عاشت فرنسا انتخابات رئاسية لا تشبه سابقاتها، حيث انهار الحزب الاشتراكي بحصول مرشحه على 6 في المئة فقط، وكذلك الحزب الجمهوري اليميني الذي أقصي مرشحه فرنسوا فيون في الدور الأول رغم حصوله على 19،5 في المئة. وهي سابقة تاريخية بفرنسا منذ تأسيس الجمهورية الخامسة من طرف الجنرال دوغول سنة 1958 حيث يغيب ممثل هذه العائلة السياسية المحافظة بفرنسا لأول مرة عن الدور الثاني للانتخابات الرئاسية. اليسار –بدوره- يغيب للمرة الثانية عن هذه الانتخابات بعد أن أقصي ليونيل جوسبان سنة 2002 وتأهل ممثل اليمين المتطرف آنذاك جون ماري لوبين، الذي لم تتمكن ابنته مارين لوبين من تحقيق نفس الإنجاز، وهو المرور إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بفرنسا بفضل تصويت 7 ملايين فرنسي ونصف لصالحها. هذا النجاح، أثار الخوف والفزع خاصة وسط الجاليات المهاجرة بفرنسا، والتي تتشكل -أساسا- من المغاربيين، والتي لا تتردد مارين لوبين وحركتها العنصرية في تحميلهم مسؤولية كل مشاكل الفرنسية، سواء الاقتصادية او الأمنية، كما تعتبرهم تهديدا للهوية الفرنسية المسيحية، وتطلب منهم التخلي عن هذه الهوية، إذا أرادوا تشكيل جزء من فرنسا. وهو ما يذكر بطلب اليزابيث الكاثوليكية باسبانيا من مسلمي شبه الجزيرة الايبيرية الاختيار بين اعتناق المسيحية أو المغادرة نحو المغرب.وهو ما تطلبه مع الفارق اليوم مارين لوبين لمن أرادوا «الاندماج» في فرنسا حسب تصورها لذلك. هذا النجاح، أثار خوف بروكسيل ومؤسسات الاتحاد الأوربي كذلك، التي توعدتهم بتدمير أوربا والعودة إلى أوربا القوميات التي أنجزت حربين عالميتن مدمرتين. مارين لوبين في لاشعورها العميق تريد إعادة الحرب مع المانيا مرة أخرى التي تتهمها بالمسؤولية عن كل مشاكل فرنسا، وتريد إعادة تحقيق أمجاد نابليون بأوربا.هذا الخطاب المتطرف وغير المعقول، أثار ذعر بروكسيل، لأن خروج باريس من الاتحاد، هو نهاية هذا التجمع الذي ينم عن توافق بين فرنسا وألمانيا بعد الحرب، ولا يمكن مقارنته بخروج بريطانيا، التي كانت دائما بأوربا لكن على الهامش.. نجاح إيمانييل ماكرون، أعاد الأمل للأوربيين في نجاح مرشح يدافع عن المستقبل في أوربا وفي تطوير مؤسساتها. وحال إعلان مرورهذا المرشح الشاب، الذي يعتبر أصغر رئيس دولة بفرنسا في حالة نجاحه يوم 6 ماي المقبل في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، تجاوبت البورصة الباريسية بشكل إيجابي مع ذلك، حيث ربحت 4 نقط وكذلك البورصات الاوربية كما أن الأورو شهد أكبر ارتفاع له في الشهور الأخيرة، بعد أن تمالك الخوف الأوربيين من الطابور الطويل للمرشحين الذين شاركوا في الدور الأولى لهذه الانتخابات، وكانوا يهددون أوربا أهمهم مارين لوبين وجون ليك ميلونشون بالإضافة إلى مرشحين صغار كان لهم نفس التوجه، وهو القضاء على أوربا التي يحملونها كل مشاكل فرنسا الاقتصادية والاجتماعية. اليوم كل الأمل يعقد على المرشح الشاب ذي 39 سنة ايمانييل ماكرون، من أجل هزم ممثلة اليمين المتطرف وإعادة الأمل إلى فرنسا وإلى أوربا، لكن في انتظار ذلك، لا بد من ربح الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية بفرنسا، وقد أعلن أغلب قادة اليمين والحزب الاشتراكي دعمهم للمرشح حركة إلى الأمام، بمن فيهم فرنسوا فيون عن الجمهوريين وبنوا هامون عن الحزب الاشتراكي، الذي