لنبدأ من المشهد الأخير من هذا الفيلم، حيث نستمع إلى حوار من خارج الكادر يروي فيه البطل بعض الذكريات مع زوجته الراحلة، ومن ضمنها سؤاله لها ذات يوم: «ماذا يعني الغد؟»، فتجيبه المرأة، التي كانت مجرد امرأة عادية لا فيلسوفة، إجابة تحمل شيئًا من الفلسفة: «الغد هو الأبدية ويوم». الغد إذًا هو مجرد لحظة في المستقبل الممتد إلى الأبد وديمومة مستمرة للزمن. «الأبدية ويوم» فيلم يتناول ما قد يكون اليوم الأخير في حياة البطل، وهو شاعر يوناني (قام بالدور الممثل السويسري برونو جانز)، نعلم من السرد ضرورة إدخاله إلى المستشفى، ربما لإجراء ما خطير غير مأمون العواقب أو ما أشبه، وما تبقى لفعل ذلك فقط نهار وليله. يُبني السرد حول تلك اللحظة الوجودية بالغة الثراء في حياة الرجل، والمشحونة بشتى الانفعالات والقابلة لمختلف التحولات. الفيلم أيضًا مثل سائر أفلام أنجيلوبولوس تنويعة على ثيمة التجوال، ويتشابه مع فيلم «الفراولة البريّة» لإنغمار برغمان و»الموت في فينيسيا» للوتشينو فيسكونتي، في تساؤل إنسان لنفسه عما خسره وعما لم يحققه في حياته. فألكسندر الشاعر، بطل الفيلم، يحدّث نفسه في مرارة: «إنني لم أكمل أي شيء في حياتي على الإطلاق». يفتتح فيلم «الأبدية ويوم» بمشهد نبوئي، رغم استناده إلى ذكريات الطفولة. بعد الاستماع لصوت البحر في ضوء الفجر الشاحب، نتوقف طويلًا أمام منزل عتيق، ثم يأتي صوت من خارج الكادر لصبي يخاطب ألكسندر الصبي، لكنه مجازًا يخطب أيضًا ألكسندر الرجل المقبل على الموت، قائلا: «تعال يا ألكسندر، لنذهب إلى الجزيرة، ونغطس لنلقي نظرة على المدينة القديمة». وبعد استيقاظه من النوم، وفي مشهد تالٍ، يدير ألكسندر إسطوانة ويستمع بعض الوقت إلى موسيقاها، ثم يوقفها تأهبًا للخروج، لكن يتناهى إلى سمعه نفس موسيقى الإسطوانة مستمرة من حيث أوقفها، فيحدث نفسه: «هناك شخص ما يحب هذه الموسيقى.. إنني أتوق بشدة للتعرف عليه». هذه لحظة من اللحظات في فيلم «الأبدية ويوم» التي تكثّف الرغبة في التواصل مع الآخرين وفي إعادة اكتشاف الذات، وتتراكم عبر الفيلم من مشهد إلى آخر، وتتصاعد فيبدو الرجل قويًا في موجهة خطر الموت، وراغبًا في أن يبدأ إعادة صياغة حياته من جديد: يقترب أكثر من زوجته التي أهملها لو قُدّر لها أن تُبعث من جديد، ويصبح أكثر التصاقًا بمن ابتعد عنهم، ويعطي ابنته اهتمامًا أشد حتى لا تواجهه بمثل تلك القسوة التي لاقته بها في يومه الأخير. في الثلثين الأخيرين من فيلم «الأبدية ويوم» يضم ألكسندر طفلًا ألبانيًا هاربًا إلى اليونان، حَنا عليه الشاعر والتقطه من بين الأطفال المضطهدين الهاربين عبر الحدود. والطفل ليس طفلًا عاديًا، وإنما هو طفل موهوب أشبه بمغنٍّ شعبي يحفظ كلمات وألحان العجائز في قريته الألبانية. ومع الطفل تبرز كل السجايا الجميلة الكامنة في روح لشاعر الذي يتأهب لمغادرة العالم، والموجودة ربما عند كل فنان أصيل وصادق ومخلص، تحجبه أحيانًا بل كثيرًا اهتماماته بفنه، وعزلته التي تفرضها عليه عملية الإبداع. يصطحب ألكسندر الطفل بقية اليوم ومعظم الليل. ورغم الذاتية التي تتسع مساحة التعبير عنها في هذا الفيلم الجنائزي الجميل، والتي نستوعبها ونتعاطف معها، إلا أن أنجيلوبولس لم يتخل عن انشغاله العميق بواقع منطقة البلقان. ويتمثل اهتمامه هنا بقضية المهاجرين، فعلى مدى الفيلم نشهد مطاردات الشرطة اليونانية المستمرة للأطفال الأجانب المتسللين، وقسوة رجال الحدود الألبان لمنع عمليات التسلل. القراءة الرمزية لذلك الخط ليست عيبًا