الملك يأمر بنقل رئيس جماعة أصيلة إلى المستشفى العسكري بعد تدهور حالته الصحية    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    اتحاد طنجة يسقط أمام نهضة الزمامرة بثنائية نظيفة ويواصل تراجعه في الترتيب    طقس بارد نسبيا في توقعات اليوم الإثنين    بنسليمان.. إطلاق الرصاص لتوقيف مسن هاجم الشرطة بسكين لتمكين إبنه المتورط في تجارة المخدرات من الفرار    الداخلة تحتضن مشروعًا صحيًا ضخمًا: انطلاق أشغال بناء المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بسعة 300 سرير    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    آزمور.. مولود نقابي جديد يعزز صفوف المنظمة الديمقراطية للشغل    غياب الإنارة العمومية قرب ابن خلدون بالجديدة يثير استياء وسط السكان    قاضي التحقيق بالجديدة يباشر تحقيقًا مع عدلين في قضية استيلاء على عقار بجماعة مولاي عبد الله    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    وفد برلماني فرنسي يزور العيون    نقابة UMT تختم المؤتمر الوطني    الأمن يوقف عصابة في الدار البيضاء    حكيمي يهدي هدفين إلى الباريسيين    قطار يدهس رجل مجهول الهوية بفاس    نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي يدعو إلى قتل الفلسطينيين البالغين بغزة    انتخاب محمد انهناه كاتبا لحزب التقدم والاشتراكية بالحسيمة    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    بدء أشغال المؤتمر السابع للبرلمان العربي ورؤساء المجالس والبرلمانات العربية بالقاهرة بمشاركة المغرب    اختيار المغرب ضيف شرف المعرض الدولي للفلاحة بباريس يعكس جودة التعاون الثنائي (وزيرة الفلاحة الفرنسية)    حديقة المغرب الملكية في اليابان: رمز للثقافة والروابط العميقة بين البلدين    ألمانيا.. فوز المحافظين بالانتخابات التشريعية واليمين المتطرف يحقق اختراقا "تاريخيا"    الملك محمد السادس يهنئ سلطان بروناي دار السلام بمناسبة العيد الوطني لبلاده    نجوم الفن والإعلام يحتفون بالفيلم المغربي 'البطل' في دبي    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    الإمارات تكرم العمل الجمعوي بالمغرب .. وحاكم دبي يشجع "صناعة الأمل"    إسرائيل تنشر فيديو اغتيال نصر الله    الكاتب بوعلام صنصال يبدأ إضرابًا مفتوحا عن الطعام احتجاجًا على سجنه في الجزائر.. ودعوات للإفراج الفوري عنه    هذه هي تشكيلة الجيش الملكي لمواجهة الرجاء في "الكلاسيكو"    لقاء تواصلي بمدينة تاونات يناقش إكراهات قانون المالية 2025    مودريتش وفينيسيوس يقودان ريال مدريد لإسقاط جيرونا    تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس : الجمعية المغربية للصحافة الرياضية تنظم المؤتمر 87 للإتحاد الدولي للصحافة الرياضية    رسالة مفتوحة إلى عبد السلام أحيزون    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الإثنين    المغرب في الصدارة مغاربيا و ضمن 50 دولة الأكثر تأثيرا في العالم    تقرير.. أزيد من ثلث المغاربة لايستطيعون تناول السمك بشكل يومي    جمال بنصديق يحرز لقب "غلوري 98"    عودة السمك المغربي تُنهي أزمة سبتة وتُنعش الأسواق    حماس تتهم إسرائيل بالتذرع بمراسم تسليم الأسرى "المهينة" لتعطيل الاتفاق    هل الحداثة ملك لأحد؟    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومتميزة في مكافحة الإرهاب    سامية ورضان: حيث يلتقي الجمال بالفكر في عالم الألوان    نزار يعود بأغنية حب جديدة: «نتيا»    نجاح كبير لمهرجان ألوان الشرق في نسخته الاولى بتاوريرت    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الصين تطلق قمرا صناعيا جديدا    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأكيد على موقف سابق: مصر أولا

لماذا لم تعد الديمقراطية إلا بحادثة لعب فيها العسكريون أبرز الأدوار؟
ثم أين موقع العسكريين الآن من عملية الانتقال الديمقراطي؟ هل ابتعدوا عن الساحة، أم أنهم كما تقول شواهد كثيرة موجودون في الأجنحة في الانتظار؟!
