كلثوم كنو قاضية تونسية، ناضلت طويلا أثناء عهد زين العابدين بن علي من أجل استقلال السلطة القضائية عن بقية السلط، إيمانا منها بأن استقلال المرفق القضائي يمثل لبنة أساسية من لبنات بناء الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات. واصلت بعد الثورة التونسية نضالها داخل القطاع وخارجه، وصولا إلى إعلان اعتزامها الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في 23 نوفمبر القادم. نضال القاضية كلثوم كنو، قبل الثورة كما بعدها، كان مندرجا في سياق انخراط جملة من القطاعات الحقوقية والمدنية في مسار نضالي دؤوب. نذكر هنا أن القضاء والمحاماة كانا قطاعين مثلا مصدّا صلبا أمام تمدد الاستبداد السياسي زمن زين العابدين بن علي، وكانا أيضا، قلعة متقدمة للتنبه لما تحوكه أطراف سياسية أتت بها الثورة للبلاد التونسية. في هذا السياق كان لكلثوم كنو، ولفيف من زملائها وزميلاتها، دور بارز وطليعي. نشطت طويلا في إطار جمعية القضاة التونسيين، وهي الجمعية التي شهدت زمن حكم زين العابدين بن علي محاولات حثيثة من أجل تدجينها والسيطرة عليها، أو على الأقل إسكات صوتها. في هذا الإطار يشار إلى أن نضال جمعية القضاة التونسيين، كان متماهيا أو متوازيا مع نضالات الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ومع الهيئة الوطنية للمحامين ومع جمعيات وهيئات أخرى عديدة، وكل ذلك في إطار السعي إلى مقارعة الاستبداد السياسي لحكم بن علي، والتخفيف من منسوبه. ذلك أن حكم ما قبل الثورة كان يراهن، من جملة رهاناته، على إسكات أصوات القضاة والمحامين. يشار إلى أن القضاة الذين جاهروا بمناهضتهم أو معارضتهم للمنظومة السياسية التي أراد حكم بن علي إرسائها وتكريسها على مدى أكثر من عقدين، تعرضوا إلى تضييقات عديدة، من قبيل النقل التعسفية أو الحرمان من التدرج الوظيفي، وهو ما تعرضت له كلثوم كنو في أغسطس 2010 حين قررت وزارة العدل التونسية نقلها من محافظة القيروان (وسط) إلى مدينة توزر (جنوب غرب البلاد وتبعد أكثر من 500 كلم عن العاصمة)، وهو قرار اعتبرته القوى الديمقراطية والحقوقية والنقابية يومئذ مواصلة في انتهاج سياسة الانتقام التي تعتمد عليها الحكومة التونسية في تصفية حساباتها مع معارضيها والعناصر التي تصر على الاستقلالية وعدم الانخراط في درب الولاء والطاعة للسلطة والحزب الحاكم. لم تكن عقوبة كلثوم كنو فردية، بل سبقتها عقوبة جماعية طالت جمعية القضاة ذاتها، حيث مارست السلطة التونسية آنذاك، أسلوبا ملتويا للجم أفواه القضاة، بأن رفضت الاعتراف بالمكتب التنفيذي لجمعية القضاة المنبثق عن المؤتمر العاشر الذي انعقد في ديسمبر 2005، وعينت مكتبا مواليا وهو ما عُدّ ?انقلابا? على الهيئة الشرعية للجمعية، وبعد ذلك بدأ مسار طويل من التضييق على القضاة أعضاء الهيئة الشرعية مثلما أشرنا إلى ذلك آنفا (استجوابات متتالية لأعضاء الجمعية من قبل وزير العدل أمثال كلثوم كنو ووسيلة الكعبي وليلى عبيد وأحمد الرحموني وتوفيق سويدي)، فضلا عن منع هؤلاء من السفر لحضور فعاليات دولية عديدة. لم تثن كل هذه التضييقات كنو عن مواصلة نضالاتها، من خلال الدفاع أولا عن الهيئة الشرعية للجمعية، ومواصلة الدفاع عن استقلال القضاء وعن ضرورة إنشاء مجلس أعلى للقضاء مستقل عن السلطة التنفيذية (ينتخب أعضاؤه بدل تعيينهم من قبل السلطة)، وكذلك بالانفتاح على جمعيات تونسية وإقليمية ودولية عديدة منها (الاتحاد العالمي للقضاة)، وهو ما عرّضها إلى ضروب عديدة من الهرسلة والتهديد المادي والمعنوي. كان للسلك القضائي، مع قطاع المحامين، دور بارز أثناء الاحتجاجات والحراك الشعبي الذي عرفته الثورة التونسية، بين 17 ديسمبر 2010 و17 يناير 2011، حيث نقلت المواقع الاجتماعية صورا عديدة للقضاة ينظمون إضرابات مساندة للحراك الشعبي تجوب شوارع العاصمة باللباس المميز للقضاة، ولم تتخلف كلثوم كنو أيضا عن ذلك. ولعب القضاة آنذاك دورا في توثيق الانتهاكات التي حصلت أثناء المظاهرات والاحتجاجات، بالتعاون مع منظمات حقوقية عديدة. بعد الثورة، انتقل نضال كلثوم كنو، وزمرة من القضاة التونسيين، إلى سياق آخر مختلف عن سياق زمن بن علي، لكنه أكثر دقة وأهمية. إذ تجددت المطالبة باستقلال السلطة القضائية، واعتباره ضمانة لنجاح الانتقال الديمقراطي الذي عاشته تونس، كما لعب القضاة دورا بارزا في التعريف بالإشكاليات القانونية والدستورية التي تواترت على العملية السياسية. بل كان القطاع بكل رموزه من أشد المنادين بضرورة الإسراع في بدء تطبيق العدالة الانتقالية. وفي هذا الصدد كان لكلثوم كنو مساهمات عديدة، سواء في الندوات والملتقيات التي تعددت في العام الأول للثورة، أو في المنابر الإعلامية، وكانت دائمة القول بأن ?