الزهرة تتدلى حين تُثقلها السماء بالندى. وكذلك القصة لن تتفتح وتتجنح وتبني الأعشاش مثل طائر إلا إذا نُقعت في مزيج من الخطو والالتفات. ولذلك، فإن أحمد بوزفور (القاص والقارئ) دائمُ الوقوف أمام قصصه ليردد ويصلي: «لا تبكي ولا تخافي يا أغلى حبيبة. الليل يأتي وأنت تمررين يدك بخفة فوق جبيني. وأشعر أن شيئا خالدا يحترق وأنت تهتاجين وتنزفين. وأشعر أن شيئا خالدا ينهمر وأنا لا أنحنى إلا لك. أقدم لك الماء والدم وزيت القلب». إنه لمن الصعب حقا التمييز بين بوزفور القاص وبوزفور الناقد (وأنا أفضل هنا أن أنعته بالقارئ)، فهما يتعايشان في جمجمة واحدة، لا يدحر أحدهما الآخر، ولا يستبعده ولا يجبره على نكس الرأس أو إفساح المجال أو الانكماش أو الموت. معا يمارسان عناقات العاشق العظيم. إنهما «دوستي» القصة، لا خطو بدون رؤية. ولا رؤية بدون خطو. إننا لا نجد في قصص بوزفور ذلك الحيوان القزم واليائس الذي يمد يده إلى السماء ليمسك بغيمة أو ملاك ليستحم أو يتخلد. لا نجد الحكاء الذي يعول على أحمر الشفاه وكحلِ العيون ونعومة الصوت ليثير الانتباه إلى مساري «التحسين والانحطاط» (بتعبير كلود بريمون) أو إلى «لحظة الذروة» أو انفلاق الصبح تحت أغصان «زعموا» أو«يحكى أن» أو «حدثنا» أو «رأيت في ما يرى النائم». إن بوزفور (كما أزعم) كالممثل في المسرح الصيني مسلح بالأصوات والأقنعة والموسيقى (القراءة). إنه يقول للقصة (وهي لا تسمع): «اِعطني يدك، آه يا ابنة ألمي، وقوديني أنا الأعمى». وتقول له (وهو لا يسمع): «أجيء من عالم أنقى، وحنيني إليك لا شفاء منه ولا فكاك». إن القصة، كما يقدمها بوزفور في جميع كتاباته (قصةً وتعليقا وقراءة)، لا تخطو في العالم مفتوحة العينين وهي لا ترى شيئا أو.. وهي مسربلة بالحجب والستائر والأكفان. إنها بلاد وعباد وفرح وألم وتأمل وألحان وكفاح وانذهال ونبع مفاجئ في دَغَل كثيف الأغصان وضربة وحش كاسر على قفص طائر مغرد.. إنها شيطانة هائلة تبتسم بلؤم وتضحك وتغني للحب والحياة، وإضافة إلى ذلك كله تقف في كامل تبرجها أمام المرآة. أما إذا ادلهمت السماء، فهي كأي متسكع أبدي، أو كأي كفرس جريحة على أبواب الصحراء.. إنها ذلك الاستغراق الطويل بين «حليب» الغراب و»تجاعيد» الققنس. إنها عمق التفكير الذي تحس به الأرواح التواقة إلى عالم آخر أجمل من التأرجح بين «زهرة» العمر وصرخة «آخر العمر» (أفكر هنا في قصة العازفة الزرقاء). إن زهرة، هي المرأة الخضراء (العزيزة/ الطريدة/ الماء/ رمال مرزوكة..)