انتهى كلام حسنين هيكل. وما شدني فيه، ليس دور العسكريين في تلك الديمقراطيات الوليدة، فهذا ما كنت أعرفه ونعرفه جميعاً. بل قُدر لي أن أعيش أياماً غير قليلة في البرتغال في عز ا0لثورة، وقتها كانت قيادتها العسكرية مازالت بيد الضباط اليساريين. وشاهدت أيامها الفوران الشعبي المساند والمليء بالتفاؤل، وكأن إنساناً مثالياً جديداً سيولد من لشبونة... ما شدني.. تلك الدهشة التي استولت على المنتدين (وهم ساسة كبار) من أسئلة هيكل. وكأنها لم تخطر على بالهم قط. وما ذلك إلا لأنهم كانوا مطمئنين على أن دور الجيش لن يكون إلا في صالح المسار الديمقراطي. أو لأنهم لم يصابوا، كما أُصبنا، بالعقدة الايديولوجية من الجيش وأدواره، كيفما كانت، خارج حسابات الصراع الوطني الملموسة.
بيت القصيد في هذه الإحالة لهيكل ولأمثلته الغربية المعاصرة لنا، أن الديمقراطية قد تأتي أحياناً على يد الجيش. ثم ليس كل انقلاب انقلاباً رجعياً بالضرورة. هذا من حيث المبدأ. ولنا في الواقع العربي مثال »طاله النسيان والتجاهل، انقلاب سوار الذهب في السودان، والذي سلم السلطة إلى حكم مدني أراده ديمقراطياً، لكنه انتهى إلى الفشل بانقلاب مضاد. ولنا مثال من مصر، يبدأ بثورة أحمد عرابي الذي تبنى مطلباً دستورياً مدنياً وديمقراطياً صريحاً، بجانب موقفه الوطني التحرري، وصولا إلى ثورة يوليوز 52 وقائدها جمال عبد الناصر.
في الجدال الدائر اليوم، تستحق هذه الثورة الأخيرة، والتي كانت من حيث الأداة انقلاباً عسكرياً، ولكنها من حيث المضمون تحولت إلى ثورة بكل المعاني بما أحدثته من نهضة جامعة وما نالته من مساندة شعبية تلقائية وداعمة لها.
إذا أردنا تقييماً تاريخياً موضوعياً لمرحلة الناصرية، فما على المرء إلا أن يقارنها مع »ما قبلها« و »ما بعدها«، لتنكشف له الحقائق التالية:
إذا كانت مرحلة »الما قبل« قد شهدت بوادر نهضة فكرية تنويرية ليبرالية في الأعم، وعلى المستويين الوضعي والديني، فلا مراء في أن هذا الفكر، مع كل جوانب قصوره، كان فكراً نخبوياً معزولا عن السواد الأعظم في المجتمع. والأكثر صواباً، أنه لم يجد في كل القوى الاجتماعية التي من المفترض أن تكون حاملة له، إلا في فترات عابرة، سوى قوى إما ضعيفة (العمال والمثقفون)، وإما غير مستقلة ومسحوقة وتقليدية (الفلاحون)، وإما تابعة ومساومة (الملاكون الكبار والبورجوازية)... ولذلك، لم يتمكن أي من القوى من تحقيق المهمات المجتمعية العاجلة وقتها، وفي مقدمتها التحرر من الاستعمار والتبعية له، وإخراج السواد الأعظم وعلى رأسهم جماهير الفلاحين من الإدفاع والذل والعبودية.
