صدرت، عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة، مسرحية جديدة للمؤلف المسرحي الأستاذ محمد بهجاجي بعنوان "كاتارسيس" (نص مسرحي، الطبعة الأولى 2014). قدم هذا النص بكلمة لسيدة الخشبة بامتياز، الفنانة والوزيرة السابقة للثقافة السيدة ثريا جبران التي تحس بالنصوص قبل ولادتها، وتفتح أمامها فسحة للأمل لتصبح يوما كائنات حية بيننا. وبهذا الخصوص تقول "هذا النص الذي بين أيديكم يعنيني، كنت هناك"، ص 7، لأنها رافقت فعلا محمد بهجاجي في تلك الرحلة المجيدة. وتضيف "مع محمد بهجاجي عشت أجمل اللحظات الإنسانية عمقا وكثافة. لقد أنجزنا سفرا عميقا إلى باريس ورينس وفرانكفورت وعمان ودمشق والجزائر العاصمة وعنابة وبيروت، وباقي مدن وبلدات الجنوب اللبناني التي كانت خارجة من العدوان الأليم الذي شنته عليها إسرائيل سنة 2006" ص 5. وواضح أن السفر الأخير هو منبع النص الذي بين أيدينا. من جهة ثانية، هناك حظ استثنائي ل"كاتارسيس" يتمثل في صدوره، في نفس الوقت وفي نفس الكتاب، بترجمة فرنسية للصحفي والشاعر سعيد عاهد، وذلك "ليكون للنص إمكان مخاطبة جمهور بصوت متعدد". ص 10. أول ما يستوقفنا في هذا النص هو بالتحديد عنوانه الذي يفضي بنا إلى أسئلة أخرى: هل صحيح أن العنوان، أي عنوان، يلخص لنا المسرحية ويعطينا الأبواب الأولى لولوجها بدون عناء ؟ إن هذا هو الاعتقاد السائد لدى كثير من عشاق المسرح ودارسيه ومتفرجيه (جمهوره)، وأحيانا مبدعيه. إلا أنني، عكس ذلك، أعتقد أن للعنوان دلالة، ككل الدلالات، قد يظهر شيئا من المسرحية وقد يخفي أهمها. ويحدث أن يضلل العنوان القارئ أو المتفرج المتسرع. يمكننا أن نورد بعض الأمثلة على ذلك. حين قدم جون بول سارتر (1905-1980) مسرحية "الذباب" على الخشبة سنة 1943، في إخراج لشارل ديلان (1885-1949)، وكان ذلك إبان الاحتلال الألماني النازي لفرنسا، لم تمنع السلطات الألمانية المسرحية على اعتبار (وهي القراءة الأولى المتسرعة) أن "الذباب" حشرة توجد في أي مكان متسخ. لن يكتشفوا إلا بعد انهزامهم عبر الشواطئ النورمانديه بأن الذباب هو الاستعمار، أي الاحتلال لوطن الغير بالقوة، ولا يمكن أن يطرد إلا بالقوة، وهو ما تم فعلا من خلال حلفاء فرنسا ومقاوميها بقيادة الجنرال دوغول. حين كتب جون جنيه (1910-1986)، مسرحيته عن حرب التحرير الجزائرية بعنوان "الستائر"، سنة 1961، والتي قدمها بمسرح الأوديون بباريس سنة 1965 المخرج الفرنسي جون لوي بارو (1910-1994)، سنلاحظ أن لا علاقة للعنوان بموضوع المسرحية التي تصور صمود الشعب الجزائري، إلا إذا كان المقصود أن "الستائر" هي نوع من الغشاء أو الغطاء الذي يخفي الحقيقة، حقيقة قتل وتعذيب المجاهدين الجزائريين خلال تلك الحرب اللامتكافئة ؟ إن الأمثلة في هذا المضمار كثيرة ولا تتشابه، ففي مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بكيت (1906-1989)، لا وجود لشخصية على الخشبة باسم "غودو". إلا أن عند محمد بهجاجي فإن للعنوان دلالة شخصية في المقام الأول، وتكاد تكون حياتية، وهي تجربته في السفر والكتابة والإبداع. لنتوقف قليلا حول دلالة كلمة "كاتارسيس". هناك عدة تعاريف لهذه الكلمة، ولكنها تلتقي كلها في التعريف الأول الذي اقترحه أرسطو. فالكلمة في معناها الإغريقي تعني "التطهير"، وهنا أكد أرسطو أن الأمر يتعلق بالتطهير الذي ينتج عن مشاهدة عمل درامي تراجيدي، على الخصوص. ويمكن أن يتسع معنى الكلمة أكثر ليعني كل عملية أو منهج قد ينتج عنه رد فعل ذاتي. هكذا اشتغل المؤلفون التراجيديون الأوائل، كما يقول راسين في مقدمة مسرحية "فيدر"، على أن تكون العبرة من المسرح كما في مدرسة الفلاسفة القدامى. من هنا التساؤل: ماذا يقصد محمد بهجاجي بهذا العنوان في هذا النص -الشهادة ؟ هل المقصود أن رؤية الحرب والدمار والخراب قد تطهر الروح والنفس، وتمنعنا من ارتكاب أو المساعدة على ارتكاب هذه الجرائم الإنسانية التي يعاقب عليها، مبدئيا، القانون الدولي؟ يمكن أن يكتب أي منا حيث ما يشاء وبالشكل الذي يعنيه، ولكن قد يحدث، كما في بعض كتابات محمد بهجاجي أن ننكتب أي أن نكتب حياتنا، بالطبع حياتنا بشكل عام، لا أقصد هنا الشخصي منها، أي أن تصبح الكتابة كما عند بابلو نيرودا أو جون جنيه جزءا من الحياة. حين كتب جون جنيه "أربع ساعات في شاتيلا"، سنة 1982، كان قد سافر إلى المخيمات المقتولة، وشاهد الجريمة والرعب وكتب عنها، ولو لم يكن لنا ذلك النص الشاعري الرائع، أقصد من الناحية الجمالية، لما كانت لنا شهادة من هذا النوع عن تلك الجريمة الإنسانية الشنعاء التي أخفى الإسرائيليون، فيما بعد، كل معالمها بمحو المخيم وآثار الجريمة. من هنا يذكرنا نص "كاتارسيس" ، ويحيلنا على كل هذه النصوص ليؤكد لنا بعض المبادئ العامة للكتابة، دون أن تكون بالضرورة قاعدة للجميع: أن نكتب بصدق، أن نكتب ما شاهدناه، ما عشناه وما لا نستطيع إدانته إلا من خلال الكتابة والشهادة، وبذلك يكون السفر جزءا من السفر في الحياة. في هذا الشأن، يقول محمد بهجاجي على لسان الممثلة، الشخصية الرئيسية في النص: "في الأول كان السفر. "السفر الذي يشبه الموت". الذي يسير بي على الجرحات. فلقد كنا في دمشق، وكان لبنان على مرمى بصر. قلت لماذا لا أبحث عن دور آخر، وأجرب الموت أو صداه على الأقل ؟". ص 15. نحن حين نسافر خارج المغرب وحتى داخله، إذا كنا فعلا مهووسين، كمبدعين، كما هو شأن محمد بهجاجي، لا نعود لبيوتنا كما خرجنا منها، نتحدث لزوجاتنا، لأولادنا، لجيراننا ولقرائنا وللعالم بشكل مخالف لأننا قد تغيرنا بفظاعة ما شهدنا من دمار، وأحيانا من جمال. فهو إذن سفر في الحياة، لأننا أمام كل مآسي الدنيا لا نكون مجرد متفرجين، بل نتدخل، كل حسب استطاعته، وحسب قوة وعيه وقوة التعبير عنها. لذا يضيف محمد بهجاجي "إلى هنا سافرت بين الخرائب، من بيروت إلى مشارف صيدا، إلى متاهات الخط الأزرق كما لو أسير على الجراحات." ثم يضيف : "صرت ساعي بريد مستحيل". ص 17. كلنا، تقريبا، نكتب في المساء، ولكن هذه الكتابة ينبغي أن تصل إلى الناس. وهذا عناء استثنائي. ومحمد بهجاجي يعاني منه بفرح وبهجة. وما جمعنا هذا اليوم احتفاء