كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني. السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة. السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات. أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية. في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة. لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد...، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
دخلنا مجال مطار "بارخاس " المدريدي، آمنين مطمئنين، متجولين في بهوه وساحاته نلتقط صورا لأجزائه الصغيرة والكبيرة، باحثين في أماكنه عن زوايا نستريح فيها في انتظار الإقلاع نحو عوالم جديدة نحو البرازيل ونحو أشجار الأمازون التي خلقت على امتداد القرن الماضي أسماء وأبطالا صنعوا مجدا إنسانيا غير مسبوق وقلاع الصمود ضد الاستبداد والقهر العسكري. في أمريكا الجنوبية صنع الاحتجاج شهادة الميلاد، وفي سراديب أماكنها المظلمة خلقت أجيال تغنى بها الحالمون من أجل عالم جديد مازلنا ننتظر أضواءه البعيدة. قضينا وقتا ليس باليسير في ردهات المطار حتى أصبح الانتظار يؤلم عظامنا التواقة نحو أجواء المحيط الأطلسي ومن هناك نحو بلاد الأسطورة الكروية بيليه وصاحب التمريرات الساحرة الحكيم سقراطيس. البرازيل بأمجادها الكروية ظلت دوما ذاك العالم السحري الذي يعشقه المغاربة، ولهم ارتباط وجداني غير مفهوم مع طريقة الإنجاز والإبداع والمهارة في رسم التنافس الذي له معنى آخر.وربما هذا العشق في الأداء، يلزمنا ونجده قريبا منا، فأغلب اللاعبين المغاربة الكبار لهم نفس تلك اللمسة الساحرة التي غابت اليوم مع الأسف. قضينا أكثر من ثماني ساعات ونحن نترقب الوصول إلى عالمنا الجديد، كانت هذه الرحلة هي الأطول وقتها في سفري المهني، لقد كان طول المسافة يثقل ميزان التعب فينا، ويحيلنا إلى زمن آت لكنه مازال بعيدا.عندما أخبرونا بأن الوصول أضحى على بعد دقائق بدأ الجميع في تحريك عظامه على أمل أن تسعفه ليستقيم مع اللحظة، غير أنني وجدت نفسي في وضع صعب حين اكتشفت أنني قمت بخطأ إملائي جسيم عندما أزلت حذائي على امتداد السفر، وعند الوصول أصبحت رجلاي منتفختين وضاق بهما الحذاء الرياضي الذي سافرت به كأداة من أدوات »الخفة« والقدرة على مواجهة الاحتمالات الواردة وغير الواردة، كان الوضع مقلقا حينما قررت أن أدخل المطار مرتديا الجوارب فقط، وكانت هذه هي الحكاية الأولى للوفد الصحفي وظلت،على امتداد سنين طويلة، مفتاح اللقاءات وشهادة على تلك الرحلة المنعم علينا بها. ونحن على أبواب مغادرة المطار صادفَنا حدث جميل، ذلك أن رجلا استقبلنا بفرح لا يوصف وبروح صادقة بدون ضفاف، رجل اسمه مانديز، المدرب الذي صنع أمجادا بالعديد من الفرق المغربية وفي طليعتها النادي القنيطري الذي عاش معه زمنا طويلا بفضل الرعاية التي كان يلفه بها الراحل محمد دومو، قيدوم المسيرين المغاربة. كانت مفاجأة غير منتظرة، فقد أخبرنا بأنه سيظل قريبا منا بل معنا على امتداد هذه السفرية، ومنذ الدقائق الأولى قام الرجل بمهام أخجلتنا جميعا، فهو الذي قام بنقل أمتعتنا إلى الحافلة والابتسامة تعلو شعره، راسلا وباعثا إشارات توقع على ذكريات ملؤها الاعتراف. وعلى امتداد الأيام التي قضيناها في ساباولو كان الرجل دائم الحضور بل مهندسا لخرجاتنا الليلية كلما أتيحت لنا الفرصة.. ونحن على أبواب المدينة، أخذت سيدة جليلة بقدها وقامتها الميكروفون لتمنحنا أولى النصائح والتوجيهات التي من المطلوب أن تتحكم في إقامتنا على هذه الأرض.. وهي تتحدث عما يجب أن نسير على خطاه، التفتت يسارا من جهة نحو بناية كبيرة هناك غير بعيد قائلة إن تلك البناية هي مركز سجني يعتبر من أكبر وأخطر السجون في البرازيل لأن معدل الجريمة في ساوباولو يلامس الأرقام القياسية عالميا… هكذا دخلنا المدينة طالبين التسليم ومتمنين من أعماق الخوف فينا أن نخرج سالمين.