استطاع المبدع المسرحي والباحث المتمكن رضوان احدادو أن يؤسس معالم توجه لافت في مجال الممارسة المسرحية ببلادنا، وذلك على مستويين متكاملين، أولهما مرتبط بجهود التوثيق لذاكرة العطاء المسرحي بمنطقة الشمال منذ أن بزغت أولى التجارب التأسيسية بالمنطقة المذكورة، وثانيهما مرتبط بالانخراط الكلي في الممارسة المسرحية المباشرة، تأليفا وتأطيرا ونقدا. ويحق لجريدة « الشمال « أن تفتخر بما راكمته من أعمال تنقيبية دقيقة في سجل ذاكرة مسرح منطقة الشمال، وهي التنقيبات التي صدرت بتوقيع الباحث رضوان احدادو، وغطت فترات زمنية طويلة تجاوزت العشر سنوات من عمر الجريدة. وأكاد أجزم أنه لا يوجد ? في حدود علمنا ? تجميع توثيقي مماثل لشتات هذه الذاكرة في أي منبر إعلامي أو تواصلي آخر، ولا في أي تجميع أكاديمي متخصص، بشكل نستطيع القول إن رضوان احدادو قد اكتسب كل عناصر السبق على هذا المستوى، تجميعا لوثائق « مسرح الشمال «، واستنطاقا للنصوص، وتقييما للقيم الإبداعية والجمالية، وتحليلا للسياقات وللشروط التاريخية التي أنتجت رصيد المنجز المسرحي بمنطقة الشمال، على امتداد العقود الطويلة للقرن 20، وربما قبل ذلك بقليل. باختصار، يمكن القول إن رضوان احدادو، وبفضل صبره وأناته وتنقيباته وإصراره، قد استطاع إغناء رصيد « التاريخ الثقافي « للمنطقة ، وتمهيد الأرضية الضرورية بالنسبة لكل المهتمين برصد إبدالات المشهد المسرحي بمنطقة الشمال، في محطاته التاريخية المتواترة وفي مضامينه القيمية والإنسانية والجمالية المميزة. إنه جهد اختزالي لتراكم ممتد في الزمن، لا شك وأن تجميع شتاته قد تطلب من صاحبه الكثير من الوقت ومن الصبر ومن التنقيب، وقبل هذا وذاك، الكثير من الاحتراق داخل صحراء قاحلة مرتبطة بإفرازات تبخيس قيم « الإنتاج « الثقافي وتعبيراته المتعددة والممتدة في تمظهرات مختلف أنساقنا الفكرية ونظمنا المعيشية. وعلى مستوى الانخراط في الولع للتأليف المسرحي، استطاع المبدع رضوان احدادو تعزيز هذا المجال بالكثير من الأعمال المتميزة التي كان لها صدى عميقا على المستويين الوطني والعربي، مثلما هو الحال مع نصه الرائع « في انتظار زمن الجنون « ( 1985 )، أو مع نص « أهل المدينة الفاضلة « ( 1998 )، أو مع نص « زمن مضى .. ولم يمض « ( 1999 )، ... ونظرا لقيمة ما أنجزه على هذا المستوى، ولريادته في تصريف اهتماماته داخل الإطار الجمعوي الرائد المعروف ب « مؤسسة المسرح الأدبي « في أيام تألقه، فقد استحق رضوان احدادو تنويه أبرز الفاعلين في المشهد المسرحي الوطني المعاصر، بل وتحولت أعماله إلى أرضية للعديد من الدراسات الأكاديمية في جامعات مغربية مختلفة. فعن هذا الرصيد يقول أحمد الطيب العلج : « مبدعنا رضوان احدادو يكتب المسرح بقوائمه الصلبة المتينة، يمكنه أن يهبك المتعة والمؤانسة وأنت تقرأه على أريكة، ويمكنه أن يهبك متعة مضاعفة وأنت تشاهد أعماله تشخص فوق الخشبة «. ويقول خالد أمين : « فمسرح المبدع رضوان احدادو هو مسرح طلائعي وتجريبي بامتياز، مسرح مهووس بشتى أشكال الرفض والتمرد على التقاليد المسرحية المهيمنة «. ويقول عبد الرحمان بن زيدان : « يعيد رضوان احدادو إلى زمن الكتابة كل الأزمنة التي ولت ويستحضر الحياة التي مضت ليشرع في تفكيك أسرار التاريخ العربي بمعاني جديدة ورموزها التراثية هي مفاتيح هذه الأسرار «. أما رشيد بناني، فقد اختزل تجربة المبدع احدادو في كلمة تقييمية معبرة، جاء فيها : « أغنى رضوان احدادو النظرية الاحتفالية بطريقته وأعطاها امتدادا أدبيا هادئا ومثابرا على مدى عدة عقود «. وبالعودة لنص « طارق الذي لم يعبر «، الصادر في طبعته الجديدة خلال مطلع سنة 2011 بعد أن كان قد نشر قبل ذلك بحوالي عشر سنوات بإحدى المجلات المشرقية، فإنه يعتبر قمة عطاء المبدع احدادو بالنظر لاعتبارات جمالية إنسانية رفيعة جعلته يحظى باهتمام الباحثين