في ندوة علمية حول «تجديد الخطاب الديني»، نظمها «مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام» بخنيفرة، وشارك فيها باحثون في الدين والفلسفة، طرحت مجموعة من المقاربات التي التقى فيها المشاركون في نقاش غني بالمفاهيم المشتركة، والثابت والنظري، المقدس والتحليلي، المنطق والتأويل، معنى التجديد وحدوده؟، مدى تفاعل الخطاب الديني مع مستجدات العصر؟، شروط باب الاجتهاد، ذلك عبر أسئلة جريئة تفاعل معها الحضور العريض فكريا وعلميا، وقد تمكن المشاركون في الندوة من إثبات وجهات النظر، ومقارعات الحجة بالحجة، فيما بينهم بأسلوب راق وعلمي بعيدا عن الخلاف والأيدلوجية، وهم رئيس المجلس العلمي المحلي لخنيفرة، الدكتور المصطفى زمهنى، الأستاذ والباحث بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، الدكتور أحمد فرحان، والباحث في الفكر الفلسفي، الأستاذ كمال الكوطي، في حين اختير لتسيير الندوة، مدرس مادة الفلسفة، الأستاذ المصطفى تودي، في حين اختتم اللقاء بتدخلات غنية للحضور. الندوة التي احتضنها المركز الثقافي أبو القاسم الزياني بخنيفرة، افتتحت بكلمة المسير الأستاذ المصطفى تودي على شكل أرضية لم يفته فيها تقسيم سؤال تجديد الخطاب الديني إلى ثلاثة مفاهيم تتميز بالكثافة الدلالية وبتعلقها الوثيق بأسسها الفلسفية النظرية وبخلفياتها الإيديولوجية، وقد يقتضي التداول حول كل مفهوم جلسة منفردة، فمن حيث الدلالات: تساءل ماذا يعني التجديد؟، هل يعني الإصلاح والترميم إصلاح وترميم ما شاخ و لم يعد يساير روح العصر؟ هل نعني به التحديث بحيث نضفي على هذا الخطاب نسمة حداثية؟ أم نعني به، على خلاف هذا وذاك، التأصيل، بحيث ندمج أو نضفي طابعا تراثيا على ما جد من معارف وعلوم ومناهج بحيث تخدم مبتغانا من التجديد؟ أم أننا نعني بالتجديد إعادة التأسيس والبناء؟ ثم ما دلالة الخطاب؟ هل نعني به المبنى وأشكال التواصل والتبليغ؟ أم نعني به المعنى والمضامين؟ وما معنى الديني؟ هل هو الكتاب والسنة، أما أسماه البعض، «الخطاب المنزل»؟ أم نعني به التدين كممارسة بشرية مرتبطة بالزمان والمكان ومشبعة بعوالق العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية؟. لماذا التجديد؟ كما طرح الأستاذ تودي سؤال: لماذا التجديد؟ ألا يمكن أن نعتبر أن التجديد تقليد تاريخي رسخه السلف وأضاعه الخلف؟ ألم يجدد الفاروق عمر حين اضطرته ظروف الرعية أن يقضي بما يخالف الأصول؟ و من زاوية أخرى، أليس سؤال التجديد باستجابة لضرورة معرفية نظرية أفرزتها دينامية الثقافة العربية الإسلامية؟ ألا يمكن أن نعتبر أن سؤال التجديد هو محاولة لرأب الصدع و سد الهوة بين النص الديني و الحياة؟ على اعتبار أنه كلما تطورت الحياة كلما كبرت هذه الهوة و اتسع مداها، فهل يمكن أن يساعدنا التجديد على تبين مقاصد الشرع التي تبقى صالحة لكل زمان و لكل مكان، أم أن خطاب التجديد قد يرأب الصدع لصالح النص، فينتج من بين ما قد ينتجه التعصب والتطرف، أو قد يرأب الصدع لصالح الحياة، فينتج من بين ما قد ينتجه، «الاستغراب» و اللاتدين ؟ أليس التجديد باستجابة نظرية لمطلب سياسي ناتج عن منطق الصراع وإرادة القوة؟ ألا نجدد بمنطق الأوامر، فيكون منطلق التجديد سياسيا وجوابه فقهيا: ألم نعمل جاهدين على نقل فرض الجهاد من الفعل والممارسة إلى القلب والمجاهدة؟. ويواصل الأستاذ تودي في تعبيد الطريق للندوة بأرضية من التساؤلات القوية، لمن نجدد؟ هل نحن المستهدفون، نبغي لمعتقدنا أن يساير ما جد في الحياة و في المعارف، ونقي شبابنا الوقوع في التطرف وبراثين الغلو؟ أم أننا نجدد للآخر؟ ومن زاوية أخرى أليس فرض كفاية أن يجدد المسلم خطابه و معاول الإقناع لدعوة من يعايشهم من بني الممل الأخرى، إلى الصراط المستقيم؟ ثم من يمكنه التجديد؟ أليس التجديد اختصاصا فقهيا؟ أليس بحري على فقهائنا وعلمائنا أن يتجشموا عناء التجديد؟ فعليهم المعول، لأنهم العارفون بدروب العلم الرباني، والعالمون بأصول وشروط الاجتهاد، والقادرون على دفع الشبه وتحصين الملة والدفاع عن لغة القرآن. مفهوم الخطاب لكن هل يمكن أن نجدد من داخل الخطاب الديني؟ هل يمكن أن تفي القراءة التعبدية الإيمانية والتفكير الخاضع لمنطق الإيمان والتسليم بشروط التجديد؟ و بصيغة أخرى، هل يمكن أن يتحقق التجديد حيث يفرض النص ذاته كمعيار للتفكير؟ ألا يمكن أن نغير براديغم التجديد ذاته؟ ألا يمكن أن نجدد من خارج الخطاب الديني؟ ألم يجدد المسلمون القدامى من منطلقات منطقية أرسطية؟ ألا يقتضي التجديد في عصرنا هذا الانفتاح على المناهج وعلى العلوم المعاصرة دون السقوط في منطق التأصيل الضيق بحيث نبحث عن «أسلمة مناهج العلوم» كما قال البعض؟. من جهته، تناول الدكتور أحمد فرحان من خلال ورقته حول «تجديد الخطاب الديني، الإسلام أنموذجا»، المعنى الذي يقصده بخصوص مفهوم الخطاب الديني/ الخطاب الإسلامي، أي الخطاب كمؤسّسة لغويّة تنتج الحقيقة وتحظى بمصداقيّة التداول والتفكير استنادا إلى سلطة ما، ويمكن التمييز في الخطاب الديني بين عموم اللفظ أو كونيّة مفهوم الخطاب الديني وهو يعبِّر عن موقف فلسفي يدرس الظاهرة الدينية بوصفها ظاهرة إنسانية مشتركة، ويبحث في معنى الوعي الديني عند الإنسان، وبين الخطاب خصوص اللفظ أو خصوية خطاب ديني ما، وهو يعبِّر عن موقف فقهي تقليدي يدرس الظاهرة الدينية بوصفها حقيقة دينية مطلقة لدى جماعة مؤمنة خاصّة دون الأخرى. وفي تحديده مداخل تجديد الخطاب الإسلامي وقف الدكتور فرحان عند التحديد المفاهيمي لمفهومي التجديد والتحديث، فالتجديد موقف فقهي يستند إلى أصل شرعي وهو الحديث: «إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها» (حديث صحيح)، بينهما التحديث هو موقف فلسفي يستند إلى أصل عقلي، ويقصد به إحلال العلم والعقل في التشريع للإنسان والمجتمع محلّ النقل والحكم الشرعي في ميدان المعاملات وقراء النّص الديني قراءة عقليّة-تاريخيّة تحرِّره من الفهم الخرافي. وبهذا فالموقف الفلسفي يرى أن التجديد أخص والتحديث أعم، فأفق التجديد محدود بالمذهب ويشرِّع للمؤمن أمّا أفق التحديث فهو محدود بالعقل الإنسان ومصالحه ويشرِّع للمواطن، ويقوم التجديد في الفقه على وحدة المعتقد بينما يقوم التحديث الديني في الفلسفة على حريّة المعتقد، ويقوم التجديد في الفقه على منظور قانوني جنائي: الثواب والعقاب، بينما يقوم التحديث الديني في الفلسفة على منظور أخلاقي روحاني: المحبّة والرحمة والتسامح. ومن مداخل تجديد الخطاب الديني، تناول الدكتور فرحان المدخل العقدي ومداخله ثلاث: مدخل علم الكلام، وهو مدخل تقليدي يقوم على الدفاع العقدي بتوظيف الأدلّة المنطقية، وهو ذو بعد مذهبي دوغمائي يرتبط بالتشريع العقدي للمؤمن ويقوم على التفاضل بين الأديان، ومدخل