مرت ثلاثون سنة بالتدقيق على الاحتجاج العمالي الكبير، بمدينة جرادة . وقتها تحركت طبقة بروليتارية بكل المعايير، تضم 9 آلاف عامل وعاملة، من جوف الأرض، لكي تعيد صرخاتها السفلى على سطح أرض كانت تتهيأ لانتقال سياسي كبير في البلاد.. ويتبين من خلال العودة إلى تلك الرجة البروليتارية العاتية، أنه لم يحدث، منذئذ، أن وجدت حركية بهذه القوة تحت يافطة نقابية معروفة، ومهيكلة للصراع في البلاد، في العشرية الأخيرة للعهد السابق. ستحتفظ أدبيات المرحلة وحولياتها، ب|أن الكونفدرالية إطار نقابي، مسنود بذراع سياسي ومدني عضوي، كانت تضمن التعبير الممأسس والمؤسساتي لهذه الاحتجاجات الكبرى.. وقبل المدينة العمالية، كانت الحسيمة قد فجرت تعبيراتها الاحتجاجية، وبالطريقة غير المألوفة، الشيء الذي تسبب في عطب كبير في التفاوض الاجتماعي، وترك الدولة، في مثل هاته الحالة، بدون لسان مقبول ليتحدث إلى المحتجين. ولعل لا شيء يمنع من أن نتوقع خروج آلاف المغاربة في مدن أخرى بعد زاكورة وسؤال الماء.. لكي يحولوا الشارع العام إلى مائدة للتفاوض مع الدولة نفسها. في كل المراكز الاحتجاجية اليوم تاريخ طويل وعريق من العناد النضالي.. الحسيمة وتاريخها البهي حول التحرر والصراع مع المستعمر، ورمزية المعارك البطولية التي تجسدت فيها الهوية الكفاحية لمغاربة الشمال … وجرادة وهويتها الكفاحية البراقة، بنفسها العمالي الحديث، وارتباطها بالفكرة البروليتارية، والتي جسدت بدورها كفاحية منقطعة النظير لدى الطبقة العاملة المغربية، ورمزية الكفاح العمالي في شرق البلاد.. هناك تحول يقع في هذه المناطق، إذا اعتبرنا الحسيمةوجرادة يستدعي الملاحظات التالية: -1 انتقال ديموغرافي واقتصادي صعب في الحسيمة، يجعل المدينة وأجيال كبيرة منها على مشارف وضع لا يبعث على الاستقرار ويجعل الأرض، بما فيها، تضيق كثيرا عن المعيش اليومي الكريم للناس. في جرادة، انتقال طاقي دفعت كلفته الأجيال التي عاصرته أو جاءت بعده، وجعل الأرض، مزاجا وحقيقة تضيق عن أبنائها.. 2 – إعلان مدو، مكهرب، بغياب التعبيرات المدنية المعتادة في تأطير الحِراكين.. ونقول بصراحة إن الغياب ليس استثنائيا هنا، بالرغم من كل ما يمكن أن نسرده من أسباب جعلته يضمحل مثل قشرة الموز، كما يقال. ويتفق كل علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ اليوم، وفقهاء نظريات الدولة أن رجوع »المجتمعات إلى ما قبل الدولة وما قبل السياسة بمفهومها الحديث يكون عندما لا تؤطرها أحزاب ونقابات مهنية ومنظمات المجتمع المدني. طبعا سيكون من المجازفة، النظرية كما العملية، القول بأننا دخلنا هذه المراحل، وهي عادة مراحل ما تعيشه دول ما بعد الربيع، وعودة الطائفية والعشائرية والقبيلة والنزوع الغرائزي في تحويل السياسة إلى مأدبة كبيرة للالتهام… لكن بعد مؤشرات الضمور التي مست التعبيرات المؤسساتية لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، علينا أن نطرح مستوى التعبير ما قبل السياسي ( أو ما بعده ربما ....)