كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني. السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة. السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات. أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية. في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة. لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد...، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
صادفت رحلتنا الى القاهرة، إجراء فريق النادي المكناسي لمباراته أمام الزمالك المصري بالمدينة الشاطئية. قررنا بإجماع الحاضرين ان ننتقل الى تلك المدينة التي ظل التاريخ يتحدث عنها منذ عهد كيلوباترا مرورا بنابوليون وصول الى مغادرة الملك فاروق أرض مصر في اتجاه المنافي بعد أن طردته ثورة 23 يوليوز الناصرية. قصدنا محطة المسافرين لنرسم طريق السفر. اتفقنا على أن نكتري وسيلة نقل مكيفة حتى تكون رحلتنا مبنية على التخفيف. في سياق بحثنا على وسيلة النقل، فاجأنا الزميل بوشعيب النعامي بشخص غريب قدمه لنا على أنه صاحب عربة مكيفة. اتفقنا معه على الثمن وصعدنا السيارة. كانت الانطلاقة نحو الإسكندرية تقريبا في الزوال، فالحرارة في القاهرة خلال تلك الفترة تحطم الارقام، والسيارة تشق طريقها طالبنا من السائق استخدام المكيف، واذا بنا نكتشف انها عادية ولا تتوفر على المطلوب. بدأ الاحتجاج والصراخ، وكان حل صاحبنا السائق الوحيد هو مضاعفة السرعة بشكل رهيب حتى كدنا ان نفقد أعصابنا بعد أن وقف معنا الحظ في مناسبة كادت أن نكون خلالها في تعداد الراحلين. استمرت هذه الرحلة في أجواء حارقة، فلم يكن أمامنا سوى إزالة ملابسنا وفتح نوافذ تلك السيارة الملعونة. في لحظة من اللحظات، عرج صاحبنا السائق نحو طريق في الاتجاه المعاكس وكنا وقتها قد أصابنا الذهول، ثم برهة وبطريقة الفورمولا واحد، عاد من جديد الى الطريق، وعندما اعتلى صوت الاحتجاج، قال انه تفادى نقطة تفتيش على الطريق. لقد أدركنا وقتها انه رجل غير عادي، خاصة عندما اخرج بعضا من الحبوب المهلوسة من قمطر السيارة احسسنا وقتها ان الموت يرافقنا بدون ازعاج وبدون طلب رسمي. طلبنا منه التوقف في احدى المحطات، لنأخذ نفسا ولنطلب من الله الرحمة والغفران. وذلك مكان. على امتاد هذه الرحلة العجيبة، كان النصيب الاكبر من الانتقاد ومن السخرية، قد اخذه زميلنا بوشعيب النعامي،و حلفنا اليمين بان لا نعوضه مالا مقابل هذه الرحلة، باعتبار ان زميلنا بوشعيب منح لصاحب السيارة الملعونة المبلغ المالي كاملا في انتظار الوصول وتعويضه عن ذلك كما جرت العادة في خرجاتنا بالقاهرة حيث يتكلف زميل من الزملاء بأداء الواجب وحين نعود إلى الفندق نعيد إليه تلك الأموال بعد عمليات النقص والقسمة. بدأنا وقتها نصنع الحكايات تلوى الاخرى، من قبيل هل يتم تعويض شخص يقودك نحو الهلاك. فالتعويض على الله واصبح الزميل في وضع غير مريح، اذ لم يعد له مبرر ليدافع عن نفسه، لان »الفالطة بالكبوط« كما يقال. وصلنا الاسكندرية في وضع سيء، ولم نجد سوى غرفة الزميل محمد مقروف الذي رافق النادي المكناسي كمبعوث للاذاعة الوطنية، حيث استضافنا في غرفته، اذ تمكنا من اخذ حمام دافئ مكننا من استجماع عظامنا التي هزها الفزع والخوف. على شاطئ الاسكندرية، كان البشر كالنمل يستحمون في صورة لم نعهدها نهائيا، اذ لم تتمكن عيوننا من رؤية حبة رحل واحدة. في المساء توجهنا الى الملعب، ولم نجد مكانا نجلس فيه، وارتفع صوت الاحتجاج، ورغم تدخل ممثل السفارة المغربية فقد ظل الوضع على ماهو عليه، واكتفى المنظمون من اقتيادنا نحو السطح قيل لنا انها المقصورة التي كان يتابع من خلالها الملك الخديوي مباريات كرة القدم. وجدنا سطحا رديئا مليئا بالمتلاشيات ورائحة البول. انتهت المباراة بهزيمة النادي المكناسي وبهزيمة ثقيلة للوفد الصحفي الذي تضاعفت معاناته خلال العودة الى القاهرة التي لم نصلها الا في الساعات الاولى من صباح اليوم الموالي. وكانت رحلة المتاعب بكل المواصفات المطلوبة.