«ليست ثمة قصة متكاملة طالما أن هناك مجموعة من القراء المتربصين. القصة التي كتب لها النجاح من باب الصدفة، كانت قوتها في شخوصها بعيدا عن إرادة الكاتب». كاتب سها البال عن ذكر اسمه لا أعتقد أن المصادفات لها وجهات معينة، لكنني على يقين أنها ترتبط بفصل الخريف في الغالب. الرياح تنفض جيوبها المحشوة بالممكنات والمستحيلات الحارة، والذاكرة تردف صورها من تلقاء نفسها، مستلهمة حكايتها المثيرة وفق شخوصها، التي تحاول أن تفتعل المرونة أو الغلظة في الحيز الخارج عن منطقة الاعتياد. لم تدرك حقها في الجانب المتعلق بها داخل هذه الدينامية المتوثبة كماكينة تفرز المقاسات والأشكال والألوان، ليست شخوصا على بينة من أمرها. شمس الخريف تشل مخ الجميع. والعقول ليست محفوظة في ثلاجة. الشخوص تتطلع إلى الانزواء داخل ظل الذاكرة. ارتجاجات منسكبة على صفيحة الدماغ، معلنة ميلاد التنويعات الحريفة، قد تكون مداهمات أحيانا عند كرمشة الأنف، وتغضن الجبهة بخيوط الهم. أو طرق باب مكامن الرغبات عبر إفرازات خارجية لزجة، تستروحها الشخوص قبل أن تعرف ميلادها إلى الخارج. يبدو أن أحدهم انتفض موجها لكمة ضد تيار الأحداث، فتنبع فكرة الوجوه التكعيبية عنوة بالمعنى الفني، بعيدا عن المعنى الطبيعي، حتى لا تستمد الوجوه مبررات وجودها بمقاسات نظرية النشوء والارتقاء، ونقتفي أثر سلوكيات الإنسان البدائي الزاحف، مشيدين بسطوة الانطباعات الحسية. الشخوص لم تحدد نيتها بعد في تحديد الرؤية الفسيولوجية التي ستحدد الحكاية، فماء الحكاية يسيل برغبة اللذة الديونيسية المسكونة بهواجس التعرية والمكاشفة والنشوة من جهة. ومن جهة أخرى يسعى إلى تبني الطروحات الإيديولوجية العالقة، المحنطة في غرف الذاكرة، والمربكة للروابط أكثر من مواضعات الصورة، وقياس الحكاية بمقاييس الآخر على أساس أن العدو خارجي. فأحد الشخوص يتمسك بهذا الطرح، وهو على سرير الاحتضار، يبدي التفكير في الخلود، مادام الكاتب اللعين يموقع ذاته ضمن البنية النصية: « سأرغم هذا الكاتب اللعين على لبوس دور الشيوعي الأخير الذي يحتضر في الضاحية الفقيرة من المدينة.. أصدر سعالا ممهورا بالتبني اللطيف لتروتسكي بعيدا عن الشوفينية الستالينية، وقرع أحذية الطاعة في أكتوبر المجيد.. أنا الآن ممدود الجسد على فراش مهترئ في بيت يلفه الظلام طوال الوقت، يمكن أن تستعين بالنور إذا كانت لك رغبة في الإحاطة الكاملة بالحياة، لا داعي أن تشكل السياقات وأنا على أهبة النتائج، أو على أهبة أن أغادر المادة كما تؤكد الفكرة الأم. زوجتي بلاكوفا لا يمكن أن تتعجل في السماح لتلك الطاقة التي ستستحوذ على المادة بالدخول من الباب، والسطوة على بدني، فهي حريصة على أن تمكث قرب الباب، تفكر في لغز المضاعفة البصرية بتجنيد كلبها الوفي «دوف»، المدرب على رصد الكيميائيات الغريبة. إنها موقنة أن حصتها من الغذاء مضمونة بفعل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج في البيت، وأنا كذلك أظل وفيا لمبادئ الحزب الواحد، حتى لا ترفع صوتها منددة بموت الزعيم، مشيرة إلى صورتي بالأبيض والأسود بقميصي الأبيض بدون ياقة، وتقاسيم وجهي المعبرة عن صرامة توحي بفتح جهنم الحمراء على الأعداء. أعتمر قبعتي وأرغم بلاكوفا على قرع الإناء لكي نشرع في توزيع الطعام، فتتصنع الانتظار في طوابير تخلقها بنفسها، وحائمة على نفسها عدة مرات لمداهنة ما تبقى منا.. ههههههه، بالرغم من أنها تحظى بوجبة واحدة في نهاية المطاف. نستعذب هذه المسرحية لسنين طويلة، ونكرس الافتتان