افهم الحديث عن الاستئصال، عندما يتعلق الأمر بصراع او مواجهة مفتوحة بين الدولة والنظام السياسي القائم، في مجتمع من المجتمعات، وبين قوى سياسية او توجه فكري يقدم نفسه بديلا عن الدولة القائمة ونظامها السياسي ومصمم على إسقاطهما. غير انه ليس مفهوما اعتماد عبارة الاستئصال، والتفنن في تكرارها، كلما تعلق الأمر بالصراع والتنافس السياسي، بين قوى المجتمع وتياراته المتباينة، سواء كانت القوى التي تشكل قاعدة للنظام السياسي أو تحتل قمة هرم الحكم والسلطة، أطرافا رئيسية او ثانوية في ذلك التنافس. ذلك ان الاستخدام الاول، للمفهوم، قد يستدل به على أساس معطيات الممارسة العملية للسلطة السياسية المعنية، وسلوكها تجاه القوى التي يمكن ان تكون عرضة لمحاولات الاستئصال، بينما لن نجد على ارض الواقع ما يمكن إقامة الدليل بواسطته، على مسألة الاستئصال، بالنسبة للحالة الثانية. الامر الذي يفرض اعتماد مفردات جديدة في مقاربة ملائمة لتلك الحال، تفاديا لتحول الاستخدام الى نوع من التعويذة السحرية التي لا تقدم ولا تؤخر التحليل السياسي. ربما كان السبب في هذا الخلط، عدم التمييز بين فكرة الاقصاء السياسي، رغبة في الهيمنة، التي تعتمدها بعض القوى الاجتماعية داخل حقل سياسي بعينه، وخاصة في مراحل ذروة التنافس الانتخابي او غيره من اشكال التنافس الهادفة الى تعظيم مصالحها، وبين ما تقوم به بعض الانظمة السياسية من عمليات قمع منهجي او موسمي في حق قوى سياسية بعينها، لا تعتبرها غير راضية بنوع من المشاركة السياسية فحسب، وانما ترغب في اقتلاع النظام السياسي من جذوره، وبذلك يمكن اعتبار ما تقوم به من قمع نوعا من العمليات الاستباقية لتقليم أظافرها، وجعل سقف طموحها السياسي يتواضع الى ان يصل الى الدرجة التي يقبل بها النظام السياسي ومختلف قواعد الممارسة التي يحددها مسبقا للجميع. ويصعب الحديث، هنا أيضا، عن الاستئصال لأن مضاعفات هذا المفهوم لا تنطبق على كل حالات المواجهة والقمع، وتضييق الخناق على الخصوم، اذ الهدف يظل دون الغاء الوجود، الذي يوحي اليه الاستئصال الذي يرادف الاقتلاع من الجذور. وهذا مفهوم يختص بحالات التناقضات الوجودية بين قوى يقضي بقاء احداها القضاء على وجود الاخرى. ولعل اقرب مثال الى هذه الحالة الموقف من الارهاب باعتباره موقفا جذريا، بالتعريف، لان التعايش مع الارهاب بشكل طبيعي غير ممكن، وبالتالي فإن فكرة استئصاله من جذوره تظل هي المناسبة، كهدف قريب او بعيد وفق ما يفرضه التهديد الذي يمثله بالنسبة للمجتمع والدولة من استعجال او ضمن ظرف زمني ما. ان اشتغال مختلف القوى الحزبية وفق مقتضيات الدستور والقانون يقتضي الدفاع عن الموقف الرامي الى تطبيع العلاقات السياسية بين مكونات المشهد السياسي، دون ان يعني ذلك تبني ايديولوجية هذا الحزب او ذاك، تعبيرا عن هذا التعايش والتطبيع، بل ان العمل على توضيح المواقف النظرية، ولو كان باعتماد الصراع الايديولوجي المفتوح، يظل أمرا صحيا، متى روعي في خوضه عدد من المباديء والقيم، وفِي مقدمتها: مبدأ الاحترام المتبادل والابتعاد عن كل الأساليب السجالية التي تبعد الحوار والصراع عن قضاياه الفكرية الايديولوجية والسياسية للزج به في متاهات الشخصنة وغيرها مما لا علاقة لها بالصراع الايديولوجي. وفِي هذا السياق، فإن اعتبار البعض العدالة والتنمية راغبا في الهيمنة على الحقل السياسي لا يستدعي القول ان هذا هو عين الاستئصال، لأنه يتنافى مع معطيات التنافس والصراع، وليس منطقيا في شيء ولا واقيا واقعيا أيضا، اعتماد هذه الفكرة درعا في مواجهة التهمة إياها. بل المهم هو اعادة النظر في اُسلوب إدارة الصراع السياسي بما يجعل الاعتراف المتبادل أساسا ومرجعية حتى عندما يكون الاختلاف والصراع هو عنوان العلاقة بين مكونات الحقل السياسي. فكيف يستقيم القول بوجود عقلية استئصال موجهة الى حزب كلّف بتشكيل الحكومة، وفقا لمقتضيات الدستور؟ ولماذا لا تكون الشروط المسبقة التي وضعها الامين العام لحزب العدالة والتنمية هي التعبير عن عقلية «استئصالية» تعتمد سياسة الاسد والثيران الثلاثة، اريد فيها ان يكون الاتحاد الاشتراكي الأول ضمن اللائحة؟ ان الغاية من هذه المقالة هي الدعوة الى اعادة الاعتبار لقاموس العمل السياسي الديمقراطي اتفاقا واختلافا، لان الأسلوب الديمقراطي بالذات، قد وضع قواعد هامة تمنع الشطط في استعمال النفوذ والسلطة المادية والمعنوية، وهو اُسلوب يعادي مبدئيا كل نزعة استئصالية لأسباب هي من دائرة الممارسة السياسية السوية. وبطبيعة الحال، فان للاستئصال حمولته الخاصة، التي تفقده اي بعد إجرائي بمجرد إخراجه من اطار التناقضات الجذرية الوجودية، مثل التناقض مع الاستعمار، او مع الارهاب. وقد جاء نجاح الدكتور سعد الدين العثماني في الوصول الى اتفاق حول تشكيل الحكومة دليلا قاطعا على امرين أساسيين: اولا، تعثر المشاورات السابقة تحت إشراف الاستاذ عبد الاله بن كيران لم يكن تعبيرا عن نوايا ترغب في تهميش، فأحرى استئصال حزب العدالة والتنمية، كما زعم البعض، لأنه هو محور الحكومة التي يرأسها الرجل الثاني في الحزب. اي ان الوقائع كذبت التكهنات والادعاءات التي لم تكن لتخفى على اي متتبع موضوعي للصراعات السياسية حول تشكل الحكومة. ثانيا، ادراك الجميع ان تطبيع العمل السياسي في بلادنا، ينبغي ان يعتمد على مقتضيات الدستور والقانون وأعراف الممارسة السياسية التي تقتضي عدم وضع الفيتو المسبق في التعامل مع مختلف مكونات الحقل السياسي لأن الفيتو يعني ان هناك تراتبية داخل هذا الحقل، ينصب فيها حزب ما نفسه في موقع يشبه موقع العضو دائم العضوية في مجلس الامن الدولي. وهذا ما يتناقض مع طبيعة الممارسة الديمقراطية في اي مجتمع سياسي ديمقراطي او ينحو الى اعتماد الديمقراطية اُسلوبا في التعاطي مع مجمل قضاياه السياسية الخلافية