العالم لايحكمه الفزيائيون أو الرياضيون أو البيولوجيون أو التقنيون أو التجريبيون من كل نوع.. هؤلاء ليسوا في الواقع سوى أعوان تنفيذ سياسات/استراتيجيات يصنعها منظرو التموقع/الزحف الامبراطوري على العالم.. إن دولة تضرب العلوم الانتروبولوجية والاجتماعية والسياسية والفلسفية والجمالية كالمغرب تحرم نفسها من الأداة/آلة الحرب الدفاعية الوحيدة القادرة على المساعدة على الوقوف في وجه ضواري تزحف من كل صوب.. تداول مؤخرا موقع هسبريس هذا الخبر: «خروج مثير ذاك الذي بصم عليه وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، لحسن الداودي، بخصوص خريجي بعض شعب الجامعات المغربية، وخصوصا حاملي الإجازة الأدبية منهم، حيث وصفهم ، بالعالة على الآباء والمجتمع. وشن المتحدث هجوما عنيفا على تلاميذ الباكالوريا الحاصلين على شواهدهم في الشعب الأدبية، معتبرا ارتفاع نسبتهم ب 9 في المائة مقارنة مع السنة الماضية بالمهول، والذي يشكل خطرا على المغرب إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه»، على حد قوله. ودعا الداودي إلى ضرورة مراجعة عدد الساعات المخصصة للعلوم والرياضيات في التأهيلي والثانوي، محذرا من معاناة الجامعات مع الشعب الأدبية، لأنه «لم تعد لنا المساحة الكافية لإيجاد تلاميذ في الرياضيات، في ظل طغيان كليات الآداب والحقوق، والتي أصبحت ملجأ للذين لا يجدون سبيلا آخر للدراسة». مضيفا أنه «إذا لم يتم توجيه التلاميذ من الابتدائي لهذه المواد العلمية سنعاني في الجامعة»، قبل أن ينبه إلى «أننا ورثنا منظومة ولم نغيرها، لأن المغرب كان في حاجة لتكوين على مستوى المعرفة»، مشددا على ضرورة «أن ننتقل إلى مجال البحث والمجال التكنولوجي، لأن هناك غيابا للتنسيق في المجالات وتشتيت للمؤسسات». في الواقع، ليست هذه هي المرة الأولى التي يخرج بها الداودي بتصريحات حاقدة على العلوم الانسانية والفلسفة والآداب.. فلقد تداولت صحف و مواقع الكترونية منذ حوالي سنة ونصف تصريحا للداودي في ندوة نُظمت بعنوان «استراتيجية الحكومة في النهوض بالبحث العلمي»، قال فيه إن «البلد ليس في حاجة إلى كليات الآداب». الخطير في تصريح السيد الداودي أنه لايتوقف فقط عند حدود التهجم النظري.. فهذا التصريح جاء مباشرة بعد الرسالة التي وجهها الى رؤساء الجامعات بشأن التقليص من عدد المناصب المخصصة لأساتذة العلوم الانسانية المورخة ب 22 غشت 2012.. ليسمح لي القارئ الكريم بالعودة الى الوراء للتذكير ببعض عناصر هذه الحرب على العلوم الإنسانية.. لقد اندلعت أول مواجهة بين الدولة ( أقصد دولة «الاستقلال» لأن الحرب على الفكر النقدي تضرب جذورها عميقا في التاريخ المغربي و هذا موضوع أخر) وهذه العلوم الحيوية نهاية الستينات عندما كشف الوزير أحمد العلوي للراحل الحسن الثاني كيف أن الطلبة الذين قادوا أحداث ماي 1968 بفرنسا أغلبهم زبناء لدى كليات علوم إنسانية و فلسفة و سوسيولوجيا. لم ينتظر الحسن الثاني كثيرا فأصدر أمره الشهير بإغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط بقيادة الخطيبي و باسكون و بودربالة سنة 1971، و هو المعهد الذي أراد له مؤسسوه تكوين سوسيولوجيين وأنتروبولوجيين شباب لدفعهم للحفر في التخلف الذي يعوق التقدم- وهو ما لم يكن ليقبل به الحسن الثاني.. نهاية السبعينات، و مع اشتداد الصراع مع المعارضة، سوف يأمر البصري وزير التعليم عز الدين العراقي بمنع أي مجاز فلسفة من ولوج مدارس تكوين المعلمين في محاولة لوقف تسرب الفكر «الثوري» الى أطفالنا في الابتدائي.. أما