حتى بروز الاحتجاجات الأخيرة التي هزت الأنظمة السياسية في المغرب والمشرق. كان التصور المشترك لدور الجيوش العربية هو أنها كيانات متجانسة وأجهزة قمعية متشابهة، تندمج مصالحها مع مصالح قادة الدول المنحدرين هم بدورهم من هذه »الشريحة العسكرية«. وهكذا كان المتتبعون يميلون إلى تشبيه الاستبداد السياسي العربي بالعسكرتارية التي كان من المفترض أن تنسحب مبادؤها وقيمها وأهدافها على مجموع المجتمع، وتعزز صورة »الدولة/ الثكنة« تتميز بخضوع كل الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمتطلبات الحرب ... «. صحيح أنه ظاهرياً وفي عدة بلدان مثل سوريا والعراق في عهد صدام حسين والجزائر، وبدرجة أقل في مصر، يبدو أن الجيش يمسك بمقاليد السلطة وأهم ركائز الاقتصاد. إضافة إلى أن عدداً من هذه الأنظمة المستبدة وصل إلى السلطة تزامناً مع وصول العسكريين، مما عزز الفكرة القائلة بأن تواجد ضباط في قمة الدولة يعني بالضرورة إقامة »أنظمة عسكرية« والعسكرة العميقة للمجتمعات العربية. لكن يبدو أن فكرة »الدولة الثكنة« أو أي مفهوم آخر يعزز فرضية هيمنة العسكريين في الأنظمة السياسية في العالم العربي، طبقت بدون تمييز ودون الأخذ في الاعتبار الاختلافات الجوهرية الموجودة بين الدول. وأكثر من ذلك، التفاوتات الزمنية داخل التشكل السياسي للدولة الواحدة، وأغلب الجيوش في العالم العربي عرفت خلال 20 سنة الماضية، مسلسل »تمدين« ساهم في تطبيقها، وبالخصوص في أن تصبح عادية بالمقارنة مع القطاعات الأخرى من المجتمع، وحولها تدريجياً إلى وكالة للسلطة من ضمن وكالات أخرى بدون أي هيمنة. وبالتالي، فإن المفاجأة التي خلقها التموقع »الجمهوري« والديمقراطي« للجيش التونسي والمصري تجاه الحركات الثورية، هي نسبية ويتعين إعادتها إلى حجمها الحقيقي، بمعنى الأخذ في الاعتبار التطورات الكبرى التي مست مجموع القوات العسكرية في العالم العربي منذ بداية سنوات 1980. »الجيش العربي لا وجود له!« مسلسل »تمدين« العسكريين في المغرب وفي المشرق في كتابه »الأنظمة الاستبدادية والشمولية«، يحذرنا الباحث السياسي خوان ج. لينز، من محاولة الاستعمال المبالغ فيه لمفهوم »نظام عسكري« وتطبيقه الممنهج على كل سلطة لها »مظاهر النياشين«، كما لو أن الظهور القوي للضباط في قلب نظام معين يؤكد »الطبيعة العسكرية« التي تميزه عن الأنظمة ذات »الطبيعة المدنية«. ومع مرور الزمن، أدى تعقُّد التجميعات السياسية والمؤسساتية والعلاقات بين مختلف الوكالات الأمنية داخل الأنظمة السياسية العربية (عسكر/ مدني، عمومي/ خاص، وطني دولي إلخ)، إلى أن أصبح استعمال مفهوم »نظام عسكري« الشامل متجاوزاً، بل يؤدي إلى الضبابية أكثر من الوضوح في فهم استغلالها. وعلى هذا المستوى، يجمع أغلب المختصين في المنطقة على اعتبار أن »المجال الأمني« لمختلف الدول العربية عرف مسلسل تمدين »أفرز آثاراً ملموسة من حيث المواقع والأوضاع والنفوذ يسمح لنا بتلمس الوضع البراغماتي للعسكريين في الثورات التونسية والمصرية واليمنية. »اليوم فرضت الدوكسا الديمقراطية نفسها دولياً كأنها الوحيدة الشرعية، وجعلت »الانقلابات« ووصول العسكريين إلى رأس الدولة بالقوة، أساليب غير شرعية. والجيش كمؤسسة انسحبت عموماً من واجهة المسرح السياسي في الوقت الذي يبرز الضباط احترافيتهم وتقنيتهم بدل قدرتهم على