، فهي «كتاب سحري يتجدد كل صباح» (نافذة على الداخل. ص: 6). وما الكاتب/ السارد إلى طالب صيد راغب في ازدياد/ طالب عشق «لم أكن أحبها، كنت أحب حبها لي» (نافذة على الداخل. ص: 18). إن «زهرة» هي روح القصص، هي «النبع الهرمينوطيقي» الذي يتدفق منه ماء القصص. زهرة «واضحة كالماء وغامضة كالماء وطافية أو راسبة كالماء» (نافذة على الداخل. ص:11)). زهرة هي «ماء نرسيس، وأنا أطل عليه، أنظر إليه، أحدق فيه، فلا أرى في الماء غير الماء (ققنس. ص15). إن السارد في «نافذة على الداخل» يواصل الهروب إلى «زهرة»، تلك المرأة التي ترتدي جميع الأزمنة. اللؤلؤة النادرة. «وجدت لآلئ كثيرة، بألوان مختلفة، فتركتها في محاراتها. لي هدف محدد، هو اللؤلؤة الخضراء، والعاشق مثلي لا تشغله عن البنت المعشوقة بُنيَّات الطريق» (نافذة على الداخل. ص: 22). «اللؤلؤة التي ضيعت حياتي وأنا أغربل الماء لأظفر بها، فلا أحظى من الماء حتى بالماء». (نافذة على الداخل. ص: 34). فزهرة كانت- وستظل- هي الوحش الصغير الذي يمضغ القلب ويدفئ الأحلام والسرير. لنقرأ: «زهرة أكون في الصباح تفوح لك، وشجرة أعود في وسط النهار تظلك، ثم أصير في الليل موسيقى.. تدوزن أنغامك وتعزفك» (نافذة على الداخل. ص: 38). إنها المرأة العاشقة/ المعشوقة التي تغسل يديها بالعطر/ الحليب لتعزف ألحانا لا يتذوقها سواه، ولا تتدحرج في أراجيحها إلا نفسه المثقلة بالتعاويذ المُمتعة. الموسيقى التي يقول عنها السارد: «أحببت أن تبقى مجهولة، وأن تبقى في ذمي وذاكرتي تومض/تنبض حتى دون أن اشعر بها، لأني أعرف أنها هناك.. كالثمالة في قرارة كأس حياتي (…) سأتذكرها بفرح لأنها الشهادة على أنني قد عشت» (نافذة على الداخل. ص: 44). إنها موسيقى السكاكين اللذيذة. «زهرة هي كل طموحاتي، كل أحلامي في السفر والمعرفة وفي الإبداع.. ورغباتي العميقة في أن يقبلني الناس في كل مكان، ويحبوني، ويشركوني في ألوان حياتهم المختلفة» (ديوان السندباد.ص: 266). ثم إن زهرة «هي الماضي الذي يسرق الحاضر (تعبير الرؤيا. ص:14)»، وهي التي «ركبت التران، تران الزمان، اللي ما عندو فران (ديوان السندباد-ص267)»، وهي «شاعرة صديقة قصفها الموت في ريعان الشباب، كانت تحب موزارت، وتسميه ققنس (ققنس-ص20)»، وهي التي كان يحبها، ويحب ما تحبه» بدقة: كنت أحب أن أحب ما تحبه. هل أحب الآن فعلا ما كانت تحبه؟ ولكنها كانت تحب الموت، وكانت تعيرني بأني مصاب بفوبيا الموت. وتقول إن ذلك مؤسف، لأن الإبداع هوالموت، ولأن من يخاف من زوجته لن ينجب منها. ألذلك أنا الآن عجوز عازب وعقيم؟» (ققنس.ص: 21)». إن زهرة تحضر، بعمق، في قصص بوزفور، لأنها أفق كتابي ووجودي كامل. هي الدم الذي يجري في شرايينها (القصة، هي صوت دبيب الدم فيها، هي البداية والمنتهى، وأحيانا هي الحلم الذي يراه السارد/الطائر. « فجأة، وأنا لا أزال أقرأ غلاف الشريط أحسست بأني أطير، أطير فوق الكشك، بين العمارات، أدخل من باب شرفة ضيقة، أطل-وأنا لا أزال محلقا-على شخص يكتب فوق مكتب? أكتشف فرحا أن الشخص هو «زهرة»..» (قنقس-ص18).