قال إن ايمانويل ماكرون ليس اشتراكيا ولكنه خصم سياسي، في حين أن مارين لوبين هي عدو للجمهورية الفرنسية، مبررا اختياره هذا أمام مناضلي حزبه ومسانديه في هذه الحملة. وامتنع جون ليك ميلونشون عن مساندة ايمانييل ماكرون، وترك أمر المساندة من عدمها إلى مناضلي حركته فرنسا المتمردة والذي رفع العديد من أنصاره شعار «لا لرأسمال،لا للفاشية» بمعنى ان جزءا من اتباعه يضعون على قدم المساواة ايمانييل ماكرون ومارين لوبين، وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من أتباع حركة «فرنسا المتمردة» لجون ليك ميلونشون سوف يمتنعون عن التصويت في الدور المقبل للانتخابات الرئاسية التي ستشهد الثاني في أقل من أسبوعين. والتساؤل المطروح اليوم، هو هل سيتمكن مرشح حركة إلى الأمام من تحقيق النجاح بسهولة على ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبين، وتحقيق النجاح الذي حققه جاك شيراك سنة 2002 حيث انتصر على جون ماري لوبين برقم تاريخي لا يتحقق إلا في الديكتاتوريات الشمولية وهو رقم 82 في المئة من الأصوات، حيث دفع الخوف الفرنسيين من انتصار ممثل الحزب الفاشي إلى التصويت بكثافة على جاك شيراك، في حين لم يحقق ممثل الحزب المتطرف إلا 18 في المئة من الأصوات، فهل بإمكان ماكرون إعادة نفس السيناريو ونفس الحماس الذي عرفته فرنسا في بداية هذا القرن؟ العديد من المتتبعين لا يرون أن ذلك ممكن.ولايشكل نجاح اليمين المتطرف اليوم نفس الصدمة التي تحققت في 21 أبريل 2002 في الساحة السياسية الفرنسية، والزلزال الذي أحدثه وسط الأحزاب السياسية.اليوم نجاح اليمين المتطرف ووصوله إلى الدور الأول أمام أحزاب كبرى مثل الجمهوريين والحزب الاشتراكي، تم قبوله وكأنه سيناريو مكتوب حتى قبل إجراء هذه الانتخابات. وبإمكان عدد كبير من الفرنسيين مقاطعة هذه الانتخابات، إذاما تبين لهم أن لا احد يمثلهم من بين المرشحين الليبرالي ايمانييل ماكرون واليمينية المتطرفة مارين لوبين، خاصة أن المرشح الذي حصل على المرتبة الأولى، ذهب ليلة الفوز إلى مطعم فاخر» لاروتوند» من أجل الاحتفال بالفوز مع أصدقائه، في حين اختارت لوبين الاحتفال بالفوز رفقة مناضليها بالشمال. و يبدو على مرشح «إلى الأمام» ثقة كبيرة، وكأن النجاح في الدور الثاني، هو جد متاح، وهذا خطأ كبير يمكن أن يقع فيه هذا المرشح الشاب، اليمين المتطرف مازال له احتياطي من الأصوات رغم 7،6 مليون صوت التي حصل عليها، وامتناع انصار اليسار عن التصويت. وعدم تعبئتهم ربما يكون خطيرا على ايمانييل ماكرون الذي تحدث البارحة أمام أنصاره وكأنه فاز بالانتخابات الرئاسية، وهو فقط مؤهل لدور الثاني، كما كرر نفس خطأ ساركزوزي الذي احتفل بأحد المطاعم الشهير الشونزيليزيه بالفوز مع أصدقائه الأغنياء بعيدا عن الشعب الذي صوت عليه،نفس السلوك قام به ايمانييل ماكرون ليلة فوزه بالدور الأول، كأنه لم يفهم رمزية المكان ومع من يلتقي في الوقت التي تتوجه له كل الأضواء. هذه السلوكات غير المدروسة لمرشح «إلى الأمام» تنذر بشيء مهم ألا وهو أن سلسلة المفاجآت التي حبلت بها الانتخابات الرئاسية بفرنسا منذ الانتخابات التمهيدية، والتي اخذت في طريقها كل النخبة السياسية، ونزعت السلطة من الحزبين الأساسيين لسلطة بفرنسا لم تنته بعد. وربما نعيش مفاجآت غير سارة في 6 من ماي المقبل، موعد الدور الثاني للانتخابات الرئاسية.