بعد حملة شرسة استعمل فيها كل طرف حججه وقناعاته لإقناع الناخب بمصداقية موقفه، وبعد ترقب مشوب بالقلق بفعل صعوبة الحسم بين الداعين إلى الاستقلال ، والمدافعين عن البقاء ضمن المملكة المتحدة ، حسب استطلاعات الرأي، فقد رفض الشعب الاسكتلندي بأغلبية واضحة فكرة الاستقلال مفضلا البقاء ضمن المملكة المتحدة . وقد جاءت هذه النتيجة في سياق مشاركة مكثفة غير مسبوقة تجاوزت 84 % من المسجلين . لقد أعادت الاعتبار للديموقراطية بوصفها ترتكز في جوهرها على المشاركة الشعبية، وفي نفس الوقت أكدت أن الأمر يتعلق برهان حاسم لم يكن من شأنه أن يخلق تغيرات فقط في موقع اسكتلندا، ولكن بالأساس قد يفضي إلى تحولات جيو سياسية تتجاوز هذه المنطقة .وفي الواقع ، فإن هذه النتيجة تؤكد أن الاستفتاء كشكل من أشكال التعبير الديموقراطي لا يؤدي، كما يريد أن يروج لذلك البعض بشكل ميكانيكي إلى الاستقلال . فالممارسة الاستفتائية هي أيضا شكل من أشكال شرعنة وتدعيم الوحدة الوطنية خاصة إذا اقترنت بمشروع سياسي ومجتمعي يمكن المواطن من العيش في شروط تسمح له بتحقيق ذاته . فبالرغم من البراغماتية التي عبر عنها الوزير الأول الاسكتلندي وزعيم الحزب الوطني الحاكم المدافع عن فكرة الانفصال، والمتمثلة بالإبقاء حتى في حالة الاستقلال على الملكة كرئيسة للدولة ، وعدم وضع حدود مادية مع انجلترا ، وكذلك المحافظة على الجنيه الاسترليني كعملة لإسكتلندا المستقلة ، فإن كل ذلك لم يقنع المناهضين للانفصال لتخوفهم من الانعكاسات السلبية الناجمة عن ذلك ، ومن الثمن الباهظ الذي يمكن أن يترتب عن مثل هذا الخيار، لا سيما أن اسكتلندا تتمتع باختصاصات واسعة في سياق استقلالها الذاتي. فمن المعروف أنه مند سنة 1998 ، ونتيجة الإصلاحات التي قام بها الوزير الأول البريطاني الأسبق طوني بلير، فإن البلاد تتوفر على برلمان مستقل ، وعلى وزير أول وعلى اختصاصات مهمة في مجالات متعددة تهم الحياة اليومية للمواطنين . وهناك اليوم وعود جديدة ترمي إلى تدعيم هذا الاستقلال الذاتي من خلال السماح لإسكتلندا بممارسة اختصاصات مستقلة أخرى في المجال الجبائي، وكذلك في ما يتعلق بإمكانية الحصول على قروض من السوق الدولية . إن الدرس الثاني الذي يمكن استنتاجه هو أن هذه الممارسة الاستفتائية التي تمت بشكل حر ، بينت أن الغالبية لم تنجر وراء هذا التيار المتدثر بعدة ذرائع والذي يحاول أن يجزئ الأمم ويخلق كائنات قزمية ليست لها مقومات الحياة الحقيقية . فهذه النتيجة الرافضة للانفصال ترمز إلى حكمة كبيرة تكمن في التشبث بالاستقرار الديناميكي الذي ينبني على التطور السياسي بشكل متدرج في إطار وحدات واسعة تسمح للمواطن بتدبير أموره دون أن يفتتت وجوده . فهذه الحكمة تفرض أيضا على الدول مواصلة مساراتها الإصلاحية الرامية إلى تمكين الجهات من اختصاصات فعلية واسعة تسمح لها بالاستفادة من خيراتها بشكل أكثر نجاعة وأكثر عدالة في ظل انتمائها إلى فضاء أوسع يتيح لها فرصا إضافية لتحقيق تنميتها ورفاهيتها . ثالثا : إن نتيجة هذا الاستفتاء لم تكن منتظرة فقط في إسكتلندا وإنجلترا ، بل إن تداعياتها كانت متابعة في أوربا والعالم برمته . فمن الواضح أن هذا الرفض يحافظ على الاستقرار ، ولا يضيف متاعب وإشكالات جديدة كان من الضروري تدبيرها في العلاقات بين اسكتلندا وبريطانيا. فمن المعروف أنه في حالة الاستقلال، فإن ذلك كان سيرتب انعكاسات واضحة على بريطانيا التي كانت ستفقد قرابة 30 %من مساحتها، وإمكانيات اقتصادية لاسيما نفطية موجودة في بحر الشمال . فضلا عن ذلك ، فإن ذلك كان سيفرض مفاوضات معقدة حول العملة والدين والقواعد العسكرية وخاصة تلك النووية المنشورة في إسكتلندا. فضلا عن ذلك ، فإن الفضاء الأوربي كان سيكون مطالبا بالتعامل مع هذا التحدي الجديد في الوقت الذي تعرف فيه أوربا واقعا صعبا بفعل الأزمات المتنوعة التي تواجهها . لذلك ، فقد خيم نوع من الارتياح في العالم بفعل هذه النتيجة الناجمة عن ممارسة ديموقراطية حقيقية والتي رفضت الفكر الانفصالي وفضلت الخيار الوحدوي . فهل ستلجم هذه النتيجة مطالب بعض الأقاليم الأخرى في أوربا كما هو الشأن بالنسبة لكاتالونيا التي تتطلع إلى الاستقلال عن إسبانيا ؟ دون الوقوع في إسقاطات متسرعة ، من الواضح أن درس اسكتلندا ليس خاصا بهذه المنطقة ، إنه درس قابل للتدبر وللتأمل . وأتصور أن الحركات المطالبة بالاستقلال ، والتي قد تكون في بعض الأحيان مدفوعة بنزوعات هيمنية أجنبية، مدعوة إلى تأمل هذه الحكمة الآتية من إسكتلندا، وبالتالي الانخراط في الدينامية القائمة على ترسيخ الاستقلال الذاتي في إطار الوحدة .