الكتابة هي إبحار، تنزه وتحليق في عوالم مختلفة. فبين المادي واللامادي، وبين الشك و اليقين، وبين الحقيقة والخيال، تتراص الكلمات وتتبعثر لتعبث بالرتابة التي تعصف بروح الإنسان فينا. فلا يوجد شيء حقيقي في هذه القصة باستثناء مولانا جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي. ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن تفنيد أي شيء، لأنه خلف الخيال تتجلى الكثير من الحقائق. بمنطقة السلطان أحمد المزدحمة، في الجانب الأوربي من مدينة إسطنبول القديمة، حيث تنتشر المتاحف والمطاعم و البازارات، أثار انتباهي في أحد الأزقة الجانبية، مطعم صغير يقدم أكلات شعبية قونية، نسبة إلى مدينة قونية التي تقع جنوب غرب تركيا. قد يرتبط الإنسان بأشياء لا يعرفها وبأماكن لم يزرها وبأشخاص لا يشبهونه، وهذا ما حصل معي في ما يخص مدينة قونية. فهي لا تتركني محايدة أبدا. فتجدني أنطقها بعذوبة وشاعرية وكأني أخاف أن يقسو عليها لساني فأجرحها، كما أن حواسي تتقد وأشعر ببعض الاضطراب كلما قرأت أو لمحت شيئا يوحي بها، وأنا بذلك أشبه كل عاشق يضطرب عند سماع اسم محبوبه. قد تكون قونية توحي لي بالحب المطلق الآسر والغامض، بهذا الحب القابع في أرواحنا و النائم في أعماقنا بأرق، فتجده تارة يستيقظ مفزوعا على حين غرة، وتارة يتقلب بين جانبي القلب والعقل باحثا في أي الجانبين سيجد راحته ليستكين، هذا الحب الذي يذكرنا بنور الكون، وباضطراب البحر وبسر ووهج الحياة الخالد. أوليست قونية هي من استقبلت روحين عاشقتين فامتزجتا لتصبحا شيئا واحدا آخر لا يشبه هذا ولا ذاك؟ أولم تستقبل قونية أول لقاء للعلامة جلال الدين الرومي المرتبط اسمه بمولانا، والدرويش الثائر شمس الدين التبريزي؟ المطعم ضيق ومظلم من الداخل، توجد مقاعد مخصصة للمطعم تحتل الزقاق، أخذت مقعدا بالخارج، أريد أن أستمتع بالهواء والضوء الطبيعيين وأن أتأمل حركة العابرين في الزقاق. البشر متشابهون في الجوهر ومختلفون في الظاهر. فوحدها طريقة التعبير تختلف من ثقافة إلى أخرى، أما الهواجس والرغبات والأحاسيس فهي واحدة. فالألم الإنساني في قونية هو نفسه في سوريا، هو نفسه في بغداد هو نفسه في بوسطن، و كذلك الحب. عندما يمر بعض الأتراك من زقاق المطعم، أتذكر الآية الكريمة «وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات»، فالأتراك لا يمكن أن تخطئهم بالشارب الذي يميزهم، والقوة التي تنبعث منهم وتقديرهم لروح الزعامة، حيث ستلحظ بدهشة أن «كبير المجموعة» يمشي في المقدمة بثبات وقوة واعتزاز تاركا باقي الأفراد يمشون خلفه باستكانة. فتشعر بأن الشعب التركي تربى على احترام وطاعة الكبير أو القائد أو الزعيم كتقليد راسخ موروث أبا عن جد. أخذت بقراءة قائمة الوجبات المقترحة. معظمها مكتوب بالتركية ومترجم بالأنجليزية. توقفت عند وجبة « مولانا». تخيلت نفسي بمزيج من الشقاوة والاستمتاع آكل مولانا جلال الدين الرومي بستة وعشرين ليرة. بدت لي الفكرة لطيفة ومثيرة، تخيلت في الحي اللاتيني بباريس، أطعمة تحمل مثلا حساء جاك بريل، سلطة شارل بودلير، صحن فان جوخ، عصير بول غوغان. هل يمكن أن نربط مذاق ومزاج أرواح البشر بوصفات الطعام؟ كثيرا ما نضحك مع الأطفال الصغار ونوهمهم بأننا سنأكلهم. عندما يعجبنا أحدهم نصف بأن روحه حلوة كالسكر، أما بعض الأرواح نجدها مرة كالعلقم فتجدنا نصرح لأصدقائنا بأننا نجد صعوبة في هضم بعض الأشخاص حولنا. أليس من الطريف أن نجد أنفسنا نتحدث عن بعض الأشخاص كأنهم وجبات في مطعم، وأن يتحدث عنا بعض الأشخاص كأننا أكلات دسمة؟ مسرورة لأن مولانا جلال الدين الرومي سيكون أكلتي، وأنه سيزين طبقي كما زين في وقت سابق عقلي وفؤادي بأشعاره وحكمه. تملكني الفضول وأنا أتساءل كيف تخيل أهل قونية مذاق مولانا؟ حلو؟ مر؟ لذيذ؟ و تساءلت هل سيعجبني مذاق مولانا؟ تذكرت بعض المقاطع في مراهقتي. كنت عاشقة للمغني البلجيكي جاك بريل. لهذا أول و آخر مرة تغيبت عن المدرسة كان لمشاهدة فيلم لجاك بريل « المغامرة هي المغامرة». تخيلت أن الفيلم سيكون عاطفيا وأن جاك بريل سيغني في الفيلم على غرار أفلام عبد الحليم حافظ وشادية. ولكن الفيلم كان خيبة أمل كبيرة لي. جاك بريل لم يغن، كما أن الفيلم لم يكن عاطفيا إطلاقا، والأهم، لم يبد لي جاك بريل ذاك الرجل الوسيم الذي كنت أتخيله. تملكني شعور من قام بمجازفة من أجل جواد خاسر. قرأت بعدها كتابا يحكي عن حياته. شعرت بخيبة أمل جديدة: لم يكن أبا جيدا ولم يكن زوجا جيدا ولم يكن عاشقا جيدا، ولم يكن سعيدا وظل يشعر بالوحدة رغم شهرته ونجاحه. فتوقفت عن حبي لجاك بريل كفارس أحلام و كقدوة وأصبحت أركز فقط على أغانيه. وأدركت مع الوقت بأن معظم البشر على أرض الواقع، عاجزون بشكل أو بأخر أمام الحياة. أحضر النادل طبق مولانا. يشبه البيتزا ولكن بعجينة رقيقة جدا وتقليدية. أخذت قطعة لأتذوقها وخيالي يحاول أن يرسم ملامح مولانا جلال الدين الرومي بعمامته وسكونه الداخلي كصخرة أفنت حياتها لتنصت لصوت البحر ولتغتسل وتتطهر بأمواجه. أما جلال الدين الرومي، فكان يبدو لي بأنه أفنى حياته ليسمع صوت الكون وليصطدم بروح روحه. كانت لديه شجاعة نادرة ليتخلى عن كل شيء بناه من أجل أشياء كانت مبهمة و تشبه نطفة لم يكن يعرف إلى ماذا ستؤول في النهاية؟ قد يكون لقاء جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي هو اصطدام العقل بالقلب، هو اصطدام المادي باللامادي، هو اصطدام القانون الوضعي بالعدالة الكونية، هواصطدام الجسد بالروح وتمردها عليه للخروج من سلطانه. فجلال الدين الرومي كان قد أشرف على الأربعين، وكان علامة ذا مركز ومكانة في قونية، يحترمه الصغير و الكبير ومقربا من السلطة و يعد من أعيان قونية أنذاك. و لكن رغم كل ما وصل إليه، كان يشعر بخواء في روحه وكان يبحث عن شيء لا يدرك كنهه. أما شمس الدين التبريزي فلم يكن أكثر من درويش تجاوز الستين، يحمل في جسده