كثيرة هي المعطيات الإحصائية وغيرها، التي تؤكد هذه الخلاصة، والتي لا يتسع لها المقام. ومع أن تاريخ مصر الحديث يشهد على كثافة غير معهودة في بلد متخلف، سواء في النضال الدستوري المؤسساتي المتواصل، وسواء في الكفاحات الاجتماعية المختلة التي تصل الى الذروة (ثورة عرابي، ثورة 1919، نضالات تحالف العمال والطلبة...) ثم سرعان ما تعود إلى وضعية الركود والانحسار.. ولعل المشهد الذي يفتتح به »أنور عبد المالك« كتابه »مصر والعسكريون« في يوم حريق القاهرة أو (يوم الجمعة الأسود)، يرسم لنا لوحة بليغة عن ذلك الإنهاك العام الذي كانت تعيشه مصر، قبل ثورة يوليوز 52، والذي جعل منها بالتالي ضرورة تاريخية للإنقاذ والاستمرارية.
من هذه الزاوية إذن، شكلت الثورة الناصرية الحل التاريخي الممكن لما وصله المجتمع المصري من تخثر ومآزق وقصور. فكانت الخطوة الأكثر تقدمية على جميع الجبهات التحررية والوطنية. أما النقد الذي نستطيعه بدون تعسف على مجريات الواقع، فيبدو لنا، في أن النظام الناصري كان بإمكانه لشعبيته الكاسحة أن ينتقل تدريجياً في لحظة من تطوره إلى بناء مؤسسات ديمقراطية تعددية تكفل دولة الحق والقانون، وتواكب ما أقدم عليه من خطوات اجتماعية جذرية، وما انكب عليه في إعادة بناء الجيش المصري وتأهيله لمعركة التحرير القادمة. وما يشجعنا على أن ذلك كان من هواجسه ومطامحه، ما نعرفه عنه، أنه كان من بين الثلاثة (محمد نجيب وخالد محيي الدين) الذين صوتوا لصالح النهج الديمقراطي، عندما طرح سؤال أي من الخيارين للحكم (الديمقراطية أم الديكتاتورية) في مجلس الثورة آنذاك. وأنه قرأ كتاب أنور عبد المالك عن مصر والجيش وبعث له بملاحظاته التي قال عنها الكاتب إنها كانت صائبة في أغلبها. ربما لم يسعفه عمره القصير وضغوط المرحلة في التقدم نحو هذا المبتغى، وإن كان يعيه ويستشعره. ولهذا، يتحمل عبد الناصر نصيبه من المسؤولية في الردة التي وقعت بعده، وخرجت من بين أحشاء نظامه.
. أما من حيث المقارنة مع »ما بعد«، فالقاعدة تقول في »أن لا مقارنة مع وجود الفارق«، وهي في هذه الحالة بالذات، كأنها صائبة بالتمام والكمال. والفارق النوعي هنا: بين صيرورة التقدم وبين صيرورة الردة في كافة المجالات. كل عناوين تلك الردة معروفة لدينا جميعاً. أريد فقط أن أشير إلى ثلاثة منها لارتباطها بالجدل الدائر في الساحة العربية:
أولا: لم يكن الإصلاح الزراعي الذي نفذه عبد الناصر في شوطين، مجرد تحرير اقتصادي لجماهير الفلاحين الفقراء أو المعدمين، وهم آنذاك أغلبية سكان مصر، بل كان في عمق الأشياء، ولو في الحدود التي كان عليها الاصلاح الزراعي، تحريراً للفلاحين من الذل وشبه العبودية الاجتماعية والثقافية التي كانوا عليها. وبهذا المعنى كان ضمن الايديولوجيا الناصرية التي اتسع مجالها، إجراء ثقافيا سياسيا اجتماعيا أدخل أكثر من نصف الأمة إلى حلبة الآدمية والتاريخ. وهكذا، ففي القول، بأن عبد الناصر وحَّدَ بين المدينة والريف، وأنه كان جسر العبور بينهما، الكثير من الصواب والدقة. فأين نحن من حيث القيمة التاريخية الأقرب إلى الديمقراطية بين هذا الدور وبين ما أقدم عليه كل من السادات ومبارك من منابر حزبية وانتخابات مزيفة وتعددية شكلية، كلها غيبت الشعب في نهاية المطاف؟!
