في كتابه الصادر في بحْر السنة الجارية، "الإخْوان المسلمون، تحقيق حوْل آخر إيديولوجيا شمولية"، للباحث والصّحافي الفرنسي ميخائيل برازان. الكتاب هو ثمرة تجوال طويل للمؤلّف في شتى أنحاء العالم العربي مشرقا ومغربا، حيث التقى قادة الإخوان المسلمين في كلّ مكان، وحاورهم بعد أن استقبلوه مطوّلا. وعن هذه الحوارات والاستقبالات، نتج هذا الكتاب الهام. منذ بضعة أشهر فقط، كانوا يقودون أكبر بلد عربي: مصر. ولكنهم الآن أصبحوا مطاردين في كل مكان، أو قابعين في السجون، أو نازلين تحت الأرْض بعد أنْ عادوا إلى حياة السرية التي جرّبوها طويلا في الماضي. فمن الإخوان المسلمون يا تُرى؟ إنهم جماعات منتشرة في شتى أنحاء العالم العربي، بلْ وحتى في الدياسبورا الأوروبية والأمريكية. إنهم مشكَّلون على هيئة روابط أو أحزاب سياسية أو «جمعيات خيرية»، بين قوسين. ولكنهم مشتبه فيهم دائما بأن لهم علاقة وثيقة بالحركات التكفيرية والجهادية. بالطبع، هم ينكرون ذلك ويقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم معتدلون لا علاقة لهم بالتطرّف والمتطرفين. ولكن، من يصدقهم؟ على أي حال، فإن الباحثين مختلفون في شأنهم. فالبعض يقول بأنهم إسلاميون معتدلون، والبعض الآخر يقول بأنهم ثيوقراطيون مقنّعون. وعلى أي حال، فإنهم يحيّرون بقدر ما يقلِقون. خلافا لبعض أعضاء تنظيم الإخوان في نسختهم الفلسطينية "حماس"، المتشنّجين في غالبيتهم، يبدو الغنوشي هادئا ونسقيّا في كلامه، وكأنه يعرف ما يقول وما يريد. لذلك أسهب في الكلام حين بادرته بأسئلة قصيرة عن موقف الإسلاميين في تونس من إسلام تركيا والغرب وما تعيشه مصر من تراجع للإسلام السياسي، وردّ قائلا:" بالعكس، نحن قريبون من كل المسلمين في العالم، ومن هنا نحاول فهمهم والغوص في تجاربهم للاستفادة منها". أما الغرب، فإنه يبدو، في كثير من الأحيان، في فكر وخطاب الغنوشي في صورة العدو المتآمر ضدنا، والذي ينبغي علينا مواجهته دائما، الأمر الذي يجعل الصراع في تصوّره غير منته، حسب قوله:" الحقيقة التي للمسلمين أن يفخروا بها، هي أنهم كما كان لهم شرف الإسهام الكبير في انهيار امبراطورية الإلحاد، فقد كان لهم الشرف العظيم أن كان لمقاوماتهم الإسلامية الدور الطليعي في استنزاف قوى العملاق الأمريكي، وإصابة جيوشه واقتصاداته ومجتمعه بأعظم الخسائر التي فاقت قوى تحمله"، إنه نفس الخطاب تقريبا الصادر عن الراديكاليين الإسلاميين. بل إنّ الغنوشي يعزو الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في الربع الأخير من سنة 2008 للمقاومة الإسلامية. ويعتمد الغنوشي المرادفة بين الحرب على الإرهاب والحرب على الإسلام، كما يحاول كثير من قادة الراديكالية الإسلامية ترويج هذا الترادف، فواحد من ملامح العالم الجديد بعد إدارة بوش في رأيه هي "أن الفشل الذريع لاستراتيجية الحرب على الإرهاب، كانت غالبا الاسم الرمزي للحرب على الإسلام، تلك الحرب التي مثلت تهديدا خاصة للوجود الإسلامي في الغرب، يضع أمام الإسلام فرصة لأداء رسالته في إعادة المعنى والقيمة الخلقية إلى حضارة فقدتهما" ، كما أن من ملامح هذه الفترة الجديدة حسب الغنوشي أنها تقدم فرصا جديدة للأقليات الإسلامية، وللحركة الإسلامية والديموقراطية، فالأقليات الإسلامية في الغرب بشكل خاص، تنفتح أمامها فرص غير مسبوقة للاندماج الفاعل في مجتمعاتها. وفي حديثه عن الوجود الإسلامي في الغرب، يرى أن تأثير جماعات الإرهاب تشوه صورة الإسلام هناك، وتسبب العديد من المشاكل لهذا الوجود، إذ تفصل بين إسلاميتين، إسلامية واعية يمثلها الغنوشي وغيره، وإسلامية عدمية تمثلها جماعات الإرهاب حسبما يصفها، يقول الغنوشي: "يضاعف من مشاكل المسلمين تصاعد تأثير جماعات الإرهاب على صورة الإسلام عامة، وعلى الأقليات المسلمة بشكل خاص، بما يكاد يجعل من كل مسلم في الغرب مشروع إرهابي يخشى منه". وهو ما يزيد من أثره: "إنّ غياب نماذج مجتمعية إسلامية تشهد لعدالة الإسلام ورحمته وقدرته على استيعاب كل مكسب حضاري، بما يرجح صورة الإسلام الخطر، والربط بينه وبين الإرهاب والعداوة للفنون الجميلة وللديموقراطية وللسلام ولحرية المرأة ولحقوق الإنسان، بما هو الضدّ من كل وجه لدين، إنما جاء لمصالح العباد وتتميم مكارم الأخلاق واعتبار البشر كلهم إخوة". كلام الغنوشي ينسجم مع ما يردده كثيرا حتى في كتاباته، حيث يعزف على وتر إمكانية وضرورة المصالحة بين الإسلام والقيم الحديثة، شأن الديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وهو بهذا الخطاب ينفصلُ عن الجماعات الجهادية، ولكن تبقى هناك نقط التقاء غير مقصودة بين خطاب الرجل وبين هذا الخطاب الذي يرفضه، من قبيل تصور الحرب على الإرهاب حربا على الإسلام، أو امتداد هذه الحرب منذ الحروب الصليبية، أو وصف المخالفين من الحكام أو النخب العلمانية بالنفاق والعمالة كما سبق أن ذكرنا، وهو ما جعل خطاب الغنوشي يحمل سمات الاعتدال والمرونة، كما يحمل سمات التشدد والتصلب، كما اتضح في بعض مواقفه العملية بالخصوص طوال فترة رئاسته للحركة. إن واحدا من أبرز علامات الاعتدال في فكر راشد الغنوشي، يتضح في تمييزه النخب الغربية إلى فريقين، وأن منهم العقلاء الذين يمكن التحالف والتعاون معهم، وهم الذين يفهمون السياق الدولي فهماً عادلاً وموضوعياً، مقابل فريق اليمين المتطرف الذي ينظر لهذا السياق وبخاصة قضايا المسلمين فيه نظرة إيديولوجية غير عادلة، فهو لا ينفي وجود القوى العاقلة في الغرب، التي "تنطلق من أن الإسلام أمر واقع ومكوّن من مكونات الحقيقة الغربية، وليس من سبيل غير العمل على إدماجه، والإفادة مما يتوفر عليه من إمكانات خلقية اجتماعية يحتاجها الغرب" .