لا تسعف أدخنة القنابل المسيلة للدموع في قراءة المشهد بوضوح! لا يسعف الضحايا في تأويل الحدث، بعقل هادئ وبارد كجراح محترف !... لكن وسط التوتر والصيف الذي لا يشبه نفسه هناك إمكانية لقراءة لا تردد البدهيات الحقوقية نفسها والمقولات نفسها..بالضرورة! قراءة ترى أن في الحدث، بين دموع المحتجين وإصرار الدولة على حقها في تأويل الفضاء العمومي، هناك مياه كثيرة تحت جسور مقطوعة! هناك ، في المحصلة ثلاثة أزمنة متراكبة في نفس الزمن الحالي: زمن المصالحة وبداية العهد الجديد والريف معني بالمصالحة التاريخية والمصالحة اللغوية والمصالحة المجالية على أقل تقدير.... وهناك زمن فبراير 2011، بما هو تعريف العهد الجديد لنفسه، رسميا ودستوريا من خلال وثيقة فاتح يوليوز من نفس السنة وإعادة تعريف نظام الملكية على ضوء المصالحة والتطور، وقد كان اختبار الجهوية، بما هو إعادة تعريف للدولة والنظام على قاعدة اللامركزية ، من صميم الريف، والذي يشكل، من بين جهات نادرة هوية متكاملة الجغرافيا والثقافة والتاريخ، نسقط هويتها كثيرا في التحاليل العامة والتنميطية في معالجة الوضع، والهشاشة والازمات المتعلقة بالحكامة، لكننا نحتفي بها في الاحتفاء العام بالجهوية!! وهناك زمن ما بعد انتخابات 20150و2016، بما حبل به من تأويل سياسي لموازين القوة وموازين المعني.. وفي الريف مختبر حقيقي ، لعل أهم ميزاته أن تأسيس الفعل السياسي على زواج «الماركوتينغ» والفعالية التقونوقراطية ، لتعويض القناعات والتصويت العام والرحم الشعبي في إنجاب السياسات، يؤدي -على أكبر تقدير -إلى لجن التحقيق .. ولجن التفتيش، ولو من رحم الزواج ذاته ! ومن جوهر هذا التراكب السياسي يمكننا أن نكتفي بتجزيء بسيط مفاده أن أحداث الحسيمة سمحت بأن تعود ،الذاكرة إلى حاضنتها التاريخية، في تعالق واضح بين ذكرى معركة أنوال ورمزياتها التي تتجاوز الأحزاب والطبقات و...بين الحراك. بين المكان والحمولة المهيكلة له.. بين النسيان والسياسة.. ** في القضاء والحراك... والنيابة العامة أولا! فالسياسة كانت أمامها فرصة لكي تعود إلى جوهرها كما هي في الأصل ، أي باعتبارها بحثا عن الحلول لأزمات العلاقة بين الدولة والمجتمع.. وليس صدفة أن التزامن المغربي، يربط بين النقاش العمومي حول .. القضاء وبين المنع وبين السياسة وبين القوة كما تستعملها الدولة والفضاء العمومي.. ليس صدفة أيضا أن أسئلة غير مسبوقة تعود لطرح نفسها، لأن الذي يحدث هو أن السياسة تحررت من جزء كبير من الأجندات الخاصة بالهيئات السياسة (أطرتها مقولات التحكم، والتديين السياسي للفضاء العمومي، والدولة العميقة.. والترابط بالخارج وخرافة الربيع العربي.. إلخ)، لتعود إلى صلب المطالب التي تلهب مشاعر الناس: أي جدول الأعمال الاجتماعي والاقتصادي.. والحقيقة أن الذي «أغنى» الأجندة، وأضاف لها ما لم يكن في الأصل، هو الاعتقال السياسي... ولهذا عندما تقف القضية كلها في قرار، واحد ووحيد هو ضرورة إطلاق السراح، يصبح اللعب ، سياسيا محشورا في الزاوية الضيقة!.. ففي الوقت الحالي يتم نقاش حول النيابة العامة التي تم فصلها عن وزارة العدل: وهنا لا يهم صحة القرار ضمن الشروط الحالية ، كخطوة إلى الأمام أو خطوة إلى الوراء، لكن من شروط إنجاح هذه الخطوة، كما يقول المختصون في القانون الذين تحدثوا طوال الأسبوع حول الموضوع،هو نجاح معضلة الاعتقال الاحتياطي: الآن يتضح أن إنجاح فصل النيابة العامة عن الأحزاب في الحكومة والأحزاب والحكومة ، يمر عبر إقرار بدائل للاعتقال الاحتياطي، للمتابعة ضمن حالة سراح إذا اقتضى الأمر.. النقاش، وإن كان قد استنفد جزء منه، حول النيابة العامة وتحقيق قوة استقلالية القضاء، كان يمكن أن يدور من خلال الحراك وليس على هامش البرلمان فقط! أي، من خلال الواقع وليس من خلال النصوص التي تلمح إليه! بالرغم من استنفاد هذا الموضوع، فإن الواضح أنه لا يناقش من زاوية التوتر الاجتماعي بقدر ما يطرحه أهله من زاوية «الانسجام الشكلاني» مع تصورنا للديمقراطية... والحال أن ما يشدنا إلى طرح الموضوع هو وروده ضمن سياق عام يتميز بنوع من «القوضنة»(من القضاء) لكل ما يقع من أشياء سياسية! ..