(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة. قال الأوزاعي: «لا يستقيم الإيمان إلا بالقول. ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل. ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة «. في الحديث: «إِنَّ للَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم. إن أعمال القلوب وأعمال الجوارح تختزل محصلة حياة الإنسان …وتظهر أثر التربية والمعرفة في الأقوال والأفعال، وهذه الأخيرة تكشف حقيقة نوايا وطبيعة باطن الإنسان ..فلا يستقيم اللسان الأعوج المتعوذ على النميمة والغيبة والسب والقذف مع وجود قلب مؤمن خاشع مهذب وسليم …فلذلك قال الإمام علي «الرجال صناديق مفاتيحها الكلام «و نقل عن أبي حنيفة قوله مجيبا رجلا عليه علامات الوقار وهيبة العلماء سأله متى يفطر الصائم ليجيبه عندما تغرب الشمس ..ثم سأله مرة ثانية وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم، فقال أبو حنيفة « آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه» وقال الفيلسوف اليوناني سقراط «تكلم حتى أراك ».. فكل أعمال الإنسان يشترط فيها صلاح أعمال الجوارح واستقامة أعمال القلوب التي بها يقوم صدقه من نفاقه وحسن نيته من فسادها..وبكل ذلك توزن الأفعال شرعا وعقلا ووضعا .. فالصائم يفترض فيه الامتناع عن موجبات الإفطار كلها مع صفاء في نيته وأفعاله وأقواله بإخضاعها لسلطان العقل والمنطق والشرع…والمصلي صائم لحظات الصلوات عن كل ما يبطل الصلاة بإدخال أفعال وأقوال لا يتعبد بها إذ لا يصح الجمع بين الصلاة والهزل و العبث ولا الرقص ولا متابعة سماع الأخبار والبرامج الإذاعية أو التلفزية أو الحديث مع الغير، وحتى كثرة التحرك في الصلاة دليل على غياب الخشوع وكما جاء في الأثر …( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). .. وفي الحج كذلك يصوم الحاج عن كل ما نهى عنه الشرع من أفعال وأقوال و… إذ لا رفث ولا فسوق ولا جدال ولا قتل الصيد ولا استعمال الطيب في الحج على سبيل المثال.. والزكاة تكون من الأموال التي اكتسبها مالكها من الحلال بصيام صاحبها عن المال الحرام من رشوة وغش وابتزاز كما لا تكون رياء وسمعة.. إن حياة الإنسان تؤطرها الشرائع السماوية و الأعراف المكملة لها والقوانين التي تضعها الدولة… فإذا كان الصيام هو الامتناع عن المعلوم والمعرف شرعا .. فإننا في حياتنا نمتنع عن الكثير من الأشياء إيمانا منا بذلك واحتراما للمجتمع ومراعاة للقوانين.. فالذي يتجرأ على قول الفحشاء والسب والقذف بالكتابة أو بالكلام فهو خارج عن روح الجماعة التي ينتمي إليها .. فما لا يستطيع الإنسان قوله أمام من يستحيي منهم وجب عليه أن لا يقوله أمام كل الناس وإلا يكون معتديا ومتعارضا مع عقيدته وقناعاته التي يلزم بها نفسه في حالات دون أخرى .. لهذا تتضح الغاية والهدف من العبادات حيث يقول تعالى عن الصلاة : (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). سورة العنكبوت ويقول في الصوم : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). سورة البقرة ويقول في الزكاة ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ولله سميع عليم )سورة التوبة. لهذا فإن أعلى المقامات في ديننا مقام «الإحسان» وهو كما جاء في الحديث: «الإحسان أن تعبد لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».. وبتأملنا للأعمال في شموليتها قصدا ومنشأ وتنزيلا في الواقع وما يترتب على ذلك سنجد أنه عندما تسوء النية ينتفي الصدق وتتعطل التقوى و تتحقق المخالفة التي تترتب عليها مفاسد أحيانا صغيرة وأخرى عظيمة تطال كل قريب أو بعيد له صلة بامتدادات ذلك الانحراف .. لهذا عندما توزن الأعمال في يوم الحساب الدنيوي والأخروي يعمد المشرع إلى استحضار النية والقصد، ولهذا تختلف العقوبة ما بين القتل العمد والقتل الخطأ ..ويختلف تقييم الأعمال كلها انطلاقا من القلب هل هي مع سبق الإصرار أم سوء تقدير وتهور أم انجرار وراء نزوات لحظية زائلة … جاء في الصحيحين: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»/النفس/ العقل. فتأسس على ذلك معيار جد صعب ومعقد دفع العديد من العلماء إلى الزهد والتصوف والانعزال عن عوالم الشهوات والرغبات والميولات المادية… قال تعالى واصفا الأنفس المريضة الحاقدة (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) سورة المطففين .والران نقط سوداء أي الذنوب والمعاصي عندما تصل درجة من الانتشار تسود القلوب وتفقد إنسانيتها ونقاءها الفطري … وقال تعالى (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) سورة التوبة… وجاء في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». إن الحق / الحلال بين، والباطل / الحرام بين، لايعرفهما إلا جاهل أو غير متعلم أو متفقه في أمور الدين أو المجتمع .. قال رسول لله صلى لله عليه وسلم ((إن الحلال بينٌ وإن الحرام بينٌ، وبينهما أمور مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدِينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمًى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))؛ رواه البخاري ومسلمٌ. إن من متطلبات العمل بذل الجهد البدني والعقلي من أجل الرزق والعيش وصفاء في العمل العام وفق القواعد والأصول الشرعية والعقلية و أن يكون العمل لله وابتغاء مرضاته مما يضمن أن يتحول العمل إلى عبادة فلا يقبل إيمان بلا عمل، ولا عمل بدون إيمان، كما أن القيم الإيمانية من الأمانة والكفاءة والصدقية والوفاء والتواضع هي من أهم مرتكزات العمل الصالح والخالص، مع اقتران وثيق بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح ونتائج كل ذلك ; قال تعالى،(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) سورة العصر إن العمل الصالح هو القيمة المعتبرة والمضافة والمستدامة التي تترتب عليها نتائج طيبة محمودة فيها صلاح الفرد والجماعة اليوم وغدا ..وبالمحصلات والنتائج الفعلية نختبر في هذه الحياة وتوزن إعمالنا في الأخرى قال تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) أي أخلصه وأصوبه.. قال تعالى : «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»سورة الكهف قال الرسول الكريم ((إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان لله – لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط لله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)) وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب – رضي لله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).