ثانيا: من الحق، أن يُعاب على النظام المصري أنه لم يحفر عميقاً في كل ما فتحته البوادر الليبرالية في النهضة الأولى [وخاصة منها حقوق الانسان والديمقراطية السياسية، وعلمنة الدين نفسه]، بالرغم من التقدم الكبير في تعميم التعليم والازدهار الثقافي والفني والإبداعي الذي لم يسبق له مثيل، وعلى الرغم من الإصلاحات التحديثية التي أدخلها على مؤسسة الأزهر، وحفاظه بوجه عام على الروح التنويرية الاسلامية. ومع ذلك، أين نحن بعدما أصبح الإسلام في كليته مجرد وسيلة في الصراع السياسي وحسب، وبعدما اشتدت روابطه مع مصالح وعقليات النظام الريعي والبترودولار!!
ثالثا: في المسألة القومية، لا يقارن عبد الناصر ونظامه، لا مع ما كانت عليه الأنتلجنسيا المصرية قبله من ميولات انعزالية فرعونية أو متغربة أو إسلامية تقليدية، ولا حتى مع الحركات القومية التحررية الرديفة له. لقد رفع عبد الناصر مصر وكافة الشعوب العربية، بتكويناتها الداخلية الخليطة، إلى مستوى المنظور القومي الوحدوي التحرري والمنفتح حضارياً وسياسياً على العالم وعلى العصر. وكان قطبها وقائدها، فأين نحن من ذلك، بعد سيادة الانعزالية والتناحرات الاقليمية، وبعدما صارت الأوطان نفسها قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وإثنيات متنافسة وحتى متقاتلة!!
ثلاث مآثر كبرى تقصدنها ضد كل نظرة ليبرالية اختزالية وعدمية، تصدر أحكاماً إطلاقية تحت مقولة الحكم العسكري أو الاستبدادي أو ما شابه. ودون أن ننسى في ختامها أن القوى البديلة التي عارضت النظام المصري في زمانه، لم تكن ديمقراطياً على أفضل حال، إن لم يكن منها من هو في أسوئه. فلا مجال إذن للمزايدة على مرحلة تاريخية كانت موضوعياً، بإيجابياتها وسلبياتها، على ذلك القدر من التطور.
ثالثا: 30
يونيو، ثورة أم انقلاب؟
كل ما عرضته في السابق يؤسس للمنهجية التي أقرأ بها ما جرى وما يجري في مصر. منهجية تسعى إلى الموضوعية التاريخية ما أمكن، وتعطي الأولوية لتناقضات الواقع، ولديناميتها، لا لأحكام ايديولوجية مسبقة ومغلقة.
وغني عن القول، إن الجيش في كل المجتمعات المتأخرة، يظل عُرضة لتناقضات المجتمع عليه، سواء لخدمة التقدم أو لعرقلته، وعلى خلاف المجتمعات العريقة في الديمقراطية، والتي اكتسب الجيش فيها، وفي مرحلة متأخرة من تطورها ونضجها، استقلالية حيادية تجاه التناقضات الداخلية المرتبطة بالسلطة. وحتى في الديمقراطيات المتقدمة، يظل الجيش يخدم بجانب الدفاع عن السيادة الوطنية، المصالح الاستراتيجية للقوى المهيمنة في ما تراه هي دفاعاً عن مصالح الأمة على المستوى الكوني. فأوضاع الجيش وأدواره في كل من النموذجين، المجتمعات الديمقراطية المتقدمة والمجتمعات الانتقالية إن جاز التعبير، تختلف في ما بينها، لأن البنيات الديمقراطية واستقرارها مازالت في المجتمعات الانتقالية في طي المستقبل.
فهل ما جرى في مصر ثورة أم انقلاب؟ وهل القادم نظام عسكري؟
من بين العديد من الحيثيات، سأركز على بعضها لدلالاتها فيما وقع وما سيأتي:
أولا: لا أرى فرقاً جوهرياً بين ما حصل في ثورة 25 يناير من »تحالف« بين الجيش والثورة الشعبية، وبين نظيرتها في 30 يونيو بنفس »التحالف« مجدداً.
