صدر عن "جداول للنشر والتوزيع والترجمة" ببيروت مؤخرا ترجمة كتاب "نقد الفلسفة الكنطية لأرتور شوبنهاور" من ترجمة وتقديم الباحث المغربي حميد لشهب. ظلت فلسفة شوبنهاور غائبة إلى حد ما على الساحة الفكرية والفلسفية العربية الإسلامية، ولم يُتطرق له إلا مناسباتيا وفي عجالة، على الرغم من الأهمية القصوى لفكره الفلسفي. ومن المعلوم أن هذا الأخير قد أثر على أجيال من الفلاسفة الغربيين بأكملها ويعرف في الوقت الراهن، وبالخصوص في ألمانيا، نهضة جديدة وانتعاش ملموس، يمكن للمرء لمسه في إعادة طبع أمهات كتبه وقيام العديد من الجمعيات الفلسفية التي تحاول إعادة إحياء فكره. ساعدت تربية شوبنهاور وأسفاره المتعددة على الإنفتاح على ثقافات وعقليات أخرى ومكنته اهتماماته الفكرية والفلسفية من التحرر من إرثه المسيحي، بل فهم خطورة المركزية الأوروبية ورغبتها للسيطرة على الآخرين. ومن المعروف أنه كان قد قطع مع الدين المسيحي وكان شغوفا بروحانيات الشرق وفلسفاته وواع بخطورة محاولة الدول الأوربية فرض تصورها للعالم على الشعوب الأخرى. طور شوبنهار فلسفة التشاؤم. لكن لا يجب هنا فهم مصطلح "التشاؤم" في معناه القدحي، بل هو في العمق عنده وعي شامل وعميق بالحياة وبالعالم وإكراهاتهما. بمعنى أن التشائم هو تأمل حياة ومصير الإنسان في هذا العالم الطبيعي المعقد، الذي يفرض إكراهات وحدود بيولوجية وعقلية على الإنسان ومحاولة إيجاد مخرج للكثير من المشاكل الوجودية التي يعيشها، بوعي هذه المشاكل ومحاولة تجاوزها. أثرت الأفكار الفلسفية لشوبنهاور وما تزال تؤثر منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا. وقد تجاوز تأثيرها التخصص الفلسفي وحدث في الأدب والفن والنظرية النقدية الإجتماعية وعلم النفس إلخ. كان ماينليندر أول من انتبه إلى أهمية شوبنهاور الفلسفية وتبعه على المشوار إيدوارد فون هارتمان وفريديريك نيتشه وأولريك هورستمان وفيتغنشطاين وفريتس ماوتنر وسيغموند فرويد وكارل بوبرو بيرغسون وماكس شيلر وطوماس مان وسامويل بيكيت وطوماس بيرنهارد وماكس هوركهايمر وفيلهالم رابس وطوماس هاردي وإيفان تورغينيف وفيودور سولوغوبس وليف تولستي ومارسيل بروست وألبير كامو وأرنولد شونبيرغ وكاندينسكي ومالافيتش وغيرهم كثير. لم يكن اهتمام شوبنهاور ب "نقد العقل الخالص لكنط" من باب النقد الهدام، بل كان يعتبر نفسه الوارث الشرعي الوحيد لهذه الفلسفة، ومن تم إحساسه بواجب تصحيحها وتكميلها وتقديمها في الصورة الصحيحة لها. فقد كان يكن لكنط الإحترام الكامل ويعتبره من كبار الفلاسفة الألمان. يؤكد المترجم حميد لشهب بأن الهدف الرئيسي من ترجمته ل"نقد الفلسفة الكنطية" لشوبنهاورهو فتح نافدة على الفكر الفلسفي لهذا المفكر، الذي لم يصل الساحة الثقافية والفلسفية العربية والإسلامية عنه إلا الشيئ القليل، على أمل المساهمة بهذا في إكمال وعينا بالغرب فكرا وفلسفة وعدم التهريج لهذا الفيلسوف عوض الآخر، بل بأخذ مواقف حاسمة مما روجه ويروجه الغرب عن العرب والمسلمين. ويعتقد بأن الأهمية القصوى لشوبنهاور تكمن في شيئين متكاملين: هناك من جهة تصديه "للمركزية الأوروبية" ولكل نتائج هذه المركزية على الشعوب والأمم الأخرى. ومن جهة أخرى تمييزه بين العقل العملي والعقل النظري: الأول هو سبب مئاسينا، لأن الغرب يطبق دون هوادة هذا العقل في تعامله معنا، ولأن الأغلبية الكبيرة منا لا تعرف ولا تعترف إلا بهذا النوع من العقل، على الرغم من حدوده ومخاطره. أما العقل النظري فإنه وُضِعَ جانبا في أدبياتنا الفكرية، على الرغم من أنه موجود في ثقافاتنا إن على المستوى العقائدي أو الفكري. وهو الذي بإمكانه مساعدتنا من أجل التنظير إلى فلسفة الحرية، التي نتتوق لها في عالمنا العربي الإسلامي الحالي والقضاء على بؤر التوتر بين المذاهب الدينية والقبلية، مادام المطلوب هو بناء مواطن عربي "عاقل" ومسؤول وعدم الإكتفاء بمحاولات استيراد أنظمة حكم مؤسسة على العقل العملي الإستعماري، مرة لإرضاء المحتل الغاشم ومرة لخداع شعوبنا وهدم أمل "إرادة الحياة" فيها بمس كرامتها واختياراتها.