بهذا الإصدار الجديد إلا جزءا من الاحتفاء بهذه البهجة المتجددة التي تقتسمونها وأقتسمها معكم. من هنا جاءت هذه السلاسة، وهذا الأسلوب المتميز في التعبير، وفي صياغة المشاهد والمقاطع. أن تعبر عن الألم لا يجبرك في شيء أن لا تكون شاعريا في تعبيرك، ولا أن لا تشتغل على دقة لغتك، ولا أن تجعل من قوة الموضوع عذرا لضعف معين للغة. هنا محمد بهجاجي يتوقف عند موضوعة "خراب لبنان"، ويجعل من قوة الموضوع وتيمته أساسا لبناء مسرحيته، ودعامة لتطورها، ولتراتيل حكيها بشكل سلس يجعل القارئ وكأنه أمام عرض حي. إن الحكي عن الدمار يحيل إلى كل أنواع الدمار، كتب محمد بهجاجي : "أمس، أيضا لم تنم بغداد لأن عبوات فجرت سيارة للركاب وسوقا شعبيا، لأن الأمريكيين دمروا حيا في الأعظمية، وآخر في الرمادي"، ص 18. ومع ذلك يتساءل محمد بهجاجي معنا بكل صراحة وتلقائية: "ولكن لماذا لا يوجد في البلدة سوى أطياف الشهداء ؟". ص 19. نجد محمد بهجاجي في مقطع آخر يحدد مهمته على لسان "حارس الضريح" (إحدى شخصيات المسرحية)، ليبوح لنا باعتباره "مثل راو أزلي. ولذلك دونت التفاصيل في هذا الكتاب، وحملت الصور على هذا القرص، ومنحته للعابرين". ص 22. يتحدث محمد بهجاجي بصوت المؤلف، (الذي ليس إلا هو، أي محمد بهجاجي)، "وكنت تقولين إنك بحاجة إلى أمكنة أخرى لتغني منابع الروح. وها أنت داخل هذه المنابع". ص 26. ثم يصيح عاليا منددا : "هذه هي المجزرة الكبرى كما أراها بالعين والقلب. فهل طالت كل مجازر التاريخ أشجار الأرز والتين والزيتون والصبار والخروب، وحقول اليقين والجزر، اللامرئية حيث العشاق يرعون سعادتهم الأولى؟". ص27. إن محمد بهجاجي هنا، كما في نصوصه المسرحية السابقة (التي قدمت على الخشبة أو التي لم تقدم بعد)، قلما يكتب للقراء ولرفوف المكتبات، بل مقاصده الأكيدة وهمه الأول هما أن المآل العادي والطبيعي لأي نص مسرحي، حتى ولو كان نوعا من النص الذاتي، هو الخشبة والجمهور. لهذا نجده في سرده ينبهنا إلى أن الرحلة لم تنته بعد: "أما أنا فسأختار متى أوقف الرحلة ومتى أعود. متى أرفع صوتي بالإدانة ومتى أصمت". ص 38. ولكنه يأمل في صدق نقل ما شاهد من دمار : "آمل أن أوفق في أن أنقل صوتك البليغ إلى العالم الشيزوفريني. إنني، إذا وفقت في أن أكون هذا الصوت، أكتم صوتي إلى الأبد لأن السماء والبحر والجبل لم تعد جديرة بأسمائها. السماء التي بلا طير ولا غمام ولا شمس ولا نجمات ليست سماء. البحر الذي بلا أصداف، ولا شفق ولا مراكب ولا خلجان ولا حلم بالرحيل ليس البحر". ص 43. هكذا توفق محمد بهجاجي، في هذا النص المسرحي "كاتارسيس"، في أن يظل وفيا لنفسه، لأسلوبه في الكتابة المسرحية بحركية لها إيقاع المسرحية السردية الخاص، وأن لا يخرج عن متنه الشعري الأخاذ، دون أن ينسى بأن الكتابة هنا ليست لذاتها ولا لجماليتها، ولكنها هنا لتؤدي وظيفة محددة هي أولا وقبل كل شيء الشهادة، أن تؤديها بصدق وعمق وحرفية. هكذا يطل علينا هذا النص الذي يعد إضافة جديدة لمخزون النص المسرحي المغربي والعربي. الرباط، 26 يونيو 2014