! لقد تم ترسيم هذه المعاينة من طرف المؤسسات الأكاديمية، كما رسمها أيضا الخطاب الرسمي للدولة المغربية، من خلال التنبيه إلى الخلل في التأطير وفي التعبير عن تفاعلات المجتمع، وهو ترسيم يحمل على الأقل دلالتين: – الدولة التي عملت كل شيء في التاريخ المعاصر لكي تلجم المجتمع وتقوض تعبيراته هي نفسها التي تتبرم اليوم من الخصاص المهول في التعبيرات المدنية الحديثة. – الخوف من الفراغ الذي أحدثه هذا الغياب، بدون أن تغيب التعبيرات عن الحاجة إلى تفاوض جديد مع الدولة نفسها حول المطالب الكامنة وراء البحث عن السياسة!!! – انهيار النموذج الاقتصادي والتنموي، مع ما يصاحب هذا الانهيار من تسارع في التوتر.. وتظهر حيثيات الانهيار في المدن التي ظل ظهرها عاريا، لا تغطيه بأرتال الحداثة المصطنعة وبسرعة الزمن اليومي.. ومن الغريب أن انهيار النموذج القائم لا ينتظر التفكير في النموذج الجديد، بل نتابع اليوم وضع «الأمر الواقع»، من حيث الخيارات المعبر عنها) قانون المالية وتفكيك الدولة الداعمة )، البحث بعيدا عن الكلفة الاجتماعية للتنمية أو التطور،.. وبمعنى آخر، إعلان نهاية النموذج التنموي القائم لا يعني بالضرورة السير نحو آخر أكثر عدالة وأقل ظلما لفئات واسعة، فالدليل الحالي هو السير نحو التخلي عن البرنامج الاجتماعي لمؤسسات الدولة من خلال رصد كل مظاهر السلب في التجربة السابقة (كتلة الأجور مثلا)، ونحو التسليم بحقيقة الأسعار وتفكيك منظومة المشترك الاجتماعي في تدبير ميزانيات البلاد، الخ. وهو أمر ليس موضوع تعريض وتشهير بقدر ما يجب أن يكون محط نقاش واضح، لاسيما وأن فئات هشة للغاية بدأت تستشعر ذبذبات الانهيار في قوتها اليومي..... هذه المدن صغيرة لكن أسئلتها كبيرة، وهي إذ ارتكنت، في التقسيم السوسيولوجي والمونغرافي إلى هامش البلاد، فإنها تزحف نحو المكان الأكثر اشتعالا: القلق الاجتماعي.. في التقسيم السوسيولوجي للتعبيرات السياسية، تقدم هذه المدن الصغيرة، عادة ومن باب المألوف التحليلي، كملجأ للتعبيرات المتضررة من تحولات الطبقات المتوسطة. وهي في تراكمات الفعل الانتخابي تقدم كاحتياطي سهل التوجيه في تدبير توازنات الحقل السياسي ودرء تقلباته المفاجئة.. لكن الواضح أن نزع الطابع الانتخابي المحض عن الالتزام السياسي والانخراط السياسي يجد كل تعبيراته هنا: الالتزام السياسي لم يعد ينحسر في التعبير الانتخابي، لهذا تنبثق في كل مناطق المجتمع تعبيرات عن مطالب سياسية معيشية وحياتية لا تمر عبر القنوات المفروض فرزها عبر صناديق الاقتراع! وهذا أعمق من تبخيس الفعل السياسي أو خندقته ضمن القوالب المعروفة في التوجيه والتأثير.... والخلاصة أن المدن الصغيرة تضع على البلاد سؤال 1 – ما قبل الدولة أو ما بعدها وما قبل السياسة أو ما بعدها. كما تطرح 2 – انهيار النموذج التنموي وعدم بروز آخر جديد متفق علي عدالته، بقدر ما ينحو التدبير اليومي إلى فرض نموذج مستوحى مما تسجله التقارير من نقط ضعف النموذج المنهار. ثم 3 – إعادة تعريف الالتزام السياسي ونزع الطابع الانتخابي عنه، وهذا تحول كبير للغاية....