لا تحلم جهاد عبد ربه ذات الثلاثة وعشرين ربيعاً، سوى بالعودة إلى بيتها في غزة، وأن يرد الله لها بصرها الذي غيبته قذائف الاحتلال، لتحتضن أطفالها الثلاثة من جديد، وتعتني برهف ابنة السنوات الست المتلهفة لسنتها الدراسية الأولى. ولكن جهاد التي ترقد على سرير الشفاء منذ عدة أسابيع في مستشفى المقاصد الخيرية؛ لم تدرك بعد أن طفلتها رهف وزوجها علاء قد التحقا بآلاف الشهداء الذين سرقتهم يد الموت والقذائف الصاروخية الإسرائيلية المنهمرة على قطاع غزة، في عدوان استمر لواحد وخمسين يوماً. خمس عشرة قذيفة انهمرت في التاسع والعشرين من يوليوز الماضي على منزل العم فايز أبو عسيلة في جباليا، والذي لجأ إليه أفراد العائلة ظناً منهم أنه البيت الأكثر أمناً من نيران القصف الإسرائيلي، أوقعت تلك القذائف سبعة منهم شهداء، وأبقت الآخرين يعانون من إصابات مختلفة، حيث توزع جرحى عائلة عبد ربه وأقرباؤهم من عائلة عسيلة على مستشفيات غزة، والقدس، وتركيا. بداية الحكاية بدأت قصة جهاد حين كانت تحمل ابنتها وتهمّ بالخروج من البيت، لتباغتها قذيفة إسرائيلية مباشرة، تسببت بتفتت عظام فخذها، واختراق الشظايا لجسدها، والألم الأعظم كان في إصابة عينيها بحروق شديدة، مما تسبب في انعدام مؤقت لبصرها. وتروي جهاد ما حدث بصوت خافت، تخنقه عبرات الألم النفسي والجسدي بعد خروجها من العملية الجراحية السادسة: «فيما كنا نهم بتحضير العشاء في بيت خالي، فاجأتنا قذيفة إسرائيلية سقطت في المطبخ لتوقع زوجة خالي مصابة على الأرض وهي تنزف، فركضنا جميعنا للاختباء أسفل درج المنزل، أما أنا فحملت أطفالي مسرعة، ولكن قذيفة جديدة عند الباب أصابت فخذي إصابة مباشرة، وتسببت لي بنزيف حاد وقوي، وبسبب كثافة الدخان لم نعد قادرين على رؤية بعضنا البعض، أما أنا فلم أعد قادرة على الإبصار بشكل تام». تبكي جهاد بعينيها المغمضتين، حيث لا تزال شظية صغيرة غائرة في عينها اليسرى، وتمنعها من الرؤية، بينما استطاع الأطباء معالجة عينها اليمنى، وتنظيفها من الشظايا، وتمكينها من الرؤية حتى وإن كانت غير واضحة تماماً، وتكمل حديثها: «استشهد أخوة زوجي الأربعة، وزوجة خالي، وأصيب أطفالي بركة (6 أعوام) وجمال (عامان)، أما زوجي علاء وابنتي رهف التي أصيبت في الرأس، فقد قيل لي أنهما في حالة موت سريري في مشفى الشفاء بغزة». يومٌ بألف ذكرى تضيف جهاد: «بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى مستشفى الشفاء أزال الأطباء القطن عن عينيّ، فاكتشفت أنني بالكاد أرى الخيالات، فبدأت بالصراخ والبكاء حينما شعرت بأنني قد فقدت نعمة البصر، وأخذت أفكر بأسرتي وأطفالي، وكيف سأعتني بهم بعد الآن، وخصوصاً رهف التي ستبدأ الدراسة بالصف الأول، فكيف سأقوم بتدريسها بعدما فقدت بصري، رغم ذلك فقد كنت راضية بما كتبه الله تعالى لي». في ذات الليلة الظلماء كانت جهاد تستعد للاحتفال مع زوجها بعيد مولده وذكرى زواجهما، إضافة إلى عيد ميلاد ابنتهما (بركة)، غير أن التاريخ ذاته بات ذكرى استشهاد زوجها وطفلتهما (رهف)، وأمه وإخوانه. وأكثر ما تستذكره جهاد في تلك اللحظات المرعبة التي خيمت على البيت، صوت أخيها