ليس ما يحدث في العراق، مسألة عراقية محضة. ولا ما تفعله داعش وتجتهد فيه، مسألة تهم أهله، ما بين الرافدين .. والخراب. الداعشيون، الذين أعلنوا دولة الخلافة يقدمون صورة «طبيعية» أو بالحجم الطبيعي، إذا صح التعبير عن الدولة الإسلامية كما تعشش في أدمغة التطرف الأصولي. ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن هناك كل الاعتبارات لكي يكون المسلمون، بل المؤمنون في العالم، معنيون بهذا الجنون المعمم والمسلح الذي يسرح في أرض الهلال الخصيب. عندما يتم تدمير قبور الأنبياء، تتفجر، منطقيا، أسئلة الحسرة و أسئلة الحدود التي لن يقف عندها هؤلاء. النبي يونس الذي نجا من بطن الحوت، لم ينج قبره من ديناميت الحرب، الذي فجر به رعايا الخليفة إبراهيم قبره. وعندما تسوى قبور أخرى منها النبي الثاني، شيت ابن آدم مع الأرض، علينا أن ننتبه إلى أن الخلافة لا تريد أن تعود بنا إلى بداية العهد المحمدي، إنها تعرض رحلة طويلة الأمد، إلى عهد سيدنا آدم: عندما كان الدفن بدون مواد البناء، التي لا تعرف لا إسمنت ولا آجور للأضرحة ولا ..أبواب، أي عندما كان الناس، وهم أربعة نسمة على الأكثر يدفنون على طريقة الغراب (كما في القصة القرآنية). إننا نعود، بمساعدة تكنولوجيا الحروب إلى القرون الأولى، لما قبل النبوات معروفة كلها. ما يحدث للمسيحيين، ليس مسألة إثنيات وتعارض أصولي، بل هو في العمق شأن إسلامي بالدرجة الأولى: ليس لأننا مدينون كثيرا إلى المسيحيين في حماية الدين الإسلامي منذ بدايته، بل لأن المحك الذي يطرح اليوم على الأئمة قبل المدافعين عن الحقوق والحريات والعقائد: هو مراجعة عميقة لبنود الاستناد الأصولي: نحن أمام سؤال جوهري اسمه الوجود المسيحي في بلاد الإسلام؟ لقد استقبلت الحبشة المسيحية المهاجرين الأوائل من أنصار الإسلام، واستقبل الغرب المسيحي، في بدايات الدعوة والهروب، أنصار التيار الديني، وكلنا نعرف كيف ولدت لندنستان (كمثال لا للحصر)، وكان في السيرة حضور مسيحي قوي في حياة النبي، من عائلة خديجة إلى ورقة بن نوفل. من تهجير للمسيحيين إلى تقتيل أبنائهم وتهديدهم بالجزية، و ترحيلهم، ليس هناك طريق تقترحه الجماعات التي تعدنا بالخلافة غير طريق القتل والتدمير، طريق هو العكس مما تتطلبه أوضاعنا ووجودنا في هذا العالم . وقد سبق أن غامر المفكر والكاتب مالك شبل باقتراح التفكير في موضوع يتخذه التطرف ذريعه لإفراغ الفضاء العمومي من كل مسحة إنسانية أو تعدد عقدي أو تعايش، وهو تقبل الآخر وقضية الانفتاح عليه . وجاء في كتابه، الذي تشرفت بترجمة، أنه لا بد من «أنسنة عميقة للعلاقات بين المسلم ومن ثمة بين المسلمين وغير المسلمين ، وهناك بالفعل حديث صادر عن الرسول يقول إن الجزء الأساسي في الإسلام مبني على العلاقات التي يقيمها المؤمن مع مجموع الجنس البشري :«الإسلام المعاملة». وهذا التوجيه الموسوم بالحكمة صالح بالنسبة لكل الفئات الاجتماعية بما فيها الفئات المعوزة من قبيل المعاقين جسديا وذهنيا والأجانب وحتى الحيوانات التي يعتبرها القرآن الكريم في العديد من المرات كمخلوقات مسخرة لخدمة الانسان.. وثقافة التسامح هاته مازالت تتطلب البناء، ويكفي مراقبة رد فعل بعض المسلمين إزاء بعض المواضيع الحساسة (المرأة، الحجاب، الاختلاط، العلاقة مع الغرب، والغنوصيين الخ) كي نفهم أن طريقا مفروشة بالأشواك تنتظر الذين يريدون تغيير الذهنيات. لماذا يجب أن يتمتع غير المسلم نفسه بوضع خاص؟ لأن إنسانية ديانة ما، ولأسباب أكبر ديانة توحيدية لا تقاس بالاهتمام بالذات، بل الحدب الذي تكنه للآخر، وفي هذا الآخر يمكن أن ندرك أيضا الشخص الذي لا يدخل في قالب الآخرين نفسه، كالخارج عن الإجماع أو المفكر الحر والعلماني ،الخ. وأخيرا هناك جانب يكاد لا يثار أبدا : فلكي يصبح التسامح إزاء الآخر حقيقة واقعية، لا بد للمسلم أن ينميه ويغذيه بالقدر الذي يطالب به الآخرين، ويتحدث مالك شبل عن مقارنة لا يمكن أن نغفلها وتقول «وأنا أفكر هنا إلى كل الاعتراضات التي واجهتها عندما دافعنا عن ملف المساجد في فرنسا، فغالبا ما كانت ملاحظة شركائنا تنزل علينا حادة كضربة سيف وكبداهة أيضا :إذا كان المسلمون يريدون أن تكون ديانتهم معززة مكرمة في الغرب، إضافة إلى ممارساتهم وشعائرهم ومحرماتهم في المأكل والملبس أو رفضهم للاختلاط، يجب أن يكون في مقدورهم أن يقبلوا، هم أيضا في البلدان التي يسود فيها الإسلام تسامحا مماثلا إزاء الديانات الأخرى، ولا سيما المسيحية واليهودية وحتى البوذية.. إذا سلمنا بمسجد في فرنسا ، فما هو الرأي في كنيسة في السعودية؟ وإذا سملنا بالحجاب فما العمل مع الألبسة الخفيفة الغربية في مدينة من مدن الجنوب؟ الذهاب والإياب بدون مصاعب ، بما في ذلك الذهاب إلى الفاتيكان، نعم لكن لماذا يظل التراب السعودي محرما تماما على غير المسلمين؟ ..الخ. نحن أمام معضلات لم يسبق أن طرحت، ولا سيما عندما يكون الآخر، في جزء من سيرته يحمي حق المسلم أو يدافع عنه بالديبلوماسية كما هو الحدث في آسيا مثلا أو في كوسوفو في السابق. الأئمة غير معفيين، ولا سيما عملاؤنا المغاربة الذي يعيشون التعايش وعاشوه، و أصبحت بلادهم منارة في التفكير الديني المجدي والرفيع حضاريا.