المنظومة القضائية تعيش على وقع صعوبات وضغوطات عديدة في ظل المرحلة الانتقالية، بسبب عدم الشروع الفعلي في إصلاح الجهاز القضائي حتى يقوم بمهامه في أحسن الظروف وعلى أكمل وجه». وواصلت الإصداع بما يدبّر للقضاء (لوعي السلطة بحيوية دوره) بالقول إن «جمعية القضاة في صراع ومواجهة مع السلطة التي تتدخل في القضاء عبر التعيينات، سنواصل معركتنا حتى ترفع السلطة يدها عن القضاء..». ورغم تأسيس نقابة القضاة التونسيين عام 2011، كهيكل مهني مواز للجمعية ذات التاريخ النضالي الكبير، ورغم ما أحدثه التأسيس من تشويش وتداخل بين المنظمتين، إلا أن الجمعية لم تفقد مصداقيتها لدى الرأي العام التونسي، ولدى المجتمع المدني والسياسي، ولم تفقد كلثوم كنو بدورها شيئا من رصيدها النضالي المشرف. كل هذه المراحل والمحطات في سيرة القاضية كلثوم كنو، وفضلا عن التضييقات التي تواصلت ضدها بعد الثورة (خاصة زمن حكم الترويكا التي تهيمن عليها حركة النهضة الإسلامية) أتاحت لكلثوم كنو أن تفكر في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. كان مجرد إعلان نيتها الترشح، في حد ذاته حدثا سياسيا مس البلاد بأسرها، اعترافا بتاريخ كلثوم كنو ونضالاتها، وتثمينا لترشح امرأة لأعلى منصب في الدولة. ولا يمثل فوز كنو من عدمه أهمية تذكر هنا، إذ اعتبر عديد الملاحظين أن ترشحها في عمقه هو قرار لخلخلة السواكن السياسية، وكسر هيمنة العنصر الذكوري (مفيد التذكير هنا بأن المناصفة التي جاءت بها انتخابات 23 أكتوبر 2011 عدت من قبيل تجميل العملية السياسية). ترشح كلثوم كنو تزامن مع استعداد حثيث تعيشه تونس للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وتزامن أيضا مع إطلاق حركة النهضة لمقترح البحث عن رئيس توافقي لتأمين المرحلة القادمة، وهو ما عُدّ قفزا على العملية الانتخابية، ومصادرة لحق الشعب التونسي في اختيار رئيسه القادم، وفي هذا الصدد قالت كلثوم كنو إن ?مقترح الرئيس التوافقي بمثابة إفراغ لمفهوم الديمقراطية وهو مخالف للثورة أيضا لأنه يدل على أن النهضة لا ترغب في ترشيح رئيس من طرفها، لذلك انخرطت في صيغة توافقية حول هذا المنصب، وتكمن خطورة هذا المقترح في أن هذه الصيغة مفروضة من جهات دولية وهو يمس جوهر الديمقراطية ويحد من حق المواطن في اختيار رئيسه?. ترشحها في عمقه هو قرار لخلخلة السواكن السياسية، وكسر هيمنة العنصر الذكوري أما عن دوافع ترشحها للانتخابات الرئاسية فقد أكدت كلثوم كنو أنها تعتبر تونس اليوم في حاجة لكلثوم كنو ولغيرها، و?ما شجعني على هذه الخطوة هو إدراكي لما يحاك هذه الأيام في دوائر حزبية ضيقة ضد الشعب التونسي برز من خلال مقترح الرئيس التوافقي، وفي رأيي هذه مسألة خطيرة جدا لأنها تضرب أسس الديمقراطية حيث لا توجد ممارسة ضد الشعب أبشع من أن تفرض مجموعة من الأحزاب عليه رئيسا، خاصة بعد ما بلغني أن هناك اتفاقات بين عدد من الأحزاب التي ترغب في ترشيح شخصية كان لها ارتباط بالنظام السابق وهذا ما لا أقبله». امرأة، وقاضية، ومناضلة، ومشروع رئيسة تونس القادمة، تلك كلثوم كنو، التي لم تتوقف عن تقديم قرائن جرأتها وجسارتها، ولعل ترشحها للرئاسة سيدفع غيرها من النساء إلى الإيمان بقدرة المرأة التونسية على المشاركة الفاعلة في الشأن العام. ترشح كلثوم كنو إلى منصب الرئاسة دفاع عن مشروع مجتمعي تونسي حديث، بدأ مع مصلحات تونسيات عديدات، وتكرس مع مجلة الأحوال الشخصية لعام 1956، وتواصل طيلة العهد البورقيبي، لكنه مهدد اليوم بانحسار مكاسبه في ظل سطوة التيارات الدينية التي ترى في المرأة عورة أو «ناقصة عقل ودين».