بمعنى تفضيل اللجوء إلى القضاء للحسم في كل النزاعات، والتي يمكن حلها عبر طرق أخرى كالوسائط والحلول التوافقية والاتفاقيات الحبية... *** في المصالحة والتطور والحراك ثانيا... وتعود هذه الثلاثية لكي تتحرك على ضفاف المصالحة المعنوية الكبرى، بعيدا عن قواميس التوتير والتأزيم... وقد اتضح أن كل ما يهم الريف يهم المغرب( والعكس صحيح أيضا)، وأن ما يولد في الريف لا يمكن ألا يصب في المغرب ، أو يظل محصورا بين جباله أو وديانه وخلجانه... حدث ذلك في الزمن القديم ويحدث اليوم وقد يحدث غدا في الزمن والمكان المغربيين، لهذا اعتبر الناس أن التواجد في الحسيمة واجب عين، وأنه دليل على حيوية وطنية شاملة تتجاوز النطق المجالي أو الجغرافي للاحتجاج.. لأن بند المصالحة ما زال مطروحا، وأضيفت إليه هوامش تتعلق بالتدبير الآني لمتفرعاته الاجتماعية والاقتصادية.. لا توجد الدولة لتدبير الحالات الهادئة... فقط ولا الديمقراطية لمعالجة الوضع الطبيعي الهادئ... بل الدولة والديمقراطية معا، توجدان أيضا لحظة الإمتحانات والتوترات ، وإلا فلا معنى للبحث عن تدبير سلمي للخلافات الموجودة..ولتدبير معلقات التاريخ في الراهن اليوم.. *** كان من الممكن أن تكون مسيرة 20 يوليوز، تظاهرة من خارج منطق التحدي، بل كان من المأمول، كما عبر عن ذلك الأستاذ محمد الطوزي أن تدخل في سياق العودة إلى الهدوء والمصالحة تكرس ثقافة الاحتجاج السلمي عن المطالب المشروعة التي اتفق عليها الجميع. لكن يبدو أن هناك اتفاقا على المطالب وعلى مشروعيتها واختلافا حول الطريقة وتطبيع الحراك، بمعنى تطبيع المطالب بدون تطبيع وسيلة التعبيرعنه ، بين طرفين من أطراف الفعل، هما الدولة والمحتجون.. يبدو كما لو أن هناك خيطا ناظما منذ انطلاق الموجة الثانية من الحراك أي منذ ان «انتبهت» الدولة إلى شهور الحراك: هذا الخيط هو أن الحركة تعتبر تحديا، مرة تحديا وطنيا: تهمة الانفصال تحديا عقديا: تهمة التشيع تحديا أمنيا: تهمة الإخلال بالنظام العام.. وكل هذه التحديات ولدت من رحم المقاربة الرسمية لا من شعارات المحتجين! والحال أن الاحتجاج اختط لنفسه منطقا آخر، بدأ في مغرب العهد الجديد لاعتبارات أهمها: أولا، هناك خروج من منطق التحدي إلى منطق تطبيع الاحتجاج من أجل مطالب محددة.. ثانيا: ليس هناك أي تمرد ولا انتفاضة يمكن أن تطرح على الدولة خطر الانزلاق الكبير.. ثالثا: هناك حركة احتجاج مؤطرة بكل ما يمكن أن نعرفه من أدبيات اجتماعية، الحق في التظاهر، الحق في التطبيب، الحق في التعليم إلى غير ذلك من الحقوق التي تكمن فيها جمرة الغضب.. وكان الخطاب الحكومي هو الذي التحق في الفترة الأخيرة بهذه الأدبيات عندما أقر بهذه الحقوق وليس الحراك الذي غير من قاموسه..! وعليه كان على المنطق الرسمي أن يذهب بعيدا في التحليل واستنباط العبر ...حتى والدولة تحدد الحقل السياسي للاحتجاج، الشرعي منه وغير الشرعي، لا يمكن لأي كان أن يقول بأن الذين يعارضونها من خارج الحقل المقنن، سواء العدل والإحسان أو من على أطرافه، كالنهج والمناهضين للعولمة أو حتى البيجيدي نفسه الذي يتحدث باسم الشارع، أن يقولوا أنهم يتحدثون باسم هذه الحركة التي تتجاوز الطبقات والهيئات. ... والواضح أن الأسلوب الذي اعتدناه جميعا، في تصنيف الحركية الحالية، لم يعد يفيد، والهامش المباح للوساطات التقليدية لم يعد يتعدى المساندة ، على أكبر تقدير! *** هامش له علاقة بما سبق لعلها المرة الأولى التي نخلد فيها الذكرى ببيانين، بيان للمندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير ، التي تستعيد الملحمة من زاوية وطنية واسعة وبيان سلطات الحسيمة التي ترسم لوحة الحاضر في يوم الذكرى عبر حديث عن عشرات المصابين، أمنيين ومدنيين، في صراع الحاضر.... مع الحاضر الذي يليه!!! في المسافة بين البيانين مسافة في تأويل التاريخ، و«تقنين»... الحاضر! في المسافة بين البيانين، تنويع في المقيمين في التاريخ من يراه مكانا لتمجيد الذاكرة، من يراه حضورا دائما لتمجيد القوة الاحتجاجية وخلفية للهوية الكفاحية ... وأي محاولة لتفضيل هاته على تلك محاولة تنذر بالخطر...