فلسفي تحديثي يقوم على وصف كيفيّات عطاء الظّاهرة الدينيّة/المقدّس في الوعي الإنساني، أوفهم كيفيّة تشكّل المعنى الديني في اللغة والنصوص الدينيّة والطقوس التعبّديّة والعالم الروحي الذي شُرِّعت فيه فهما تاريخيا، ومن مداخل تجديد الخطاب الديني أيضا وقف الدكتور فرحان عند المدخل الشرعي، ومداخل دراسته مدخلين: مدخل حقوق للّه هو مدخل فقهي تقليدي يقوم على الحاكميّة بغضِّ النّظر عن حركة التاريخ أو المجتمع، كما توقف الدكتور فرحان عند مدخل حقوق الإنسان، وهو مدخل فلسفي تحديثي يقوم على التشريع للحقوق والقوانين بالاستناد إلى العلم والعقل ومنظومة حقوق الإنسان يتجاوب مع مصالح الناس وفق حركة التاريخ والمجتمع، ليختم مداخلته، باعتباره التجديد المطلوب هو استنارة الفقه الإسلامي بالخطاب الفلسفي، خطاب العقل والاجتهاد، إذ لا يمكن فتح باب الاجتهاد كما يدعو إليه الخطاب الفقهي إلاّ بالانفتاح على الخطاب الفلسفي وذلك سيرا على نهج علماء أصول الدين كالشاطبي وغيره…ولكل عصر رجاله، داعيا إلى أنه آن الأوان لفهم النص القرآني وفتح نقاش واسع ما دامت اللغة القرآنية تفهم حرفيا والتحريم بات أكثر شيوعا من التحليل. أما الدكتور المصطفى زمهنى، فرام بمداخلته الموسومة بعنوان «الخطاب الديني والتجديد: أي علاقة»، بيان أن التجديد خاصية دينية آمن به الإسلام وحث على إتيانه كما تجلي ذلك لفظة البعثة في الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» التي وردت أصالة في حق الأنبياء والرسل» هو الذي بعث في الأميين رسولا…»، وتبتدئ هذه العلاقة عمليا من خلال استحضار العلماء للمتغيرات والمستجدات حين تقعيدهم للعلوم كما هو الأمر في تمييزهم بين تصرفات الرسول (ص) التي سبيلها التشريع والإتباع (كونه مبلغا أو مفتيا) وبين تصرفاته الأخرى التي لم يكن سبيلها التشريع ( كونه قاضيا أو إماما) والتي فتح فيها المجال للنظر والاجتهاد بحسب المصلحة المناسبة للزمان والمكان. الانفتاح على العقل ومن خلال مداخلته القيمة، ركز الدكتور زمهنى على ما يؤكد كون قضية التجديد مرتبطة بالاجتهاد وتحتاج إلى أن نمتلك نصية دينية وإحاطة بالدين من حيث علومه وسياقاته، والانفتاح أكثر على ما أنتجه العقل الإنساني بالنظر لدعوة الإسلام إلى التجديد في أكثر من موقع ونص، ورأى أن الناظر في الخطاب الديني عموما يلمح أنه أصناف وأنواع يمكن تحديدها في ثلاثة مستويات: الخطاب المنزل وهو القرآن الكريم وما صح من حديث الرسول الأمين، الخطاب المؤول وهو خطاب العلماء في اجتهاداتهم، ثم الخطاب المبدل وهو خطاب العوام ممن لا يمتلكون الأهلية في الحديث عن الدين، وأهم ما يسم الأول الثبات، أما الثاني فهو يجمع بين الأصالة باعتماد الأول والمرونة في الوسائل والآليات. في حين لا يلتفت إلى الثالث لأنه صادر من الغالين أو المنتحلين أو المبطلين. ولم يفت الدكتور زمهنى التأكيد أن الاجتهاد يعد الأداة الفعالة في ممارسة التجديد، وهو مسألة لصيقة بالنص في كل الأحوال رغم قولهم « لا اجتهاد مع وجود النص «، إذ أنه بالرغم من قطعية النص فإن تنزيل هذا النص في واقع الناس يحتاج إلى فقه التنزيل وهو نوع فريد من أنواع الاجتهاد، بيد أن طريق التجديد ليس سهلا معبدا وإنما تعترضه عوائق وتحديات منها: تحديات التراث، تحديات التعامل مع الآخر، وتحديات التعامل مع المستجد، في حين رأى أن الاجتهاد