وإذا كان الاعتراض على أن الجيش تدخل في 30 يونيو ضد سلطة شرعية منتخبة، فما الموقف الصائب إذن، إذا كان الشعب بحشوده الملايينية، وباعتباره مصدر الشرعية وكل السلطات، هو الذي »أراد«، ضد سلطة لم تكثرت لمطلبه العاجل بإجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها (؟؟).. ونحن نعلم، أن القيادة العسكرية نبهت الرئاسة مراراً، وحذرتها من مغبة التعنت والاستمرار في التمسك بالسلطة على الأمن الوطني وعلى المزيد من الانهيار الاقتصادي مما ينذر بفتنة وفوضى أهلية قد تهز أركان الدولة. كانت هذه المخاطر الجلية هي التي تشغل قيادة الجيش المؤتمن على سلامة الدولة.
لكن، بدل أن يضع المعارضون لثورة 30 يونيو كل المسؤولية على الموقف المتعنت للسلطة، والذي ينطوي على سلوك وتربية غير ديمقراطيين، رموا بالمسؤولية على قيادة الجيش التي لم تترك لها السلطة خياراً آخر، بعد كل التنبيهات والتحذيرات للوصول لمخارج توافقية، سوى الوقوف بجانب الثورة وحماية الدولة.
في العديد من الأحداث الشبيهة في البلدان الديمقراطية ترضخ السلطة لمطالب »الشارع« بانتخابات تشريعية أو رئاسية سابقة لأوانها. ويحضرني اللحظة، تنحي الجنرال دوغول بعد إجراء استفتاء في أعقاب انتفاضة ماي 67، رضوخ السلطة »للشارع« في هكذا إجراء، تعبير منها عن وعي بأن الديمقراطية ليست لعبة شكلية حتى وإن ذاع هذا التعبير المجازي عنها في وصف التنافس الحزبي السلمي الديمقراطي في دوران السلطة، بل هي في جوهرها وسيلة عقلانية متحضرة في حل الصراعات الاجتماعية السياسية، وإيجاد التسويات بينها على قاعدة »أن الشعب هو مصدر الشرعية لكل السلطات«. أما إذا فقدت الديمقراطية هذا الجوهر العقلاني الحضاري، وفقدت معه رهافة الحس بنبض الشارع وبخطورة الأزمات المجتمعية الكبرى، فلا مناص لها من أن تتحول إلى أداة للقمع والشمولية والاستبداد.
ولأن المعترضين يحسبون الديمقراطية لعبة شكلية ليس مجازاً وحسب، بل وحتى بمعاني التلهي والتسلية، يردون: وما الضرر في أن يمتنع الجيش عن التدخل، ويستمر الشعب في احتجاجاته إلى أن يستكمل الرئيس ولايته القانونية؟!
أليس هذا هو عين غباء الشكلانية القانونية (أو البرلمانية)، كما أسلفت!!: المجتمع يعاني من فوضى شاملة، والاقتصاد على شفا الانهيار الشامل، والإرهاب يطل برأسه ويتوعد، وارتباكات بنيوية في الانتقال الديمقراطي، والسلطة ماضية في تخبطات استراتيجية تمس بالأمن القومي، وبدايات انخفاض قيمة الدولة لدى المجتمع، وجماهير ساحقة ترفض الاستمرار في هذا الوضع... كل ذلك لا قيمة له أمام الشكلانية القانونية، والتي أسقطتها أصلا الشرعية الشعبية. الصنمية الفكرية إذن لها أنواع، وهذا نوع من أنواعها!
ولأن الانتقال الديمقراطي كان يمر من مخاض عسير، يحبل بتطورات غير متوقعة، بسبب أن الثورة افتقدت من منطلقها إلى قيادة شعبية جامعة لكل القوى الثورية، تستطيع استثمار ثقة الجماهير فيها في تليين التناقضات الداخلية وتوجيهها في تدرج مضبوط نحو أهداف جماعية مرجوة... ولأن الثورة أوقعها المجلس العسكري السابق، وبدعم من الإخوان المسلمين، في تخبطات مؤسساتية ودستورية وقانونية، خربطت خارطة الطريق وأحدثت أزمات لا حصر لها، وأنْبتت في النهاية مؤسسات منتخبة كسيحة، سقط منها مجلس النواب بقرار قضائي (كالذي صدر قبلا في عهد مبارك)، ولم يبق سوى مجلس الشورى الذي منح له الرئيس، بقرار منه حصانة قضائية وصلاحيات تشريعية وتأسيسية، ليست له، وهو الذي لم ينتخب أصلا إلا بنسبة ضئيلة جداً من الناخبين (8%)، ولأن كل ذلك مجتمعاً، كان للميدان شرعيته ومشروعيته وكلمته الأخيرة.