شعبتي الفلسفة بكليتي الرباط و فاس فلقد حوصرتا بوليسيا و حكم عليهما بالانزواء بين أسوار الجامعة ومنعها من أن تخرج الى الخارج لتكون صوتا تحليليا تركيبيا بيننا.. مع بداية الثمانينات، سوف تطلق الدولة مشروعها بافتتاح شعب الدراسات الإسلامية للترويج لفكر نجح بقوة في وظيفته التاريخية في تحويل الأنظار من الواقع وتضاريسه المعقدة الملغومة نحو الآخرة و جناتها السهلة.. وأخيرا، ومع تصاعد نجم الرأسمالية السلعية التجارية، وجدت الدولة «السبة» الكبرى لإبعاد العلوم الإنسانية والفلسفة تحت ذريعة أن لا دور لهذه الأخيرة في مجتمع متخلف لايمكن أن يتقدم إلا بالعلوم/المشاريع التجريبية والتقنية .. ليسمح لي الآن بعرض واقعتين أساسيتين وخطيرتين في هذا السياق، واقعتان تشيران الى دخول لاعبين جدد الى ساحة الحرب على الانسانيات.. في إحدى حلقات برنامج «مباشرة معكم» الذي ينشطه الصحفي جامع كولحسن على القناة الثانية (بثت الحلقة أواسط سنة 2008) والتي اتخذت موضوعا لها العلاقة بين «التكوين وسوق الشغل»، أجاب أحد المشاركين وهو رجل أعمال بيضاوي مشهور-ظهر في تلك الأيام على ظهر يخته الفاره يجوب المحيط الأطلسي من أجل، كما صرح لمستجوبه، توزيع بعض المساعدات الإنسانية في بعض أكثر المناطق فقرا وضياعا في العالم !!!- قلت أجاب المقاول الفاحش الغنى على تساؤل أحد الطلبة ممن تم استجوابهم في الشارع العام حول ما يمكن أن يفعله بإجازته في الآداب قائلا والانفعال باد جدا على محياه : «هذا دليل على أن الناس يقومون باختيارات بليدة. يجب ألا يتجه الطلبة نحو الآداب. إن ما نحتاجه هي دبلومات تلبي حاجات سوق الشغل». أتذكر أن وزير التشغيل (جمال أغماني حينها) و أستاذا للعلوم الاجتماعية بأحد المعاهد العمومية الكبرى بالرباط وكلاهما محسوبان على اليسار كانا حاضرين ضمن المدعوين «للنقاش» لم يحركا ساكنا أمام هذا التصريح غير المسبوق، مؤكدين حقيقة خطيرة سيكون لها ما سيكون على مستقبل الأدب و الفن والفكر في هذا البلد، وهي أن المسؤولين الحكوميين وبعض إن لم يكن أغلب «الفاعلين» الثقافيين بمن فيهم «الأشد يسارية» لم يعد يعنيهم في شيء أن يهجم ليبرالي متطرف على الآداب و الإنسانيات ناعتا إياها على الهواء مباشرة بالخيارات «البليدة».. ثلاثة أشهر تقريبا بعد ذلك، سيطلع علينا برنامج «حوار» على القناة الأولى بمفاجأة أفدح مما سبق. ففي رده على سؤال طرحته صحافية حول علاقة شعبتي الأدب و التاريخ بسوق الشغل، - وكانت المناسبة وراء طرح هذا السؤال في تلك اللحظة من البرنامج ما كان قد ورد على لسان مسؤول حكومي كبير من أن الدولة تفكر جديا في «إصلاح بداغوجي» (سيخرج فيما بعد تحت اسم «المخطط الاستعجالي» الذي انتهى كما نعلم الى إنتاج كل تلك الأورام الخبيثة التي نعرفها) يكون قادرا على تجاوز «الهوة الكارثية» بين التكوينات الجامعية «النظرية» وسوق الشغل- أجاب وزير التشغيل ( جمال أغماني دائما) بجملة/فضيحة (لا تختلف كثيرا عما تلفظ به «مول الشكارة» الشهير في القناة الأخرى) مفادها أن مثل هاتين المادتين لا أفق لهما في ظل اكراهات عولمة هي في حاجة لمهن تجارية و تقنية و تجريبية أكثر مما هي في حاجة للشعر والفلسفة والتاريخ.. !!! إلا أن هناك ما هو «أهم» من ذلك. ففي تغطية قامت بها جريدة «الصباح» ليوم السبت 29 مارس 2008 للقاء نظمته «جمعية طلبة المعهد الأوروبي للتسيير» بباريس مع أعضاء من «حركة لكل الديمقراطيين» (حزب الأصالة والمعاصرة لاحقا)، وهي الجمعية التي قدمتها الجريدة باعتبارها تضم طلبة من «أبناء علية القوم