عمار الذي كان يبحث عنها، ثم قام بحملها إلى سيارة الإسعاف بمساعدة أخيه علي، فعمار لم يكن متواجدا في البيت لحظة القصف، إلا أنه وأخاه علي كانا شاهديْ عيان على أصوات الأنين، ولحظات موت أحبائهما. البحث عن الأحياء أما والدة جهاد (أم محمد) والتي أصيبت هي الأخرى في منطقة الحوض، بعدما استهدفتها قذيفة أخرى، فقد استشهد ابن أخيها في حضنها، وتقول: «بعد وقت طويل وصلت سيارة الإسعاف، فبدأ زوجي بالصراخ والنداء على أولادي ليعلم من منهم لا يزال على قيد الحياة، وبعد أن تمكنّا من إيصالهم إلى السيارة، وفي الطريق إلى المشفى استهدفت قذيفة إسرائيلية طاقم الإسعاف، حيث وصل المسعف إلى المستشفى شهيدا». وتجري أم محمد في حديثها باكية غير قادرة على حبس دموعها وانفعالاتها، حزناً على ابنتها التي تصفها بأنها كانت من أجمل النساء، ذات العينين الخضراوين: «لطالما حلمت جهاد بأيام سعيدة ومفرحة، لكنها لم تكن تعلم أن هذه السعادة المتمثلة في عودتها إلى حضن أسرتها، قد تأتي بعد هذه الجرعة القوية من الألم والحرمان»، وتضيف: «لن أخبر جهاد باستشهاد طفلتها وزوجها إلا بعد أن تُتمّ علاجها، وقبل أن نعود إلى غزة، فحالتها النفسية لم تتحسن إلا قليلاً، وأخاف أن تتراجع صحتها النفسية والجسدية، فتصبح غير قادرة على الاستجابة للعلاج». رحلة أمل وتؤكد أم محمد أن جهاد مرتاحة جداً في المستشفى، بفعل الأمل الذي يبثه الأطباء فيها، وطمأنتها بأن البصر سيعود إليها، وأنها ستستطيع السير على قدميها، ولكنها بحاجة إلى المزيد من العمليات والعلاج الطبيعي لتتمكن من ذلك في غضون عام على الأقل. وبسبب ما تشعر به جهاد من اطمئنان للأطباء المتابعين لحالتها، فقد رفضت أن يتم نقلها إلى المشافي التركية، وفضلت استكمال علاجها في مستشفى المقاصد، حيث تؤمن العائلة بإمكانيات الكادر الطبي فيه. وتنهي أم محمد حديثها بالقول: « علينا حمل ثقيل في غزة بعد العودة، وندعو الله أن يكون ما تعرضنا له كفارة لنا يوم الحساب». ويصف الطبيبان هيثم الحسن، رئيس قسم الجراحة العامة في المقاصد، والطبيب حازم البربراوي الطبيب في قسم الجراحة العامة؛ حالة جهاد ب «المطمئنة»، وذلك بعد تخوف الأطباء بسبب وضع رجلها، والتي كانت مهددةً بالبتر، ولكن وبعد إجراء ست عمليات جراحية لها، تم إخراج الشظية من عينها اليسرى، ومعالجة العظام المفتتة في فخذها، حيث أن قرابة ثلث عظم الفخذ قد تفتت، لذلك باتت جهاد بحاجة إلى مرحلة طويلة من العلاج لإطالة العظام، بالإضافة إلى عملية إزالة الضغط عن الأوعية الدموية الناجم عن إزاحة بعض أجزاء العظم في الرجل. انتهت الحرب ولكن! وبمجرد الإعلان عن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، انتاب جهاد شعور بالراحة والطمأنينة على من تبقى من الأحباب، ولكن مشاعر الغصة والألم على من رحلوا من الأقرباء سيطرت على جهاد التي لم تعلم بعد أن زوجها وطفلتها قد استشهدا، كما سيطرت على جريحة أخرى ترقد على سرير مقابل لها، وهي نهى عياد من حي الشجاعية، فنهى علمت منذ وقت قصير فقط بأن زوجها وطفلها الذي رزقت به بعد ثماني سنوات من الانتظار، قد استشهدا أيضاً، وتلك حكاية أخرى.