بنفس السنة التي تعرّف فيها الفيلسوف الألماني نيتشه على الشابة الروسية لو سالومي (ربيع 1882)، كتب نيتشه لهذه الروسية التي فتنته، بعض التوضيحات الأساسية حول الذكورة والأنوثة وذلك فيما يتعلق بمفهوم الحب. علاقة نيتشه بسالومي علاقة مضطربة نوعا ما وكان لها تأثير على كلا الطرفين خاصة نيتشه. فسالومي العشرينية الحالمة والمؤمنة بالعلاقات المتحررة والصداقات المثيرة انبهرت بمجاز نيتشه وطريقة إلقائه، الأمر الذي جعله في نظرها رمزا ثقافيا : فارس أسطوري أقرب للخيال منه للواقع بنعومته المفرطة وسعيه المتكرر لإضفاء طابع فلسفي على حضورها وشكلها. من جهة نيتشه فسالومي بالنسبة له هي النقص الذي يكمله، الغياب الذي يلزمه لتعزيز وتقوية حضوره، سالومي في نظره هي الجمال والرفعة والشباب والحيوية وكل ما كان يراهن عليه نيتشه الأربعيني لتجاوز ذاته المحبطة والمحرومة حسيا. سالومي المندفعة بحماس الشباب والمتعطشة للعظمة التي تتكشف في تعلّقها بأي قامة فكرية ظاهرة بالوسط، رفضت الخضوع لارتباط تقليدي مع الفيلسوف الذي استيقظت فيه روحانية حميمية نتيجة الحضور الإلهي لسالومي كما أحسّه. أثر هذا المنعطف بمسيرة الفيلسوف حيث انقلبت مفاهيمه ومازجت بين التناقض والإختلال والحدس أحيانا، قسوة الطرح لديه ووضوح الرؤى خالف تدهوره السلوكي وانتكاسه العاطفي الطفولي. فيلسوف الأفق ارتدّ كطائر جريح. لم يدرك نيتشه نينجا الفلسفة هذا أن سالومي التي رآها كزوجة ناضجة، رأت نفسها كأميرة رواية رومنسية تجذب ألمع العقول إرضاءً لغرور جمالها المتفتح، معتبرة نيتشه أستاذها المرغوب الذي يلزمها إغواء جدّيته وليس خطيبها الولهان بصيغة مراهق متوتّر. أسقط عليها كيان ڤينوس الإلهي وهي مجرد عصفورة، فأجفلت وفرّت. كانت تميل للقهقة بالطرقات ولعب الغميضة بين الأشجار كطفلة تحضنها في لعبها عينا أبيها وتحميانها من تعثر اندفاعاتها السعيدة، بينها هو كان يرغب بعارضة أزياء متقاعدة تتشبث بذراعه فيما هو يتأمل في هفوات إيمانويل كانط على كرسي بالحديقة، أو تضع الشاي بقربه بينما هو يدوّن شذرات سيكولوجية بمكتبه في منزل ريفي. إنه اختلاف رؤى ومتطلّبات عمرية، زاد من توسيعه عجز نيتشه عن استيعاب دلع سالومي. وفي مراسلاته سيتبيّن جوهر الإشكال، حيث نيتشه يرى سالومي كفيلسوف ند أو قامة فكرية موازية، على غرار الماركيزات في المسرحيات الجدلية! لكن سالومي تظل أنثى، والأنثى ليست «طيّبة ولطيفة ومُحبة على الدوام، هناك أوقات تكون فيها باردة ومستهترة وعصية على الفهم»، كما عرّفت بذلك سيلفيا بلاث عن نفسها. كتب نيتشه لسالومي العديد من الرسائل، مستعرضا لها أفكاره وحالته النفسية والصحية، كتاباته، مكان تواجده، دعوات وكذلك وصايا حول أسلوبي العيش والكتابة، بما في ذلك المقاطع التالية عن الحب : «1 من يطمحون للعظمة هم بالعادة أناس سيئون، تلك طريقتهم الوحيدة في التحمّل. 2 من لا يجد العظمة في الإله لن يجدها أبدا، وبالتالي فإما ينكرها - أو يخلقها (يساهم في الخلق). 3 + + + 4 الترقب الهائل للحب الجنسي، يُشوِّه رؤية النساء لكل التوقعات البعيدة المدى. 5 البطولة - إنها التفاوت حيث الشخص الذي يضع هدفا نصب عينه لا يُدخل ذاته بتاتا في الحساب. البطولة هي الإرادة المناسبة لاختفاء الذات. 6 نقيض النموذج البطولي هو نموذج النمو الكوني المتناغم - نقيض رائع ومرغوب ! غير أنه نموذج موفّر فقط للذوات الجيّدة الأساس (غوته على سبيل المثال). الحب بالنسبة للرجال شيء يختلف تماما عما تفهمه النساء. بالنسبة للأغلبية، الحب بدون شك هو شكل من الجشع. بالنسبة للبقية، هو مذهب معاناة مقدسة ومُقنّعة. لو اضطلع الصديق ري على ما كُتب هنا، سيعتقد بأني جُننت. كيف هي حالكم؟ لم يسبق أن عرفَت توتنبرغ نهارا أجمل من هذا. الهواء نقي، ناعم، وقوي : مثلما يجب أن نكون جميعا. خالص التقدير. ف ن». كان الصديق ري المذكور برسالة (غشت من نفس السنة) هو الذي قدّم سالومي لنيتشه بروما شهر أبريل. وهو سبب الانعطاف في العلاقة، حيث أن ري كسب ودّ سالومي نتيجة تقرّبه الكبير منها ومرافقته لها بالغالب. لم يتوانى نيتشه في مراسلاته عن معاتبتهما ولومهما، محاولا الظهور مرة بصفة المخدوع ومرة بصفة المفكر الراقي الذي تفهّم القصة، ومرة بصيغة الغفران ومحاولة إعادة إصلاح العلاقة، ومرة بهيئة المتعالي الذي ينتظر اعتذاراتهما (خاصة سالومي)، لينزلق الأمر بنيتشه في النهاية حد الشتم والإهانة والتقليل من شأن سالومي متخلّيا عن وقار هيئته الفكرية. مُضيفا أخته كذلك لمعادلة اللوم والكره والتي سممّت في نظره العلاقة بتدخلها في الشجار نتيجة مقتها لسالومي. ظلت سالومي الهوس الذي لم يرغب التخلص منه، متخفيّة في رسائله وأعماله، لتكون الشمّاعة التي تعلّق عليها اضطرابه.