الجماعي المتبني لنظرة تكامل العلوم هو السبيل الأقوم لاجتهاد راشد وتجديد سديد، ولم يفت الدكتور زمهنى إبراز كيف أن الفكر الإسلامي أكثر تفتحا، وأن العقل فوق الخرافة، وموضحا لبعض المتسائلين حول هوية المجالس العلمية، بأن هذه المجالس ليست مؤسسة دينية بالمفهوم الضيق والمغلق بل هي مؤسسة تضم كفاءات وعلماء خبراء في شتى الميادين، القانونية منها والاقتصادية والثقافية، في حين تطرق لجانب التشدد والتطرف بوصفهما خطرا على الانسانية. وبدوره، فضل الأستاذ كمال الكوطي المشاركة بورقة تحت عنوان: «جاليليو جاليلي قارئا النص المقدس»، حيث انطلق فيها من التساؤل: كيف قرأ «جاليلي «النص المقدس؟، وللإجابة عن هذا التساؤل العام أقترح المتدخل من الناحية المنهجية اعتماد مقاربة تحليلية – فلسفية لشطر فقط من رسالتين ل «جاليلي»: الرسالة الأولى كان قد بعث بها إلى السيدة «كريستيان دو لورين «سنة 1615، والثانية لصديقه وتلميذة «أنطونيو كاستيلي» سنة 1613، حيث في الرسالة الأولى ميز ما بين القضايا الطبيعية أو الفيزيائية المحتملة والفاقدة لليقين، قضايا أقرب إلى الرأي أو الظن، و أخرى يقينية مدعومة بملاحظات و براهين، وتتميز بالضرورة بخصوص القضايا الأولى يقر «جاليلي» بأن افتقارها لليقين يلزمنا بضرورة الخضوع لما يمليه المعنى الحرفي للكتاب المقدس، لكن القضايا التي هي من النمط الثاني، وإذا ما حدث بينها وبين تلك النصوص تعارض ما، وجب ضرورة البحث عن المعنى الحقيقي الثاوي خلفها حتى، كما يقول، «وإن كانت الكلمات نفسها قادرة على الإيحاء بمعاني مختلفة». إعادة القراءة إن هذا الإصرار على إعادة قراءة وتأويل الكتاب المقدس، حسب الأستاذ الكوطي، يظهر جليا من خلال مضامين الرسالة الثانية، والتي تحوي حجج عقلية وأخرى ذات طابع لاهوتي حاول عبرها الدفاع عن تصوره الداعي إلى ضرورة تجديد فهم معاصريه للدين حتى يتسنى لهم رفع التعارض الموجود ما بين بعض تأويلاتهم، وما استجد في مجال فلسفة الطبيعة، أي الفيزياء، وعليه، اعتبر «جاليلي»، بحسب الأستاذ الكوطي، أن السقوط في أخطاء التأويل من قبل قارئي النص المقدس وارد جدا، بحيث أن الوقوف عند المعنى الحرفي للكلمات من شأنه أن يقودنا إلى هرطقات قد تمس سمو وجلال الذات الإلهية نفسها كما يتجلى ذلك بوضوح في بعض النصوص التي تضفي على الخالق انفعالات إنسانية: كالغضب، والحقد، والنسيان. ..الخ، مع إشارة إلى أن مضمون هذه الرسالة قد كشف عن نقطة هامة في تفكير «جاليلي» حين أعتبر أن تدخل اللاهوتيين في المسائل التي تخص الفلسفة الطبيعية، يلزم أن يكون في النهاية أي بعد أن يكون العلم قد قال كلمته. وقال الأستاذ الكوطي إنه من هنا يتضح أن «جاليلي» قد أراد تهييئ الأرضية التي ستتيح فصل العمل العلمي عن الوصاية اللاهوتية، بحيث أن القوة البرهانية للعلم المدعومة بملاحظات وبراهين ضرورية كافية لتبديد الشكوك، وبالتالي قلب المعادلة: من وصاية العقل الخطابي على البرهاني إلى استيعابه تجاوزه، و ما يؤكد إلزامية هذا الفصل الذي أتى على ذكره هو إقراره بأن لله لما كان قد وهبنا الحواس والعقل، فغايته من ذلك هي تمكيننا من بلوغ أسرار الكون والكشف عن القوانين التي تحكمه، لذا فالعقل قادر على بناء حقائقه وإلا لما كانت الحاجة إليه أصلا، وكم شدد الأستاذ الكوطي على سؤال: هل نقول تجديد الخطاب أم تجديد تأويلات الخطاب الديني؟.