كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني. السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة. السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات. أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية. في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة. لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد...، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
شاء السفر هذه المرة، أن تكون الوجهة عاصمة اليونان أثينا، مدينة الميتدولوجيا ومهدها الحاضن. أثينا وقتها كانت ستحتضن ألعاب البحر الأبيض المتوسط سنة 1991. أثينا، كنا قد طرقنا بابها الأول في السبعينيات عبر ذلك الكتاب ذو اللون الأصفر الذي أشرف ووضع منهاجه ودروسه كل من الراحلين محمد عابد الجابري ومحمد السطاتي بالإضافة إلى الأستاذ العمري مصطفى أطال الله في عمره . ذاك الكتاب، كان ولا يزال بمثابة المفاتيح الأولى والعناوين الكبرى للدرس الفلسفي، الذي مكننا ونحن شبابا من التطلع إلى المعرفة والفكر العقلاني، الذي قاد أجيالا عديدة إلى موقعها الطبيعي. موقع طرق باب السؤال والمستقبل والحداثة. بفضل ذلك الكتاب، تعرفنا على جذور الفكر الفلسفي وتعرفنا على أسماء صنعت أولى لحظات النشاط الفكري الإنساني، كما رسمنا أسماء الأمكنة و جذورها، وكان اسم أثينا لامعا في الأساطير كآلهة للحكمة والقوة والحرب. كان السفر إلى تلك الأرض التي لا تغيب عنها الآلهة، مغريا ومثيرا. فمنذ أن تم إخباري بأني سأكون ضمن الوفد الصحفي الذي سيغطي فعاليات تلك الألعاب، حتى طار كل جسمي إلى هناك. حيث سأقف أمام الأكروبوليس. تلك الأطلال الواقفة كعناوين ذهبية لمرحلة تاريخية ولت. ولكن قبل السفر، كان لابد من إجراء العديد من الأمور التنظيمية والإدارية الخاصة بالوفد الصحفي. لقد طلبوا منا الحضور في أحد أيام الصيف الأولى، بإحدى القاعات التابعة للمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بالرباط. كان الغرض من هذا الحضور الأول، هو أخذ القياسات الخاصة بالبذلة الرسمية للوفد المغربي. فقاموا بجعل طولنا وعرضنا على أرقام مكتوب عليها الاسم، وطلبوا منا الحضور أيضا خلال موعد ثان لإنهاء الرتوشات، وكل ذلك من أجل أن نصبح رسميين ونصطف كباقي عباد الله تحت راية واحدة…... هكذا كان. قبل السفر بأيام قليلة جدا، طلبوا منا الحضور إلى القصر الملكي، حيث سيتم استقبال الوفد المغربي من طرف ولي العهد آنذاك العاهل المغربي اليوم الأمير سيدي محمد. وقفنا أمام ذاك الباب الكبير لقصر الضيافة، انتظرنا مدة ليست بالقليلة في انتظار فتح الأبواب التي تقف أمامها كل ألوان وأنواع السلطات الأمنية والعسكرية. بزينا الرسمي، دخلنا القصر مثنى مثنى آمنين مطمئنين، أوقفونا في ساحة كبيرة في انتظار مجيء ولي العهد. كانت كل الوجوه الرياضية حاضرة من مسؤولين يتقدمهم الوزير الراحل عبد اللطيف السملالي ومسؤولين كبار في الدولة ورياضيين، من قبيل الإخوة عشيق وبطلة ألعاب القوى الراحلة العيوني، إضافة إلى الوفد الإعلامي الذي كنت فيهم الأصغر سنا. بدأ حفل الاستقبال، وكالعادة، بالسلام على سمو الأمير، واستثني من هذه العملية الوفد الصحفي الذي فضل المنظمون أن يبقى منزويا في إحدى زوايا هذه القاعة الكبيرة التي شهدت الحفل، كانت الطاولات على امتداد المجال مملوءة عن آخرها بكل مالذ وطاب . كانت العيون مندهشة وتقتنص اللحظات بحثا عن ممر يؤدي إلى هذا العرض اللذيذ من الحلويات والفواكه، كل ما خطر على البال كان حاضرا في هذه الموائد الاستثنائية، فحتى كرموس النصارى الذي عهدنا رؤيته في فصل الصيف على امتداد الأزقة وفي الساحات العمومية ينتظر لسانا جائعا وبريالات قليلة، أصبح له اليوم في هذه القاعة الكبيرة من قصر الضيافة شأن وقيمة لا توصف، فوجب توقيره بالاحترام والتقدير اللازمين . فسيدنا الكرموس موضوع في أوان زجاجية لامعة، مغطى بالعسل ومحاطا باللوز وفواكه جافة أخرى، وكأنها تزفه للحاضرين. كان المكان فسيحا، وزاده الزليج البلدي الأخضر بهاء ووقارا، فيما كان بعض الرجال جالسين بلباسهم الأبيض وبطرابيش حمراء، يعملون على ملء براريد الشاي المنعنع. المثير للضحك، أن العديد من الحاضرين وبعد مدة ليست بالقصيرة أصبحت جيوبهم مملوءة عن آخرها. فلم يعد للباس الرسمي قيمة أمام هذه الطاولات الدسمة والمغرية. حتى إن أحد الحاضرين حاول استفزاز هؤلاء بالقول، بأن هناك تفتيشا عند الخروج، فكل من مد يده بالزيادة سيكون عقابه شديدا. ورغم هذا التحذير الخاطئ، استمر الحضور في ملء كل فراغ في البذلة الرسمية، حتى انتفخت الجيوب وأضحت (»سراويل علي«) واضحة للعيان. لا ضير في ذلك، فمثل هذه الفرص نادرة جدا ولن تتاح لك مرة أخرى الفرصة لترى طاولات وموائد تعرض مثل هذا الخير المتدفق. خرجنا من القصر ونحن على أبواب السفر، لكن تلك الموائد مازالت تشكل حتى اليوم ألبوما من الصور الملونة. ( الحلقة المقبلة: السفر والإقامة والحاج بوشعيب الإغريقي)