روحا ثائرة متمردة لا تريح ولا تستريح، فجاب الدنيا طولا وعرضا، وأبحر في طبائع الناس على اختلاف عاداتهم وألوانهم، فتمرد على التقاليد والعادات محاولا الغوص في باطن الأمور ، فاشتهر بين الناس بطباعه السيئة، كما اتهم بممارسته السحر الأسود. ولكنه عندما شعر بقرب نهايته، قرر أن يبحث عن شخص يلقنه ما تعلمه في الحياة من أسرار و يدرسه قواعد العشق الأربعين، مذهبه في الحياة. لم يكن يبحث عن تلميذ، ولم يكن يبحث عن أستاذ أيضا. بل كان يبحث عن ند لروحه. فشاءت الأقدار أن يلتقي جلال الدين الرومي بشمس التبريزي، فصرخت الروحين في أن واحد « هو ما أبحث عنه». فاصطدمت روح جلال الدين الرومي بروح شمس الدين التبريزي وامتزجا مع بعضهما البعض فأعطت روحا صوفية شاعرة وعاشقة. لا أحد من المؤرخين، استطاع أن يغوص في ماهية شمس الدين التبريزي، هذا الدرويش الذي عشقه جلال الدين الرومي حد الحزن العميق لفقدانه والذي كتب عنه « إنني أنت» كما كان يردد مرارا بأنه يكتب بقلب ولسان شمس الدين التبريزي. لا أحد من المؤرخين استطاع أن يفهم سر استسلام وخنوع جلال الدين الرومي العلامة الموقر في زمانه إلى روح شمس الدين التبريزي حد الإذلال المفرط. فقبل أن يلقن شمس الدين التبريزي لجلال الدين الرومي «قواعد العشق الأربعون»، وضعه في قفص، وطلب من تلاميذه زيارته بمبلغ من المال، فكان بعض التلاميذ يصطدم برؤية أستاذه جلال الدين الرومي في القفص، و كان هناك من يسخر منه ويضحك. كما أمره وهو الفقيه الملتزم أن يزور الحانة وأن يأتيه بقارورة خمر أمام أعين أهل قونية. وفي كل هذا، كان جلال الدين الرومي يمتثل لأوامر شمس الدين التبريزي بخضوع وطاعة كاملتين. فقال عنه شمس الدين التبريزي بعد أن أنهى اختباراته الغريبة على جلال الدين الرومي بأنه لا يحمل ذرة حقد في روحه وتأكد بأنه هو الشخص القادر على فهم قواعد العشق الأربعين وإيصالها للعالمين. قد يكون شمس الدين التبريزي، لم يكن يهدف في اختباراته إلى إذلال جلال الدين الرومي، بقدر ما كان يهدف إلى أن يقزم «الأنا» المتضخمة التي كانت توجد لدى جلال الدين الرومي بحكم شهرته الواسعة واحترام أهل قونية له. فربما شمس الدين التبريزي كان يدرك بأن الجسد ليس أكثر من مسكن للروح، و بأن الروح هي التي عليها أن تبرز وليس الجسد، ولهذا عمل شمس الدين التبريزي على تحرير جلال الدين الرومي من قيد السمعة و المكانة، حتى لا يصبحا عائقين يمنعانه من رؤية جوهر روحه والوصول إليها، و قد يكون جلال الدين الرومي العلامة المتفقه في الدين فهم مقاصد شمس الدين الرومي، فاستسلم له أمام دهشة أهل قونية واستغرابهم لما آل إليه علامتهم وفقيههم المبجل. قضمت قطعة من مولانا، لم أستسغ مذاقها، قوي ومالح جدا. فتذكرت أن العشق أساسه الاستسلام ونسيان الأنا والغوص في الآخر للوصول إلى جوهر الروح، فالتهمت طبق مولانا باستسلام وخنوع وفي كل قضمة يسرح خيالي في ماهية وكنه روح جلال الدين الرومي.