ممارسة العنف ، والأنظمة العسكرية أصبحت أقل عدداً وأقصر مدة بما فيها في الدول التي لم تطلها موجات »الانتقال الديمقراطي«. وبتبسيط أكثر، يمكن أن نقول، إن مسلسل التمدين للقوات المسلحة في العالم العربي، يشمل اتجاهات مسنودة إلى »تطبيع يبين بأن العسكريين لم يعودوا فاعلين محوريين لسلطة الدولة، ولكن فاعلين من بين آخرين في مجال القرار. تمدين العسكريين عن طريق الاحترافية والتخصص التقني منذ نهاية سنوات 1950، قدم صامويل هانتنغتون فرضية أن تطور احترافية الجيوش يشكل ضمانة لاحترام السلطات المدنية واستقرار الأنظمة الديمقراطية. وسيأخذ خوان لينز هذه الفكرة جزئياً لتفسير تقارب النخب العسكرية تجاه النخب المدنية: »أدى نوع جديد من التكوين أدخل في المدارس العسكرية إلى تغيير مراكز الاهتمام والقدرة المهنية للعسكريين. هذا التكوين الجديد والاحتكاك مع مجتمعات أخرى والتفاعل مع نخب وطنية أخرى، وخاصة الخبراء والمسيرين، أدى إلى ميلاد نوع جديد من الاحترافية متجهة نحو الأمن الداخلي والتنمية« لا مجال هنا لمناقشة صدقية أطروحة هانتينتون, خاصة وأن احترافية الضباط وضباط الصف تعايشت في بعض الحالات مع الاستبداد السياسي. ومع ذلك يجب الاقرار بأن هذا الإتجاه نحو «الاحترافية» و»التقنية» في أغلب الدول العربية، شكلت على المدى البعيد عنصرا ملائما لإضعاف الحدود الإجتماعية والتنظيمية بين النخب العسكرية والنخب المدنية. وأمكن ترجمة هذا التقارب، تارة في شكل تعزيز تحكمي وتارة في شكل انفتاح سياسي. لكنه شجع دائما التداولات والتحالفات بين مختلف القطاعات النخبوية (مدني، عسكري، دولي) ومن تم لم يعد الجيش يتصرف كعازل اجتماعي. هذا التطبيع للجيوش العربية عن طريق »الاحترافية« يبدو مهما لفهم تجاوب القيادات العسكرية المصرية والتونسية واليمنية ليس مع مطالب الشارع العربي بل أكثر منه مع المزاج المتغير لبعض قطاعات النخبة المدنية التي تخلت في النهاية عن الدكتاتوريين. ومن وجهة النظر هاته يمكن ان نقول ان هرمية الجيوش العربية لم تعد تخضع كثيرا للانا العسكري وتخضع أكثر فأكثر «لأنا» احترافي وتقني تتقاسمه بشكل مشترك مع نخب أخرى (اقتصادية وسياسية وحزبية الخ)، تطور معها صفقات صدامية يمكن ان تذهب في اتجاه استقرار الأنظمة الاستبدادية أو على العكس في اتجاه تغييرها( حالة تونس ومصر). التمدين عن طريق «تشتيت» الأجهزة الأمنية من الظواهر البارزة التي ميزت تطور الانظمة العربية في سياستها «الزجرية» منذ منتصف سنوات 1980 هو أنها شجعت بشكل مقصود تضخيم عدد القوات الامنية، ولعبت ليس فقط على الصراعات والخلافات بين الشرطة والجيش, بل أيضا داخل هذا الأخير بين مختلف الاجنحة, بل مختلف التيارات المرتبطة بهذا الضابط السامي أو ذاك. ظاهرة التشتيت هاته فكرت فيها الانظمة العربية من أجل تحييد وعزل محاولة الاحتجاج او التمرد او الانقلاب. وأدت الى سحب مركزية المجال الأمني من الجيش، وهو المجال الذي من شأنه ان يعطي للجيش الإحساس بأنه المؤسسة الوحيدة التي لها شرعية حماية النظام من الاعداء الداخليين والخارجيين وفي نفس الوقت وبأثر رجعي ساهمت في عدم تحصين الجيوش العربية من خلال فتح إمكانية عدم التضامن مع قرارات بعض القطاعات الأمنية للنظام عندما تعتبرها مخالفة للمصلحة الوطنية او لمصالحها الخاصة. ويمكن ان نتصور بأن هذا السيناريو