والنقاد، بل وينال جائزة النص المسرحي المغاربي سنة 2006. فعنه يقول عبد المجيد فنيش : « أعتبر نص مسرحية ( طارق الذي لم يعبر ) من أروع كتابات رضوان احدادو لأني وجدت فيه الصورة المثلى لمؤلف مسرحي احتفالي بامتياز، تمكن عبر نص قصير في منطوقه أن يختزل أبرز مقومات المسرح الاحتفالي، وأن يجيب على الأسئلة المركزية في هذا المسرح «. وفي نفس السياق، يقول حسن الوراكلي : « في نص ( طارق الذي لم يعبر ) يتدفق بسؤالات اليوم والأمس بحثا عن جوابات ترصد تجاذبات البوح وتقاطعات اللفح في سيرة طارق وسيرة أحفاد طارق «. ويقول عبد الكريم برشيد محددا أبعاد النص الإبداعية العميقة : « هذا المؤلف يجعل مسرحه مسرحا إنسانيا بامتياز، فهو ينطلق من الجزء إلى الكل، ومن البسيط إلى المركب ومن المحلي إلى العالمي، ومن اليومي إلى التاريخي، ومن الواقعي إلى الأسطورة «. إنه نص مفتوح يعيد مقاربة وقائع تاريخية برؤى وبتوظيفات تحيينية، تقرأ الراهن وتتلمس معالم النكوص. وفي ذلك استثمار راق لتطورات الماضي من أجل التأسيس لمقاربات مجددة في أشكال استيعاب أسباب الانتكاسات الحضارية الكبرى التي وقع العالم العربي في دائرتها القاتلة. وإذا أضفنا إلى ذلك، سلاسة اللغة التي وظفها رضوان احدادو وبعدها الجمالي والتخييلي الرائع، أمكننا القول إننا أمام متن يشكل أسمى توظيف لحمولات الماضي من أجل تشريح واقع السقوط ثم استشراف المستقبل وممكنات النهوض، أو لنقل إنه مساءلة للتاريخ « الذي كان « من أجل صنع التاريخ « الذي نريد «. وللاقتراب من عمق المضامين التركيبية لنص « طارق الذي لم يعبر «، نقترح إنهاء هذا التقديم المقتضب باقتباس إحدى الفقرات الدالة حول محددات السقف العام للعمل، حيث يتداخل التاريخ بالواقع، ويتحول فعل « كان « إلى سلطة رمزية لمحاكمة واقع الحال. يقول رضوان احدادو وعلى لسان مجايلي « طارق العصر الحاضر « ، أو « طارق الذي لم يعبر « : « عاد طارق يا سادة .. قطع كل أزمنة الغربة ليصل إلينا .. لم يجد في انتظاره سيفا ولا مركبا .. بطولة أو مجدا .. طارق زمننا ورقة خريفية ملقاة في كل الطرقات تتقاذفها الرياح الأربع .. حائر بين الاستسلام للواقع المهزوم أو الانسياق نحو الحنين الذي يسكنه لمعاودة ركوب الموج ... طارق عصرنا لم يعد ذاك الفاتح القائد الذي يجر مواكب الجند .. إنه بطل آخر من أجل هدف آخر .. مناضل من نوع آخر .. فمن أجل تلك اللقمة يخترق كل أنواع الحصار متحديا واقعه المفروض عليه .. ضريبته تلاحقه أينما حل وارتحل، ذلك أن جده العابر الأول أحرق السفن .. المراكب الوحيدة التي كانت تعرف كيف تحتقر الموج والرياح وتؤمن الوصول .. إذن طارقنا من حقه أن ينهار .. أن يفكر .. أن يجن ... « ( ص. 51 ). ويرد « طارق « رافعا صرخته ضد مسخ المرحلة : « أي زمن هذا الذي أجبرت على العودة إليه ؟ أتداس الشهامة وتمسخ البطولات والفضائل إلى هذا الحد ؟ ... آه إنني أشعر بجوع شديد .. ببرد شديد .. في كل الزوايا ومن كل الزوايا تطاردني صرخات الاحتجاج والاحتياج .. تحاصرني دموع الصغار .. يحاصرني الأنين .. يطاردني الفقر والبؤس والتعاسة وضياع الإنسان .. تطوقني الجراح المطلة من العيون المكسورة .. من الأحداق .. الحزن البارد المعربد على الشفاه .. دم الآهات المقتلعة من الصدور .. وأنا .. أنا هنا أصبحت كلبا أجرب منبوذا على كل أبواب المستشفيات ومكاتب التشغيل .. أنتظر يا طارق .. وأنتظر، ثم أنتظر وأنتظر، تكبر الأزمات وتتلاحق الأزمان وأنا لازلت عند الأبواب أنتظر إلى الذي يأتي ولن يأتي .. ما أتعسك وأتعس حظك .. حياتك وزمنك يا طارق العصر .. أيها المنفي من حساب الزمن، المنبوذ من حق الحياة، المسجون من غير حكم في قفص الانتظار ... « ( ص ص. 59 ? 60 ). هذا هو « طارق العصر «، ينهض من عبق التاريخ .. ليحاكمنا، ولإدانة واقع التردي، وليصارحنا بحقيقة الأعطاب المزمنة لزماننا الراهن.