في ذاتها، فليس ببعيد عن انشغالات أنجيوبولوس تساؤله حول شيخوخة أوروبا وخطر فقدانها تلك الأوروبية الدالة عليها، باعتبارها مجتمعًا موحدًا متكافلًا يرمي وراء ظهره ثقل الماضي وصراعاته وتفاهاته العنصرية القاتلة. إن الحدود في فيلم «الأبدية ويوم» تبدو حدودًا واهية أو مصطنعة تحتاج إلى أوضاع جديدة، أو على الأقل هذا ما يوحي به أنجيوبولوس. والفيلم نفسه تجسيد شاعري رقيق للإنسانية المعذبة، وإن كان لأحد أن يزعم بأن تلك الرؤية أخلاقية طوباوية، فإن تساؤلًا مقابلًا يطرح نفسوه بقوة: ماذا يملك الفنان الأصيل غير رؤيته الصادقة في مواجهة انهيار عالمه الذي يعرفه؟ الشعر حاضر في «الأبدية ويوم»، وهو أمر مألوف في سينما أنجيوبولوس، لكن احتفائه بالشعراء في هذا الفيلم يختلف كثيرًا عن أفلامه الأخرى. فالشعر هنا ليس تعبيرًا عن ثقافة أو ثقافات، وإنما هو في صلب رسم شخصية الشاعر ألكسندر بطل الفيلم. هنا تتردد أسماء هوميروس وسيفريس وسولومون، وثمة دافع من الدوافع الدرمية يشكّل حبكة فرعية، هي محاولة ألكسندر إكمال قصيدة لسولومون، شاعر القرن التاسع عشر الذي نشأ وتربى في فينيسيا وظلّ مغتربا هناك، ولم يعد إلى وطنه اليونان إلا شابًا عندما شعر أنه يناديه أثناء حربه ضد الاحتلال الأجنبي. عاد سولومون ليشارك بشعره في المقاومة، ولكنه لم يعرف كلمة واحدة من اليونانية، فلجأ إلى حيلة غريبة لتعلّم لغة الأجداد هي الاستماع إلى الصيادين، بل وشراء مفردات اللغة منهم، حتى استطاع أخيرًا أن يجمع من الكلمات ما يجعله قادرا على نظم قصيدة. موضوع الغربة هو أيضًا من الموضوعات البارزة في الفيلم، الغربة داخل الوطن وخارجه، وغربة الإنسان في العالم بشكل عام. غربة الطفل وغربة الشاعر. والغربة تتراوح في الفيلم مع الاغتراب، رغم أنهما حالتان مختلفتان. قرب النهاية، يصطحب الشاعر الطفل الألباني إلى ميناء تسالونيكي ويطمئن إلى ركوبه إحدى العربات التي ستنقله إلى بلد آخر. والفيلم تتعدد نهاياته، ففي لحظة ما نتأهب لنهاية، ولكن أنجيوبولوس يستطرد فيقدم نهاية أخرى. والحقيقة أن هذا يفاجئنا ورغم ذلك لا يخلّ بالإيقاع العام للفيلم، أي أن تعدد النهايات قد يكون أيضًا جانبًا من بناء السرد القائم بكمله على خلق حالة تأمل. ونكتفي هنا بلقطة واحدة طويلة مشهدية من بين اللقطات الطويلة الرائعة الكثيرة في فيلم «الأبدية ويوم». تأتي هذه اللقطة قرب نهاية الفيلم، حين يستقل لكسندر والطفل باصًا خالي المقاعد إلا من محصّل التذاكر. الوقت متأخر ليلًا. نشعر أنهما يستريحان من تعب التجوال طيلة النهار. الباص بمختلف ركابه، الذين يستقلوه وحدا وراء الآخر، يبدو وكأنه صورة أو مجازًا لجوانب من واقع اليونان الحديث والمعاصر. يقدم أنجيوبولوس مشهدًا مسرحيًا من حيث الميزانسين (Mise-en-scène)، ولكنه مصور بأسلوب سينمائي رفيع يمتزج فيه الواقع بالخيال. من داخل الباص، نلمح في البداية مظاهرة، ثم يستقل أحد المتظاهرين الباص حاملًا معه علمًا أحمر لا تخفى دلالته، قبل أن يسقط في النوم والعلم بين ركبتيه. وبعده يصعد إلى الباص طالبان، شاب وفتاة متحابان لكن حديثهما يوحي بسوء تفاهم وافتقاد للثقة. أثناء ذلك يتحوّل الباص من عربة قديمة الطراز إلى عربة حديثة. وبعد ذلك تدخل إلى الباص فرقة موسيقية يتخذ أعضاؤها وضع العزف ويبدؤون في عزف موسيقى كلاسيكية من النوتة. وأخيرًا ينضم شاعر القرن التاسع عشر إلى ركاب الباص بهيئته المميزة مرددًا بيت الشعر الذي تحتاج القصيدة بعده إلى أن تكتمل، فيكمل ألكسندر باقي القصيدة.