هو الذي حدث في تونس وبدرجة أقل في مصر, عندما رفضت القيادة العسكرية تزكية القمع الأعمي والعنيف الذي نفذته بعض فعاليات النظام الأمني (الشرطة والمليشيات والمخابرات قوات حفظ النظام التابعة للحزب الوحيد... الخ) وفي الحالة التونسية والمصرية. انتهى مبدأ «القوة المضادة» الماكيافيلي الى الانقلاب على الدكتاتورية، ودفع الجيش الى عدم التضامن مع التيارات الاكبر انتحارية وشراسة داخل النظام والتدخل للفصل بين المخابرات والمتظاهرين كمؤسسة حامية للشعب. التمدين عن طريق الاقتصاد: ضباط مقاولون ورجال أعمال من وجهة النظر الإقتصادية، الجيش التونسي جيش متواضع يتكون أساسا من مجندين وأجراء يعيشون على هامش أوساط وشبكات رجال الاعمال, إضافة الى أن الجيش التونسي يبدو كجيش نظيف لم يتورط بشكل مباشر في الانحرافات المافيوزية للنظام متميزا في ذلك عن الشرطة التي كان بعض كبار اطر وزارة الداخلية زبناء للعائلات الريعية (بن علي، طرابلس شيبوب، مبروك...) هذا التهميش الاقتصادي النسبي للجيش التونسي يفسر بشكل كبير كون هؤلاء الضباط السامين كانوا مبكرا قريبتين من المطالب الشعبية وحساسين بشكل خاص تجاه ملفات الفساد التي تنخر البلاد منذ عدة سنوات. بالمقابل لعب الجيش المصري دائما دورا اقتصاديا مهما طيلة الفترة الناصرية وايضا منذ مرحلة الانفتاح. والقيادة العسكرية المصرية نجحت في القيام بتحولها السريع والذكي للمرور من وضعية المسير لرأسمالية الدولة (الشركات الوطنية الكبرى) الى وضعية الفاعل الليبرالي ونوعت بذلك انماط تدخلها في الحقل الاقتصادي وتحالفات بشكل ارادي مع الفاعلين الخواص، مفرزة بذلك تحالفات عسكرية تجارية حسب تعبير اليزابيت بيكار. وحسب بعض المصادر يمثل وزن الجيش المصري حوالي %25 من حجم التشغيل على المستوى الوطني, حيث يتوفر على مقاولات ونوادي ورصيد عقاري هائل. ويضاف الى هذا الرأسمال الاقتصادي العديد من الامتيازات التي يتمتع بها كبار الضباط. وفي نفس الوقت ، فإن الانخراط القوي لبعض الضباط المصريين في دوائر وأوساط الاعمال في البلد. خلق شروط منافسة خفية مع الاغنياء الجدد من «جيل جمال» (ابن مبارك) والذين شبهت هيمنتهم بهيمنة «الفراعنة الجدد»، والتي لم تكن قيادة الجيش تنظر اليها دائما بعين الرضا. وفي هذا السياق، اذا كانت القيادة العسكرية العليا موالية للرئيس مبارك, فإنها كانت أكثر تشكيكا بل ومعارضة للتوريث وهو ما قد يفسر قرارها النهائي بالتخلي عن مبارك من أجل الحفاظ على أسس النظام, خاصة وأن الضغط الامريكي كان قويا. ويبدو أن أحد العناصر التي لعبت دورا محوريا في الموقف »البراغماتي« للعكسريين خلال الحركات الاحتجاجية، رغم أن المراقبين لم ينتبهوا لذلك كثيرا، هو انخراط وإدماج الجيوش المصرية والتونسية في الشبكات الدولية »للتهدئة« والسلم (الأممالمتحدة، الاتحاد الإفريقي) ذلك أن الجيشين المصري والتونسي يشتركان في كونهما يتوفران على تجربة طويلة في المشاركة في عمليات حفظ السلام: الكمبودج، كوسوفو، الكونغو، أنغولا، البوسنة.. إلخ وهذا الحضور في مناطق الصراع يفسر من جهة كون قيادات هذه الجيوش مدربة على الوساطة مع السكان ، ومن جهة أخرى كون ضباطها تعودوا على التواصل والاحتكاك المباشر مع نظرائهم الأجانب خاصة الأوربيين والأمريكيين. وبدون مبالغة فإن »المعطى الدولي« أنتج نفوذا حاسما في