لابد لي في هذه الورقة الختامية عن سنوات الفقيه بن صالح من الحديث عن العلاقة بين الزملاء سواء في الداخلية ، أو في فضاء الثانوية . في البداية شاب هذه العلاقة نوع من الحذر ، لذا كان الذي يتحكم فيها على الأقل في الشهور الأولى هو الانتساب إلى الجغرافية ، بحيث يعيش القاطنون في الداخلية وقتهم الثالث كمجموعات : مجموعة أزيلال ، مجموعة واويزغت / بين الويدان التي أنتمي إليها ، مجموعة وادي زم ، مجموعة تادلة ، مجموعة القصيبة ، وهكذا تبعا للانتماء الإقليمي . يضاف إلى الجغرافية التاريخ المشترك لأعضاء هذه المجموعة ، أو تلك ، لأنهم قضوا سنوات كزملاء وربما كأصدقاء في الإعدادية التي وُجِّهوا منها كداخليين إلى ثانوية الكندي . يحدث أن تتجاور مجموعة مع أخرى في خرجات نهاية الأسبوع ، خاصة في فصل الربيع ، حيث تحلو النزهات بين الحقول وبساتين الزيتون المحيطة بالمدينة . تنتشي النفوس ، وتشرع في الغناء ، فتسمع في هذه المجموعة موالا أمازيغيا، وفي الأخرى " عَيْطة " مَلّالية ، أو زَعْرِيَّة . تتداخل الأصوات والأهازيج ، وتعقب كل ذلك الحبور ضحكات عالية مسترسلة . بعد التعايش ، وأخذ من الوقت ما يكفي ، بدأ الانفتاح لتتأسَّس خارج السِّرْب صداقات أخرى . كنت أول المنزاحين عن مجموعتي . انفتحت على أصدقاء آخرين ، وتعرفت من خلالهم على تجارب أخرى في الحياة . من هؤلاء كريم قندوس، الذي كان ينافسني في كتابة الشعر، ولما أجريت المسابقة على صعيد الثانوية حصلنا معا على الجائزة الأخرى . كاد النقاش أن يكون حادا بين عضوين في اللجنة ، وهما الأستاذ عبد الله راجع من جهة ، والأستاذ أحمد عابدي من جهة ثانية . الأول تحمس لقصيدتي لأنها الأقوى من حيث الخيال ، والصور الشعرية ، أما الثاني فقد رجح قصيدة كريم قندوس ، لأنها الأجمل من حيث الإيقاع . بعد أخذ ورد قررت الجنة أن تمنح لنا معا الجائزة الأولى . هذا التنافس لم يفسد للود قضية ، وأثناء أحاديثنا الطويلة نتحدث عن كل شيء ما عدا الشعر، كما لو أن كلا منا يخشى أن يكشف سرا من أسرار شغبه على البياض . كانت جماعة كريم قندوس أهم التجمعات الصغيرة داخل الداخلية . يتميز أفرادها بالأناقة في المظهر ، والسلوك . لا ينتمون إلى جهة ، أو مدينة واحدة . مجتهدون ، وفي نفس الوقت مقبلون بكل ما يملكون من جنون على الحياة . يفيدون ، ويستفيدون ، و بفضل أحدهم قرأت فصولا عديدة من كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين ، كما كنت أسعد بما يجودون به من مستملحات و نكت تقوم على مفارقات عجيبة . كان التعاطف قويا بين هؤلاء ، يساند بعضهم البعض ، خاصة عندما ينفذ مصروف الجيب ، فكان الذي يملك هو من يسعف الآخرين ، في انتظار حصولهم على النقود من أولياء أمورهم . كانت هذه الجماعة مدرسة أخرى تعلمت فيها بعضا من أبجديات الصداقة ، التي قال عنها أرسطو بأنها عطف متبادل بين شخصين ، حيث يريد كل منهما الخير للآخر . كان معظم أفراد هذه العصابة الجميلة في قسم الباكالوريا ، أما أنا فقد كنت في السادسة [ أولى باك الآن ] . ترتب عن هذا التفاوت أنهم بعد نجاحهم في اجتياز امتحان الباكالوريا ذهبوا إلى وجهات عديدة ، وانقطعت أخبارهم ، وما تبقى ذكريات تحكي عن الزمن الجميل . صداقات تأسست على الصدق في التعامل ، وتوثقت أكثر من خلال التعاون في الدراسة والتحصيل . في هذا الإطار أذكر صديقي حسن بوشكيرة . كنا مجرد زميلين في الداخلية ، وفي الفصل ، لكن في السنة النهاية من تعليمنا الثانوي قرننا أن نتعاون معا لمواجهة صعوبات المقرر الدراسي ، وطول مواده . لا نكاد نفترق ، سوء داخل فضاء الثانوية ، أو خارجه . انشغالنا الأساس هو النجاح في اختبارات الباكالوريا ، لأنه الخطوة الحاسمة باتجاه المستقبل. استطعنا معا أن نتغلب على المقرر الدراسي ، وكان كل منا لا يبخل على الآخر بمعلومة ، أو إفادة . وجدنا في العمل الجماعي وسيلة لا غنى عنها للتغلب على الدروس ، التي تراكمت من بداية السنة . جربنا الوسائل كلها لاختزال جهد الحفظ ، وضجره ، وربما كانت أحسن طريقة هي تلخيص الدروس في نقط مركزة يتم الاعتماد عليها في استعادة المعلومات المطلوبة ، وترسيخها في الذهن . بعض المواد كالرياضيات تحتاج إلى الكثير من التمارين . من الأصدقاء أيضا برنكي بوعزة ، الذي توثقت صداقتي به أكثر في كلية الآداب بالرباط ، ثم سنة بعد ذلك في المدرسة العليا للأساتذة . في هذه الورقة أستحضره كما عرفته في تلك السنوات ، ونحن في رحاب ثانوية الكندي الزاهرة . كان بوعزة آنذاك نحيفا طويل القامة ، هادئ ، وودود ، وفي عينيه نباهة لا تخطئها العين . ذكي ، وينجح دائما بامتياز. يساعد الأب في الدكان ، ويواظب على دروسه . صاحب روح مرحة ، وحيث هو ثمة انشراح . يستدعي من التراث العربي الإسلامي مستملحات خفيفة الظل . كان منذ ذلك الوقت في زمن المراهقة كثير المطالعة . يقتني كلما أسعف الجيب كتابا ، ويسعد غاية السعادة . أصدقاء ، وزملاء آخرون ظلت الذاكرة تستحضر صورهم ، ولم يقو الزمن على محو بهائهم من سجل كل الذي كان . لا شك أن كل أفراد ذلك الجيل يحتفظون في الشغاف بذات السجل ، لأنه أرَّخ للإنسان ، كما المكان في لحظة من زمن لن يتكرر. أرَّخ لحيوات كانت لعدة سنوات متجاورة . أرَّخ للحلم والأمل ، ولوثبة آمنة اتجاه المستقبل .