من أولائك الذي تنتظرهم المناصب المرموقة في المؤسسات الاقتصادية الحيوية في البلاد والذين لا يهمهم في شيء نظامها التعليمي وأزمته العميقة»، قلت في هذه التغطية أثارني أمران أتصور أنهما يحيلان بقوة لما يدبر في واضحة النهار للعلوم الإنسانية والأدب والجماليات بشكل عام في هذه البلاد. الأمر الأول هو أن وزير التعليم - أحمد اخشيشن حينها وكان واحدا من مدعويي اللقاء- ركز في كلمته على أن «النظام التعليمي بالمغرب تحول إلى آلة لتفريخ المعطلين المشكلين في أغلبيتهم من حملة الشهادات الأدبية و الحقوقية التي لا حاجة لسوق العمل بها، لا الآن و لا في المستقبل !!!». أضاف مراسل الجريدة بأن هذا القول «لقي بالطبع استحسانا كبيرا لدى الطلاب الحاضرين و كلهم مهندسون و متخصصون في التسيير المالي». الأمر الثاني هو أن عضوين في الحركة هما السيدان حسن بنعدي ( أستاذ الفلسفة و المعتقل «الانقلابي» السابق الذي كرس نصف ساعة من تدخله لشرح «الأسس الفلسفية للحركة»، وهو التدخل الذي ووجه، حسب التغطية، «بموجة عارمة من الاستياء والملل في صفوف الحاضرين، حد أن الجميع صفق بحرارة و سخرية عندما تفضل بالتوقف عن الثرثرة»)، و صلاح الوديع ( الذي قبع لمدة طويلة في سجن القنيطرة دفاعا عن «الشعر و الفن و الفكر و التحرر» !!) عاينا هذا الذبح المباشر للعلوم الإنسانية بكامل اللامبالاة المتواطئة.. إنها إذن هجمة جماعية على الفكر.. هجمة تشكل جزءا بنيويا من عقيدة (مخزنية/يسارية/اسلامية، لايهم) لم تقبل أبدا بحضور الفكر داخل الدولة وداخل المجتمع: ان مجتمعا مفكرا خطر جذري على السياسيين، كيفما كانت تلاوينهم.. يجب العمل وبقوة على إعادة العلوم الإنسانية إلى ساحات التداول السياسي والاجتماعي والعائلي والمدرسي. يجب الوعي بأن العلوم الإنسانية هي وحدها القادرة على فتحنا على الأبعاد المركبة و الأرحب للحياة.. يجب الوعي بأن العلوم الإنسانية هي أداتنا الأولى للدفاع عن الإنسان في وجه كل ما يروم إبعاده عن إنسانيته و ربطه بكل تلك الخواءات الزاحفة علينا من كل حدب و صوب، كانت خواءات لبرالية كانبالية أصولية داعشية تخريبية عاصفة.. لقد ضيع المغرب فرصا نادرة للتقدم عندما أطلق حربه العبثية على الفكر.. كل الدول التي تقدمت تقنيا قامت بذلك بمساعدة الفلسفة والسوسيولوجيا ومباحث العلاقات الدولية.. لاوجود لدولة واحدة متقدمة صناعيا وعلميا ومتخلفة فكريا وفلسفيا وجيواستراتيجيا.. السياسات الكبرى كلها تغذت على/انطلقت من أفكار فلسفية وابستمولوجية وأخلاقية تحولت بعدها الى منارات تاريخية راسخة- على العكس تماما من دول التخلف التي تتغذى سياساتها على مساحات شاسعة من الخواء الفلسفي/الابستمولوجي/الجيواستراتيجي.. ان بلدا كألمانيا مثلا يتوفر على سوسيولوجيين كبار واكبوا ووجهوا مسيرة التحديث الجذري بالبلاد وساهموا في الرفع من موقعها العام في العالم، و فرنسا تتوفر على فلاسفة/سوسيولوجيين لعبوا دورهم كاملا في حراسة الجمهورية من التهديدات التي كانت تأتيها من حين لأخر من بعض السياسيين اللبراليين المتطرفين من أصحاب « لاحل لمشاكل فرنسا الا الحل التقني/التقنوي»، واليابان لديها أنتروبولوجيون قرؤوا جيدا ما يمكن أن تقدمه الهوية للتقدم الصناعي والتقني، والولايات المتحدةالأمريكية لديها معاهد ( من مثل معهد ماساشوسيت للتكنولوجيا) لاحدود فيها بين المخابر العلمية التقنية والتجريبية العالية والمخابر اللسانية والسوسيولوجية والفلسفية والمعرفية.. على صانع القرار المغربي أن يقرأ جيدا هذه التجارب.. و إلا!!!!!!!!!!!!