الموقف »»المسؤول»« و»»السلمي» نسبيا لقيادات الجيش المصري والتونسي على الأقل، نظرا للحساسية المفرطة تجاه مناشدات الحلفاء الأوربيين والأمريكيين بعدم تزكية القمع الدموي الذي انخرطت فيه بعض الأجهزة الأمنية الأخرى (المخابرات، الشرطة، الميلشيات). تونس: الجيش و «»الشعب» المفقود إذا كانت »القوة العسكرية« تمثل في الغالب الملجأ الأخير الذي يلجأ إليه نظام استبدادي في مواجهة حركة ديمقراطية، فإن رفض رشيد عمار رئيس أركان القوات البرية مسايرة قواته لأمر بن علي إطلاق النار على المتظاهرين، ساهم بدون شك في اتساع الاحتجاجات لاسيما في العاصمة. وقد شكل يوم 12 يناير 2011 بهذا المعنى تحولا: فبعد ضمان حياده، الجيش راجع. الجنرال عمار: دوغول تونسي؟ في أعقاب هروب بن علي، كانت صور التونسيين العاديين يقدمون الورود للجنود وكذا صور العناق بين المواطنين والجنود، تجسيدا لنوع من »التناغم« بين الشعب وجيشه. هذا الرصيد الرمزي الذي كسبه الجنرال رشيد عمار وصل إلى حد أن العديد من المعجبين والأنصار نشروا على صفحات التواصل الاجتماعي تدوينات من قبيل «نريد رشيد عمار كرئيس»» أو «»الرجل الذي تجرأ على قول لا««، مما جعله يظهر كرجل الانقاذ المحتمل وهذا الرصيد الرمزي للجيش سمح أيضا بالمساهمة في تأمين الجنود لأمن الممتلكات والأشخاص ابتداء من ليلة 14 يناير عندما حاولت ملشيات بن علي، المهددة بالإسقاط، إرعاب المواطنين. وعزز تعاون الجنود وشباب لجان الدفاع عن الأحياء، صورة جيش »قريب« من الشعب بالمعنى الحقيقي، وتعرف الرأي العام كذلك على حجم القمع الذي لم يستثن أوساط العسكريين، وقد انتشرت بشكل واسع صور وشهادات عن »الحادث« الذي وقع في 2002 الذي قتل خلاله 12عسكريا. وإلى صورة الجيش الحامي للشعب، جاءت لتنضاف صورة الجيش »الشهيد« وأخيرا زادت شعبية الجيش بعد تكلفه بأفواج اللاجئين الفارين من ليبيا عند نقطة رأس جدير الحدودية جنوب بالبلاد، ابتداء من منتصف فبراير 2011 بالتعاون مع السكان. هذه الأدوار المتتالية لمؤسسة تبدو ظاهريا »قريبة من الشعب« ،يمكن تفسيرها من خلال تشكيلها السوسيولوجي وشروط توظيفها. فالأمر يتعلق بجيش يتشكل في أغلبيته من المجندين. في سنة 2000، كان 23 ألفا من مجموع 35 ألفا يشكلون مجموع وحدات الجيش (الجو والبر والبحر) كانوا من المجندين أي أن ثلث الأعداد فقط هم محترفون. يضاف إلى ذلك التهميش النسبي للمؤسسة العسكرية من طرف نظام بن علي بالمقارنة مع جهاز أمني يرتكز أساسا على الشرطة والحرس الرئاسي. وإذا كانت أعداد رجال الشرطة قد ارتفعت بشكل واضح منذ نهاية سنوات 1980 وبلغت 133 ألفا لإجمالي سكاني يقل عن 10 ملايين نسبة، فإن أعداد أفراد الجيش ظلت مستقرة. جيش »حام» نعم، ولكن لأية ثورة وأي شعب؟ وفي مواجهة الصورة البطولية للجيش التونسي، لابد من تنسيب درجة استقلالية اتخاذ القرارات لفائدة أركانها، ومن المحتمل جدا إذا كان رشيد عمار قد رفض إعطاء الأمر لقواته بإطلاق النار على المتظاهرين، فذلك بسبب »التعليمات« التي قد تكون صدرت له من الإدارة الأمريكية في هذا الاتجاه. فالإدارة الأمريكية كانت مقتنعة بأن نظام بن علي كان محاصرا على الأقل منذ ثورة سكان قفصه سنة 2008، وفكرت آنذاك في تعويضه في شخص كمال مرجان الذي كان آنذاك وزيرا للشؤون الخارجية، والذي اعتبر أقل فسادا من بن علي ومحيطه. ومن