أولاً: في تداعيات أحداث الحسيمة: تشي الأبعاد السياسية التي باتت تأخذها حركة الاحتجاجات الشبابية بالحسيمة بتطور مقلق يستدعي يقظة القوى الديمقراطية بالبلاد إزاء المضاعفات السلبية، الداخلية والخارجية، لهذه الأزمة، كما يستدعي تعبئة جماعية، دولتية ومُجتمعية، لتوفير شروط التهدئة، وإنضاج مقاربة ناجعة لاحتواء ديناميتها، بلوغاً إلى معالجة حاسمة لبواعثها. ويكمن مصدر القلق هذا في واقع ومدلول التطورات التالية: استمرارية الاحتجاجات لمدة زمنية قياسية، فاقت سبعة أشهر، جرى خلالها تواتر مئات المظاهرات (أزيد من ثمانمائة وخمسين احتجاجاً)، وتأذى المئات من أفراد القوات العمومية (نحو ثلاثمائة فرداً)، واحتجاز أو اعتقال العشرات من قادة الاحتجاج ونشطائه.. انخراط عدد من المنابر الإعلامية، الورقية والرقمية، في تأليب الرأي العام على موقف الدولة، وتبخيس مساعيها من أجل التهدئة، ومعالجة مطالب المحتجين.. انطلاق مسلسل من المظاهرات «التضامنية» مع حركة الاحتجاجات في عدد من المدن والعواصم الأوربية (هولاندا/بلجيكا/فرنسا/الدنمارك/ إسبانيا الخ…) وهو تطور من شأنه الإضرار برصيد المغرب في مجالات الإصلاح السياسي والديمقراطي والحقوقي… ومن أجل احتواء هذه التداعيات المؤسفة، والحيلولة دون تجاوز حركة الاحتجاجات المطلبية لإطارها الاجتماعي المعلن، يبدو من الأهمية بمكان إجراء تقييم موضوعي، صريح لهذه الظاهرة في بعدها المحلي، ومستواها الدولتي، وصداها النخبوي. ثانياً: ثالوث المستويات في مسار الاحتجاجات: تكمن محددات الدينامية الاحتجاجية بمدينة الحسيمة في تفاعلات الأزمة على مستويات ثلاث: أولها: مستوى الحركة الاحتجاجية ذاتها. فقد بدت حركة الاحتجاج، لدى انطلاقتها (28 أكتوبر 2016)، متسمة بغير قليل من النضج السياسي لدى غالبية الشباب المنخرط فيها. وقد عكست شعاراتها المرفوعة: «سلمية» الاحتجاج، و»اجتماعية» المطالب، و»شرعية» المبادرة، مستوى مرموقاً من النضج والمسئولية. وعلى مدى سبعة شهور من الاحتجاج والتظاهر المتواترين، حرصت غالبية الشباب المحتج على تطويق الانزلاقات واحتواء التجاوزات التي غالباً ما تطبع التدافع الجماهيري في مثل هذه الحالات من الاحتجاج والتظاهر الجماهريين، وهي التجاوزات المرتبطة بفعل أقلية طائشة من المحتجين، محدودة الوعي، قليلة النضج. وفضلاً عن ذلك، فإن المطالب الاجتماعية المرفوعة اكتست مشروعية بديهية، بسبب معاناة قطاع مهم من ساكنة الحسيمة وبعض نواحيها من مشاكل التشغيل والصحة والتعليم وغيرها من جهة، وبسبب قصور المؤسسات المحلية والإقليمية والجهوية والحكومية عن الوفاء بالتعهدات التي التزمت بها منذ سنة 2015 من جهة أخرى.. ثاني المستويات، ويحيل على تعامل السلطات العمومية مع حركة الاحتجاجات الشبابية. وفي هذا الصدد فإن السلطات العمومية تمسكت، منذ بداية الاحتجاج (أكتوبر 2016)، باحترام ملحوظ لحرية التعبير، وحرية الاحتجاج والتظاهر: فاقتصر وجود القوات الأمنية العمومية على مرافقة المظاهرات، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، متجنبة على الدوام التجابه مع جمهور المحتجين. بيد أن فعل الاندفاع الطائش، من