بغية حفاظ كل واحد منا على دوره، حتى نعيش تلك الرغبة المبهرة بكل عوالقها. إذن كيف سينجح هذا الكاتب اللعين في بلورة قناعتنا وكرشه البارز حد التخمة من خير الرأسمالية، و يتجاسر، ويرغمنا على أن نرضخ لبنيته الدلالية، سيهرب حتما حين تتربص بي تلك الطاقة الرهيبة في اصفرار مريب مكبلة المادة، فلم تفضل سوى تلك الصرخة المتناغمة مع الفصل الأخير من الشيوعية، بالرغم من حرص بلاكوفا وكلبها»دوف» على المضاعفة البصرية. كان على هذا الكاتب أن يلهي القدر السردي، أو يمعن النظر في تلك الطاقة المتسللة لنهاية المادة، أو نؤجل زمن القصة، وبناء النص، لكنه لم يفلح في التعاقد معي، فقد كنت أحضه على أن يظل النص ذهنيا، بعيدا عن الإنتاج النصي الذي يتوخى التحرر، أو يصل إلى أكبر شريحة تتصرف فيه، وتبخس حقنا في رؤيتنا المتفردة، النابعة من ذواتنا لحظتها في زمنها النفسي على مستوى الخصوص. وأنا على يقين سأخلق شوشرة في ذهنه، فتتداخل مجموعة من الشخوص لابتعاث الشخصية المنبهة، محدثة الاستجابة الديونيسية بعيدا عن أوهام الطروحات، سأحرك ذئبه المائل إلى رصد الجوانب الخفية لنزوعات الإنسان، لا أرغب في أن أكون معشوقة الكاتب، حتى يمطرني بأوصاف الملائكة، مثنيا على جمالي الزائف الذي يسعد كل من يتمنون أن يصلوا إلى دبيب اللذة الخالدة. قيمة الحب ليست في لهفة الرجال الكثر، حتى اللحمة النتنة تسعد بجيوش الدود. والإغراءات الاستفزازية لا يمكنها أن تولد القناعات الخالصة، فهذه المناورات تؤكد الرغبة المقلوبة، القابعة في ثنايا الجوهر. ففي كل جسد تعرفه جوهر لا تعرفه، مادمت تراعي الاختلافات البيولوجية فقط، وتستمد المجال الأوسع في رصد الحنايا والثنايا والتفاصيل، لكن حين يخلد هذا الجسد للوحدة، يمعن النظر في حق ملكيته، وغالبا ما تكون مشكلة وهبه في منأى عن الشكل الخارجي، فيلعلع الجوهر الذي ينوس بدوره إلى الرغبة والانتقام. ولا يمكن إلا أن أعيد صياغة سالومي، وهي ترقص رقصة الموت أو رقصة النكاية على شرف الرأس المقطوعة ليوحنا المعمدان، بجسدها العاري كقربان للرؤية الداخلية العميقة، فالجدير بالاحترام هو الجوهر وليس الجسد.. الكل سيراهن على أن سالومي ابنة هيردوس، كان بإمكانها أن تحب شابا من العائلة المالكة، بعيدا عن هذا الشاب المتفرغ للصلاة والصوم بلحية شعثاء، وأرجل حافية تعكس زهد وقلق النساك. لكن كل الرجال لم ينفذوا إلى جوهر سالومي سوى إياه. وبالرغم من حصول سالومي على رأس يوحنا المعمدان، فقد كانت تتألم أكثر مما تألم هو نفسه لحظة قطع رأسه.. هل يمكن لهذا الكاتب المنسجم مع قناعات الفحولة، أن يخلص إلى أن الحب هو تبادل العدائيات، ويقف عند الفجوة الكامنة بين اللحظتين، والانسجام معهما في الحيز الذي يضمن استمرار المرأة، بعيدا عن خبل الجسد وهذيانات جغرافيته في خانة المألوف؟ هههههههه، ماذا دهاك أيها الكاتب، ألا ترغب في إتمام قصتك، أم أنك لم تحصد سوى ريح الخريف؟ فأنت لا تصلح أن تكون كاتبا، مادمت لن تختلف عن بني جنسك، وتؤمن بالمصادفات، فأنت لا أحد. هههههههه.. هههههههه.. الآن أقر أنا الكاتب أني تلقيت صفعة من شخوصي، لم تكن في الحسبان، بعدما كانت الشخوص الذهنية قريبة المأخذ في كولستها قبل الزج بها في بناء القصة والتصرف فيها، فقد أكدت المصادفات هذه المرة، أنني لست واحدا بل عدة أشخاص. أنا الميت في عالم الصحو. أرقب العالم عبر منظاري، الذي ضاع في يد المصادفات المرتبطة بفصل الخريف في الغالب، والمسعف بنفض جيوب الرياح المحشوة بالممكنات والمستحيلات.