ثانيا: ليس جديداً على من كان يتابع التطورات السياسية في مصر، ما ورد في مداخلة للدكتور حسن نافعة في ندوة: »الثورة والانتقال الديمقراطي في الوطن العربي« وما تخصيصي له بالإسم، واتكائي على مداخلته، سوى لأنه رجل مناضل مستقل، يشهد له الإخوان المسلمون أنفسهم بموضوعيته وصداقته لهم وصفاء ضميره.
من خلاصاته، أن الإخوان المسلمين قبل الثورة، نهجوا خطأ جبهويا، بل لم يتوانوا في مد اليد لكل من يريد التعاون معهم، وتقديم التنازلات إن دعت الضرورة لذلك. لكن ما إن التحقوا بالثورة في لحظة متقدمة منها، حتى ظهر منهم نهج آخر نقيض للسابق، بما إنطوى عليه من روح الاستفراد والاستعلاء وتضخم الذات. من بين وقائع هذا السلوك، سأركز من جهتي على قضية أساسية، أعتبرها كانت هي المدخل إلى جهنم التي هم في أتونها.
من المعروف أن الإخوان المسلمين أعلنوا في البدء أنهم لن يرشحوا في كل الدوائر الانتخابية، ولن يرشحوا لرئاسة الجمهورية. ثم غيروا نسبة ما كانوا قد التزموا به في الترشيحات. وفي النهاية، رشحوا في كل الدوائر ولرئاسة الجمهورية... وفازوا كتيار إسلامي (مع حزب النور وغيره) بأغلبية كبيرة وبرئاسة الجمهورية.
هذه الواقعة لوحدها تستحق التأمل والتفكير العميق. المسألة ببساط أنهم اغتروا بأغلبيتهم الانتخابية الراجحة والمؤهلين لها. لكنهم أخطأوا في تقدير موازين القوى العامة، المجتمعية، وليس فقط الانتخابية العددية. للأسف ليس بحوزتي تحليلات سوسيولوجية دقيقة لكل الانتخابات التي أجريت في مصر. لكن تطور الصراعات السياسية يمدنا بفرضيات راجحة تمكننا من استخلاص بعض النتائج من الانتخابات الرئاسية، لأنها انتخابات وطنية، وهي بالتالي الأكثر تمثيلا سياسيا لتوزيع القوى والأقرب إلى الخيارات السياسية من الانتخابات الأخرى في الدوائر المحلية حتي ولو كانت برلمانية.
ربما طوينا الصفحة بسرعة ما أن أعلن عن فوز مرسي في الدورة الثانية لرئاسة الجمهورية. لم نتأمل جيدا في ما انطوت عليه من توزيع للقوى خاصة الاجتماعي/الثقافي منه.. لأن الإخوان يمكنهم أن يكسبوا أغلبية عددية لصالحهم، بتنظيمهم الجيد، وبالوفرة المالية لديهم، وبخدماتهم الاجتماعية، والتحريض الديني، وحتى بالرشوة الانتخابية (زيت وسكر.. إلخ) كل ذلك في صالح الفئات المهمشة الكثيرة العدد، بينما لا يكون لتلك الوسائل نفس المفعول الانتخابي في فئات اجتماعية قد تكون أقلية ولكنها وازنة في المجتمع، ولا يمكن تجاهل اختياراتها ونمط عيشها.