المحتمل كذلك أن الإدارة الأمريكية أعطت الضوء الأخطر للجنرال رشيد عمار بدفع بن علي نحو الخروج، فالأمريكيون هم أهم مزود لتونس بالسلاح منذ منتصف سنوات 1980 ، وبالتالي فهي تتوفر بذلك على وسيلة تأثير على قرارات النخب العسكرية. لكن مع ذلك يبدو أن قيادة الجيش تعارض »انتقالا ديمقراطيا« يؤدي إلى تغيير جذري في التوازنات السياسية والاجتماعية، والدليل على ذلك أنه أسبوعين بعد فرار بن علي، تدخل الجنرال رشيد عمار في اعتصام ساحة القصبة (مقر الحكومة) وتأكيده أن »الجيش يضمن الثورة« لكنه في نفس الوقت دعا المعتصمين الشباب إلى إخلاء الساحة لترك الحكومة تشتغل. وبدعمه لحكومة منبثقة من النظام السابق وتؤيد فقط إجراء إصلاح دستوري بسيط، يكون رشيد عمار قد عارض ضمنيا إمكانية تغيير جذري لتركيبة علاقات السلط السياسية والاجتماعية. وهكذا تعرض الرأسمال الرمزي للجنرال لبعض الخدش لدى أنصار »الانتقال الديمقراطي« الجذري. وخلال الليلة الأولى للاعتصام الثاني في ساحة القصبة يوم 20 فبراير 2011. رفع المتظاهرون الذين اضطروا لتجاوز حواجز الشرطة والجيش للوصول إلى ساحة الاعتصام، رفعوا شعارات »رشيد عمار، أين وعودك بحماية الثورة؟« إلا أن هذه الانتقادات للجيش ظلت محصورة في الشعارات التي تستهدف القيادة العسكرية. ومن جهة أخرى إذا كان سكان المناطق المهمشة اقتصاديا مثل قفصة أو مناطق داخل البلاد والتي بدأت الاعتصامات المتتالية في ساحة القصبة، ترى في القيادة العسكرية عرقلة أمام الانتقال الديمقراطي، فإن البورجوزاية الصغرى الساحلية (منطقة الساحل التي تنتمي إليها غالبية عناصر النخبة التونسية) التي تخشى قلب توازن القوى السياسية والاجتماعية كانت تميل أكثر إلى مساندة قيادة الجيش، ودون أن تنخرط بالضرورة في عسكرة السلطة المدنية، فإنها كانت ترى في الجيش قوة مضادة لصعود سياسي محتمل للاسلاميين. تطبيع ونزع القداسة عن الثورات المسلحة كضمان للديمقراطية، بعد الصور النمطية الاستشراقية حول الجيوش العربية كحامل وراعي »الاستبداد«، حلت محلها مؤخرا صور رومنسية لجيوش »جمهورية« قريبة من الشعب تتميز عن باقي القوات الأمنية (الشرطة، الميلشيات المخابرات..) التي تبقى موشومة بكل عاهات وصفات الاستبداد: العنف التعذيب، الفساد، خرق قواعد القانون.. لكن وكما أوضحنا، فالجيوش العربية ليست »سلمية« بطبيعتها: وتطبيعها وتمدينها جاء نتيجة سلسلة عوامل معقدة تتطلب تحليلها على المدى البعيد وفي علاقة مع تطور علاقات القوة بين مختلف وكالات السلطة ذلك. وبعيدا عن هذه المتغيرات »الموضوعية« من الممكن أيضا إبراز عناصر ثقافية لا علاقة لها ب »الخصوصية العربية« (أطروحة استشراقية)، بل أكثر إلى القواعد والقيم ما بعد الحداثة التي تحملها الأجيال الجديدة في المشرق والمغرب، فمن المحيط إلى الخليج، نلاحظ تراجعا واضحا »للعسكرة« كنموذج مجتمعي: المسار العسكري لم يعد يغري والترقي المهني عن طريق الجيش لم يعد يشكل أفق انتظار لأغلبية الشباب العربي، وربما داخل هذا المسلسل من التطبيع »ونزع القداسة« عن مؤسسة الجيش في العالم العربي، يتعين البحث أكثر في تجاوب العسكريين مع المزاج الشعبي وقدرته على مصاحبة الانتقالات السياسية الجارية. * فانسان عيسير * باحث بالمعهد الفرنسي للشرق الأوسط بدمشق * عبير كريمة * أستاذة علم الاجتماع بجامعة ليون II