لدن مجموعات قليلة في صفوف المتظاهرين، وارتكابها أعمالاً عُنفية يجرمها القانون، قد ألحق ضرراً فادحاً بمشروعية الاحتجاج والتظاهر، كما كبد قوات حفظ النظام العام خسائر بشرية (نحو 300 جريحاً) ومادية (قدرت بنحو خمسة عشر مليون درهماً). وفي ذات الوقت، فإن إقدام السلطات العمومية على اعتقال عشرات من شباب الاحتجاج، في شروط الاحتقان المتفاقم، الناجم عن فعل الانزلاقات العنفية الحاصلة في حمأة الاحتجاج، قد تسبب في حدوث أزمة ثقة بين السلطات العمومية وجمهور الشباب المتظاهر، مما بات يشكل تهديداً حقيقياً للمسار السلمي، والطابع الاجتماعي للحركة الاحتجاجية… ثالث المستويات، ويحيل على موقف ودور بعض «النخب» السياسية، وبعض مؤسسات «الوساطة» المجتمعية، المدنية والإعلامية، اتجاه الأحداث وتداعياتها… فعلى مدى شهور من الاحتجاجات والمظاهرات بمدينة الحسيمة وبلدة إمزورن، لم ترق مواقف وخطابات قطاع معتبر من النخبة المجتمعية، إلى مستوى المسئولية الوطنية، في اتجاه إنضاج شروط التهدئة الضرورية لمعالجة وإنهاء الأزمة. وبالفعل، فقد اتسمت خطابات هذه «النخبة»، الموثتة لمنابر إعلامية،ورقية ورقمية، بمسحة من الغموض والالتباس حول طبيعة الاحتجاج الشبابي بالحسيمة ومحيطها، وحول شروط وآليات معالجته، وهو ما شكل ضرراً بليغاً بموضوعيته ومشروعيته.. وفي هذا الصدد، فقد تبنى بعض هذه «النخبة العالمة» توصيف احتجاج شبيبة الحسيمة ب «الحراك»، على خلفية ما عرفته حقبة «الربيع العربي» من «حراكات» سوسيو-سياسية، أفضت، في نهاية المطاف، في ظل شروطها السياسية الوطنية، وملابساتها الجيوسياسية الخارجية، إلى المآلات التي نُشاهدها، والانتكاسات التي ما انفكت تكابدها بلدانها… كما طفح الخطاب الشعبوي المروّج، بصدد احتجاجات شباب الحسيمة، بتواتر الحديث عن «أحداث الريف»، وذلك من باب التهويل المبالغ فيه، في الوقت الذي يدرك فيه المغاربة عموماً، وساكنة المنطقة الريفية خصوصاً، أن «أحداث الحسيمة» لا تطال سوى الحلقة الأضعف تنموياً في منطقة الريف، حلقة الحسيمة، وأن المجال الجهوي الريفي عرف ويعرف تطبيعاً سياسياً، ونهوضاً تنموياً، قادهما، ويرعاهما، بحكمة وبعد نظر، جلالة الملك محمد السادس، منذ سنة 2004 بصفة خاصة، وذلك في إطار استراتيجية تنموية جهوية حازمة، تروم إنصاف منطقة الريف التي عرفت في الماضي، تهميشاً مؤسفاً، وإدماجها تنموياً في النسيج الاقتصادي الوطني. وتجري الأمور وكأن ظرفاً طارئاً في مسيرة الإصلاح والتنمية، كاف لوحده لفرض الانكفاء عن الرؤية الوطنية، والموقف المُواطن الذي يقتضي تمثل مفهوم «دولة الحق والقانون»، والتشبع بمبدأ سيادة القانون، باعتبارهما الإطار الأساس لدولة مدنية، حداثية تصون الحقوق، وتحمي الحريات، وتفعل سلطة القانون، وهو الثالوث الحقوقي الذي يحافظ على السلم الأهلي، ويوطد الاستقرار المجتمعي، ويساهم في تحقيق الرفاه الاقتصادي. ثالثاً: التهدئة: مفتاح معالجة الأزمة: إن احتواء تداعيات الأزمة، ومنع تجاوز حركة الاحتجاجات المطلبية المشروعة لإطارها الاجتماعي المعلن،يتطلب الانطلاق، بحزم وإرادة، من المحور الفصلي الذي يشكل مدار الأزمة. ومما