطر صاروخ ألقي على رأس البورجوازية»، كان مادة مسرحية بعنوان «رأسُ المال وقردُه»، أنتجتها الفرقة الوطنية بمدينة أنجي، ويتواصل عرضها بمسرح «الهضبة» بباريس طوال أيام المهرجان (من 5 سبتمبر الجاري إلى غاية 12 أكتوبر القادم). وإخراجها جاء على غير مثال، بالأسلوب الذي درج عليه الشاب الموهوب سيلفان كروزفو (30 سنة)، مازجا تاريخ الأفكار بالحكايات الحميمة، مجسدا المفاهيم، معتمدا على الوثائق قدر اعتماده على الارتجال. ويعتبر كروزفو مرجعا لكل جمعيات الممثلين الراغبين في ابتكار طريقة مشتركة للاشتغال على مسرح اليوم. وقد حاز هذه المكانة بفضل أعماله السابقة، خصوصا «ترهيبنا» التي ساهم بها في المهرجان نفسه عام 2009، وتناول فيها جانبا من التاريخ الفرنسي، إرثه الثوري تحديدا، مازجا مزجا غير مسبوق متعة اللهو بالشراسة السياسية والعفوية الطفولية، مفجّرا بذلك كل القواعد المسرحية، بالاعتماد على الارتجال، والكتابة الجماعية على الركح، والإعداد المشترك. يعتبر كروزفو مرجعا لكل جمعيات الممثلين الراغبين في ابتكار طريقة مشتركة للاشتغال على مسرح اليوم. وقد حاز هذه المكانة بفضل أعماله السابقة وإذا كانت مسرحيته تلك، وقد تركزت على لجنة السلامة العامة التي اتسم حكمها (1793 /1794) بالقسوة والعنف وسفك الدماء، استلزم إعدادها شهورا طويلة، فإن «رأس المال وقردُه»، والقرد هنا هو النظام الاقتصادي العالمي الحالي، الذي لا يزال يستغل سواعد العمال ويمتص دماءهم، قد استوجب أكثر من عام قضاه كروزفو وجماعته في مصنع مهمل بمحافظة لوزير، يؤلفون ويمثلون، ويرتجلون ويسجلون، وتوصلوا إلى عرض يدوم ساعات، عمدوا عندئذ إلى تقليصه وتكثيفه ليأخذ حجمه الحالي. في هذا المادة، المشحونة بالسياسة والأيديولوجيا، حرص كروزفو ورفاقه على تطويعها لخدمة أغراض فنية، فلا أثر هنا لنزعة تعليمية، أو محاولة تجسيد ساذجة تذكر بالكتاب ومؤلفه وظروف تأليفه، وما حضور شخصيات الرأسمالي أو المالك العقاري أو العامل البسيط أو المزارع الكادح أو المديني المتعلم أو المفكر الميتافيزيقي ولا من أثقلتهم الديون عبر العالم.. إلا للإشارة إلى الطبقات الاقتصادية التي يمثلها كل واحد منهم، فالغاية كما يقول كروزفو: «ليست أن نحب البشر، بل أن نحب ما ينهش دواخلهم». فلا أحلام هنا ولا يوطوبيا، لأن الهدف هو عرض كوميديا خالصة، بأسلوب مغاير. في جوّ يكاد يكون عائليا، يجلس الجمهور على الجانبين بشكل متناظر، حول مناضد وكراسي يتداول عليها شبان الفرقة، فيسترسلون بغير انقطاع في طرح المفاهيم الماركسية، واستعراض أحداث 1848 وسط جدل حام بين أعلام تلك الفترة. وعرض قضية بعض الوجوه الراديكالية للثورة وهي تواجه الجنرال الرهيب أوجين كافينياك، ثم مواجهة بين ماركس وإنغلز واستعارة هاذية حول «وثنية» السلعة، عقدة رأس المال.. استطاع الممثلون أن يحوّلوا المعادلات الاقتصادية، وخاصة القلق الفلسفي الذي استبدّ بماركس حول مستقبل الإنسان في منظومة تزداد تنظيما وغموضا يوما بعد يوم خمسة عشر ممثلا على ركح تحوّل إلى منبر ضخم، يتداولون على تقديم رجال ذوي شخصيات قوية كالرأسمالي والمالك العقاري والعامل والمزارع، كل يدافع عن وجهة نظر يراها الأمثل والأنسب لحياة المجتمع، بنبرة ثورية في الظاهر ولكنها ساخرة، تنضح بالنقد اللاذع للرأسمالية، قديما وحديثا. وبالرغم من أن كروزفو ينفي أن تندرج مسرحيته في تيار المسرح السياسي، فإنها، وإن تميزت بشكلها المستحدث، فقد انبرت لتشريح «بطن نمط الإنتاج الرأسمالي» الذي تولد عنه سليلان لمفهومين، هما الصراع الطبقي والطبيعة الصنمية للسلعة، مرتبطان بأصلهما المشترك. لا تنأى عنه كثيرا، من حيث محتواها، حيث تصور الرأسمالي في صورة مصاص دماء من حيث قوته التاريخية، وحيله التي لا تنتهي، وقدرته الفائقة على الظهور بمظهر الضرورة الطبيعية حتى في الكوارث التي لا يتخيلها العقل، وعلى الانبعاث من رماده، والتلذذ حتى بموته هو نفسه. هي كما قال مخرجها «كوميديا عسيرة» ولكنها كوميديا على أية حال، تثير الضحك والمرح، رغم كثرة المفاهيم والمصطلحات التي تتواتر في نسق عجيب، وكثرة الأسماء كرامبو ولوتريامون وأراغون إلى جانب أعلام المادية مثل راسباي وأوغست بلانكي ولويس بلان وديبوروباربيس.. فقد استطاع الممثلون أن يحوّلوا المعادلات الاقتصادية، وخاصة القلق الفلسفي الذي استبدّ بماركس حول مستقبل الإنسان في منظومة تزداد تنظيما وغموضا يوما بعد يوم، إلى مادة مسرحية، وأن يحولوا هذه المقولة أو تلك مما دار بين ماركس وصديقه أنغلز، حول استغلال العمال والملكية المشتركة وقيمة العمل ونظام الأجور.. إلى مقاطع طويلة شكسبيرية النبرة.