وإذا عدنا، بنظره سريعة، إلى الانتخابات الرئاسية، فإن أول ما يثير الانتباه، أن الفرق الانتخابي بين شفيق ومرسي في الدورة الثانية، كان ضئيلا وبالآلاف (حتى أن البعض شكك في وجود اتفاق قبلي بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين لتحويل النتيجة لصالحهم)، فمن هو شفيق، وماذا يمثل في نظر ناخبيه؟ ثم، ماذا تعني 6 ملايين من الأصوات، وأكثر، التي أضيفت لمرسي عن مجموعه في الدورة الأولى، والتي لعب فيها تعهده مع قسم من القوى المدنية وطيف واسع من شباب الثورة في التزامه العلني بجملة من الخطوات التوافقية التي كان عليه أن يقوم بها، لكنه أخل بها جميعا بعد فوزه.
ما نستخلصه إذن، أن فوز مرسي جاء اعتمادا في نسبة هامة منه على مساندة شرائح اجتماعية تنتمي في خياراتها إلى اليسار والقوى الديمقراطية الأخرى، والتي فضلت تجريبيا، التعايش الثقافي والسياسي مع الإخوان المسلمين، لكن سرعان ما انفرط هذا الرهان في التطورات اللاحقة.
أما كتلة شفيق الانتخابية، والتي قاربت الفوز بقليل، فهي خليط متنافر من المصالح والخيارات. تضم بلاشك ما بقي من نفوذ النظام القديم، وتضم من رأوا في صورته العسكرية رمزا أيضا للدولة (الموروث القديم في ضمائر الشعب المصري)، وأضيف إليها ملايين من شرائح اجتماعية ترفض كلية التعايش الثقافي والسياسي مع الإخوان والتيار الإسلامي عامة، بل تتملكها هواجس الخوف والذعر منه والكراهية.
لقد كثر الحديث في التداول الإعلامي عن الدولة العميقة، ومع غموض هذا المصطلح المستجد، فإنه يرمز - في نظري - إلى كل الشبكات واللوبيات والمؤسسات والفئات الاجتماعية التي تشارك في الهيمنة (بالمفهوم الغرامشي)، ولكنها ليست صاحبة القرار السياسي في السلطة (أي مجال السيطرة). كما يرمز أيضا إلى الموروثات والتقاليد التي يتركها تاريخ تطور الدولة في مؤسساتها جميعا وفي ثقافة المجتمع عامة. بهذا المعنى الذي أراه للدولة العميقة، يصعب حصر تأثيراتها انتخابيا في خانة واحدة، فمنها من يتكيف مع التغيرات الجارية في تجاه التقدم، ومنها من يقاوم أو يختبئ ليتمكن من إعاقة التطور. ومنها ما يستمر في تقاليد المؤسسات وثقافة المجتمع عامة.
ما أوده في هذه اللمحة السريعة، أن الإخوان أخطأوا في قراءة الأوزان الاجتماعية المختلفة التأثير على الدولة والمجتمع، والتي لا يعادلها ولا يعكسها غلبة العدد الانتخابي. وأنه إذا كان المجتمع المصري بوجه عام مجتمعا تسوده ثقافة دينية محافظة، فهذا لا ينفي تناقضاتها المباطنة مع أيديولوجيات التيارات الإسلامية، ومن قبل قوى ومؤسسات وازنة في الدولة والمجتمع.. حتى كاد هذا الانقسام أن يكون انقساما عموديا في المجتمع بالرغم من السمة العامة المحافظة السائدة فيه. ولا أقل من مثال التناقض بين موسسة الأزهر والكنائس من جهة، وأبدويولوجيات التيارات الإسلامية من جهة ثانية.
وانطلاقا من هذا لاخطأ القاتل، توالت كل الأخطاء الأخرى الناجمة عن غرور جامح في الاستفراد بالسلطة. وفي ظني أن هذا التحول الانفرادي لدي الإخوان المسلمين، جاد تلبية للإغراءات استراتيجية إقليمية شاملة، خطط لها التنظيم الدولي الإخواني، بتحفيز وضغط من الراغبين له (قطر وتركيا، وبرضئ أمريكي لابد منه).
إغراءات استراتيجية إقليمية توهمت أن الزمن سانح لإقامة أنظمة حكم إخوانية تغطي معظم البلدان العربية، سيما بعد الإحاطة بالنظام السوري الذي كان في متناول اليد، في نظرهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.