لا ريب فيه، فإن الأخيرة تتغذى من تضارب مقاربات مستويات الأزمة الثلاث السابقة الذكر. وفي نظرنا، فإن الالتزام بخيار التهدئة، وتفعيل خطوات عملية لإنجازها يشكل مفتاح الحل، وانطلاق مسلسل تنزيله. وينسحب مضمون التهدئة على المبادرة باتخاذ إجراءات عملية، جريئة خمس: أولها: مبادرة السلطات الحكومية بتسريح المتظاهرين المحتجزين، غير المتابعين قضائياً، لدى الأمن الوطني، كخطوة تهديئية أولوية تمهد لفتح حوار مسئول حول الملف المطلبي برمته. ثانيها: تعليق الشباب المنخرط في مسلسل الاحتجاجات، الجارية منذ سبعة أشهر، لعمليات الاعتصامات والمظاهرات، في أفق المشاركة في عملية حوار بناء، منتج، لإنهاء الأزمة. ثالثها: تقليص الحكومة لحجم انتشار قوى الأمن في أحياء الاحتجاج، إلى الحد الضروري لحفظ الأمن وحماية الممتلكات العامة والخاصة. رابعها: مبادرة الحكومة، في غضون إنجاز التهدئة الضرورية، بفتح حوار على صعيد إقليمالحسيمة حول الملف المطلبي، في إطار مناسب، وعبر مقاربة عملية ناجعة. خامسها:التزام الحكومة بالعمل على تسوية مضاعفات سبعة أشهر من الاحتجاجات، بما فيها معالجة حالة المعتقلين المُحاكمين أو الذين صدرت في حقهم أحكام قضائية، وذلك وفق أحكام القانون ومقتضيات الدستور ذات الصلة. رابعاً: إعادة تكييف جهود التنمية المستدامة: إن استخلاص العبرة من زخم الاحتجاج الشبابي بالحسيمة، واتساع دائرة صداه التضامني لتطال مدناً مغربية أخرى، يقتضي تعبئة جهود الدولة والمجتمع لمعالجة الإشكاليات السوسيو-اقتصادية، ذات الطابع البنيوي، المفصلي، وهي الإشكاليات التي باتت متحكمة في شروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالبلاد. وفي صدارة هذه الإشكاليات البنيوية ثلاث: أولها: قصور بنيات النظام الاقتصادي الوطني عن مجاراة وثيرة الوافدين الجدد على سوق الشغل كل سنة، وهي المفارقة التي باتت تتسبب في الزج بنحو مائتي ألف شاب وشابة في مربع البطالة كل سنة. ثانيها: أزمة مؤسسات «الوساطة»، بمختلف نخبها السياسية والمجتمعية، وانحسار دورها في تأطير المجتمع وتعبئة المواطنين. وهو الوضع الذي أضحى يتهدد مسيرة التحول الديمقراطي،ويستدعي ضرورة وحيوية الارتقاء بدور هذه المؤسسات النخبوية إلى مستوى ما تواجهه البلاد من تحديات كبرى، وتستشرفه من رهانات عظمى.. ثالثها: استشراء جائحة الفساد، وتمدد أخطبوطه في عدد غير قليل من المرافق العمومية والقطاعات الخصوصية والمجتمعية، مما بات يستدعي مراجعة شاملة لسياسة الدولة في اجتثاث جذوره، وتفكيك شبكاته… وغني عن البيان أن التصدي لهذه المعضلات البنيوية الكبرى التي تترجم في الحقيقة مفارقة متفاقمة ما بين سرعة التحولات الديموغرافية، والتبدلات الاجتماعية التي تغشى المجتمع المدني والسياسي على السواء منذ عقدين من الزمن، من جانب، ورتابة إيقاع الإصلاحات، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجارية، من جانب آخر – إن التصدي لهذه المعضلات البنيوية الكبرى، تتطلب مراجعة عميقة لنموذج التنمية، ولأنظمة الحكامة، ولآليات توسيع وتعميق شروط الإنصاف وضمانات العدالة الاجتماعية. وفي ذلك، «فليتنافس المتنافسون»….