الفلسفة والنساء وجهان لمعاناة واحدة، ولذلك ينبغي أن يكون اختيارهما واحدا، بغية الابتعاد عن ذلك القدر الحزين، والذي تتحكم فيه تلك النفوس الوضيعة، تتآمر على الفلسفة والمرأة معا، يقول سقراط: "هكذا تترك الفلسفة وحيدة وكأنها فتاة تخلى عنها أقرب الناس إليها.. ذلك أن ذوي الطبائع الضعيفة ممن أثبتوا براعتهم في حرفهم الوضيعة يجدون المجال هنا مفتوحا أمامهم على اقتحام دارها وتلطيخ شرفها"(15). بيد أن عناد سقراط وعمق حكمته، ودفاعه الشرس عن حرمة الفلسفة مكنته من طرد هذه النفوس الضعيفة من جمهوريته، في حين أن جمهورية النساء ظلت مستعمرة من قبل هؤلاء، بل أصبحوا هم سادتها، والنساء عبيدها، ولذلك نجد سقراط في منتهى السعادة، يهتف في وجه محاوره: "ها نحن أولاء أوضحنا بما فيه الكفاية أسباب التحامل على الفلسفة، وبينا مدى ما فيه من تجن عليها. فهل لديك ما تود أن تقوله في هذا الشأن"(16). فيلسوف واحد استطاع أن يحرر جمهورية بكاملها، في حين أن النساء بأجمعهن، تركوا جمهوريتهن مستعمرة من قبل من تحكمت فيهم أخلاق العبيد، يأكلون فوق الحاجة، ويقضون أكثر من نصف أعمارهم في النوم، ولعل هذا بالذات ما تحبه النساء. وعلى الرغم من أن كل المحاولات من أجل تحرير النساء من العبودية، فإن الدعوة قد أحدثت هزة اجتماعية وسياسية لأنها تفوق الثورة الكوبرنيكية في مدى عمقها الإنساني، وظلت سجينة شعارات داخل مؤسسات الرجال. فمتى سيحل سقراط في جمهورية النساء من أجل تحريرها من المتحاملين عليها؟، وهل سيسمح له بالدخول إلى هذه الجمهورية؟، أم أنه سيمنع ويضطهد من الحس المشترك الذي يقتسم نفس المرعى؟. ينبغي أن نتفلسف ولو مرة واحدة في العمر، إنها دعوة ديكارت لكل الأصفياء رجالا أو نساء، ذلك أن الفلسفة تحرر الإنسان من الأوهام التي تغرق الموجود الإنساني في هوة الشقاء. وتمنعه من الالتحاق بكل الواصلين إلى جزر السعداء. ولعل هذه الدعوة لن يقبلها سوى من توفرت فيهم تلك الصفات التي تم ذكرها، كما يجب أن لا يكترث بسخرية العبيد، وتحكي لنا حكاية طاليس مع خادمته التي ضحكت وسخرت منه بمجرد ما سقط في نبع الماء، لأنه كان يتأمل السماء، حيث نجد أفلاطون ينقل هذه الحكاية في محاوره تياتيتوس: "ودائما وأبدا ما يكون الفيلسوف مدعاة للضحك لا بالنسبة للخادمات فحسب، بل للكثير من الناس، ذلك لأنه وهو الغريب عن العالم؛ يسقط في نبع الماء وفي ألوان أخرى من الحيرة والارتباك"، نتيجة تأملاته للسماء ودهشته أمام الوجود. لأن الحياة الخالية من التأمل حياة لا تليق بالإنسان، بل تليق بالحيوان، كما قال سقراط، ويضيف أفلاطون في نفس المحاورة: "لقد قيل أن طاليس (وهو أول فيلسوف) سقط في بئر عميق حين كان يتأمل السماء والكواكب، وليس بإمكانه أن يرى البئر التي توجد أمامه، بالقرب منه، هكذا تسخر منه الفتاة الخادمة وتقول كيف يمكنه أن يتأمل السماء، في حين يسقط في نبع الماء"(17) هل هذا هو الفيلسوف؟ وهل بإمكان النساء أن يثقوا فيه؟، وما الذي ننتظره من الفلسفة إن لم تكن هي السبب في السقوط في نبع العشق، وبئر السعادة، ونصبح محط سخرية الأشقياء؟، بل أكثر من عنف هذه المعاناة ما الذي يجعل الفيلسوف يهدي خاتم الزواج للفلسفة ولا يهديه للمرأة؟، وإلا بماذا يتم تفسير أن معظم الفلاسفة لم يتزوجوا؟. في جحيم هذا الصراع بين السعداء والأشقياء تجد الفلسفة نفسها منذ طاليس إلى يومنا هذا مضطهدة، ما أن تنهضه من نبع الماء وشدة العشق ويغمرها الفرح والسرور حتى تجد نفسها تسقط من جديد في معاناة عميقة، ولا تجد أمامها إلا الفلاسفة لتتحدث بواسطة أرواحهم، حيث تزورهم أثناء نومهم كتلك الأحلام اللذيذة، يقول ديكارت: "غمرني تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي أن أمحوها من نفسي، ولا أن أجد مع ذلك سبيلا إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية، فهالني الأمر هولا شديدا، حتى أنني لم أقدر على تثبيت قدمي، في القاع، ولا على العوم لتمكين جسمي، فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي، أيضا في الطريق الذي سلكتها البارحة.. سأتابع السير في هذا الطريق حتى أهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك علمت علما أكيدا، على الأقل، إنه لا يوجد في العالم شيء ثابت"(18) ربما يكون هذا الوضع المضطرب الذي يحرم الفيلسوف من متعة الأحلام هو ذاته الذي تعيشه الفلسفة في جمهورية الرجال وجمهورية النساء. ومع ذلك لم تشعر بخيبة الأمل. بل ظلت متشبثة بإرادتها الطيبة، وعمقها الإنساني، ولعل هذا ما يجعل منها نعمة للفانين. لأن من لا يأمل لن يبلغ ما هو ميئوس منه. فهل هناك من أمل وأعظم من آمال الفلاسفة الذين يشيدون مدينة السعادة والحرية للجميع؟، أفما آن الأوان لنسمع إلى نداء الفلسفة، ولو مرة واحدة في الحياة؟، فما الذي يجعل الخراب والتهديم والتصفية أهم ما ينتظرنا هناك؟. والمانع من تشييد جمهورية الناس انطلاقا من خاتم الزواج، باعتباره تجليات لروح الميتافيزيقا؟. هوامش: 15 - أفلاطون، الجمهورية، م م 16 - أفلاطون، الجمهورية، م م 17 - أفلاطون، تياتيتوس 18 - ديكارت، تأملات ميتافيزيقية، م م ص . 69