لا أحب مهرجان «موازين»، لأنه جعلني أكتشف أنني دخلت زمن الديناصورات (فنيا). فجأة واكتشفت أنني ما عدت شابا يافعا، كما بقيت أتوهم، حتى البارحة قريب («البارحة» نفسيا هنا وليس بمقاييس الزمن الشاب). كما لو أنه (المهرجان) قد عراني أمام حقيقتي، أنني أنتمي لجيل «قديم»، وجعلني أنتبه أنني بلغت الخمسين. كم كنت نسيت ذلك. لأنه ها قد كبر الأبناء، أصدقاؤنا الآخرون، الذين نتعلم منهم أيضا الكثير. لأن الأبناء كما تقول حكمة ذلك الأديب اللبناني المهجري النبيل، جبران خليل جبران: «أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة». نعم منهم نتعلم في رفقة طريق الحياة، نعم هم من أصلابنا، لكننا في نهاية المطاف نصبح رفقاء طريق في درب الكينونة، لكل سلطته. نعم، تتنازع السلط تلك، تتدافع، تتعايش، لكنها مستقلة. لقد جعلني مهرجان «موازين»، أن أعيد اكتشاف أبنائي بشكل مختلف، حين رأيتهم، يلحون على مشاهدة أو حضور هذا الحفل أو ذاك. كان حكمي مسبقا، أن زمن الفن الجميل، كامن في ما مضى، من أغان وأشعار مغناة لقضايا إنسانية خالدة، وأن الزمن الجديد، زمن «الديدجي»، زمن «الميتال» وزمن «الراب» هو زمن فني مصنع، استهلاكي، لا ينتج غير الزعيق والضجيج واللامعنى. وأصبح كل شاب يصعد خشبة حياة ما، مجرد فتى ضائع في زمن ضائع للمعاني. لكن حين تأتيك الحقيقة من الأبناء، رفقاؤك الآخرون الخاصون في درب الحياة، تكتشف أن الذي تغير ليس الدنيا، ولكن أنت. فتصعد إليك فجأة حكمة الجنوب الأمازيغية، تلك التي تظل تذكرني بها دوما أمي : «الزمن دوما شاب». فكان لابد من السؤال للفهم، ما الذي يعجب في «ستروماي» وفي الجيل الجديد من منتجي القيم الفنية عالميا وعربيا؟. لأن أول الطريق للتصالح مع الحقيقة، ليس المنع، بل محاولة الفهم والسؤال. القمع سهل، أما الفهم فصعب. هيأت ترسانة ريبرتوار ذاكرتي الفنية، كي أدافع عن وجود ثقافتي التربوية الفنية، تلك التي صنعتني منذ شبابي الأول، بغاية أن أقنع الصغار، أن الجميل مضى وكان. أنصتا نعم، لكنهما، مارسا مكرا آخر للإقناع، هو أنهما تقبلا ماضي ذائقتي الفنية كله، ناقشاه، استثقلا بعض الطول في زمنه (أغنية تتجاوز 5 دقائق عندهما مملة)، ولم تهتز منهما شعرة واحدة حين قلت لهما، ما كنت لا أتقبله من جيل الآباء حين كنت في سنهما: «نتوما سيحت الزربة» (أنتم جيل مستعجل). فأنا مسلح بأغاني البيتلز والكونتري ميوزيك والريغي وروائع ليو فيري وبريل، فيروز وليلى مراد ونجاة الصغيرة ومحمد الحياني ومحمد عبد الوهاب وعبد الوهاب الدكالي وناس الغيوان بوجميع وجيل جيلالة ولمشاهب ومحمد الدمسيري ورويشة وإزنزارن عبد الهادي والحاج التولالي والحاج العنقا ..... ولائحة دفوعاتي الفنية طويلة طويلة. لكنهما بقيا صوتا نافرا، يدافع بيقين عن أسمائهما الجديدة (مجموعة وان ديريكشن الإنجليزية، ثنائي دافت بانك الفرنسي، غالفن هاريس السكوتلاندي، برونو مارس الأمريكي، مجموعة فايف سيفن أوف سامر الأسترالية، آفيتشي السويدي، دافيد كيثار الفرنسي، مارثن كاريتس الهولندي، ستروماي البلجيكي، جاستن ثومبرليك الأمريكي .... إلخ). حاولت عبثا أن أقنعهما أن المشكل اليوم هو في تراجع الإبداع الموسيقي، بسبب التخلي عن واجب التأليف والإرتكان إلى التقنيات غير الأخلاقية (فنيا) اليوم، التي تعرف ب «السومبلي» أي سرقة مقطع من هنا ومقطع من هناك وإعادة تركيبها بشكل جديد، وأن تقنية «الكوفير» قاتلة. [مصطلحات «الكوفير» و»السامبلي» و «الروبريز» هي لغة عالم الموسيقى العالمية الجديدة، وهي لغة شركات المال والإنتاج والإشهار]. لكن ما همهما (أي إبني وابنتي) هو متعة النتيجة الموسيقية عندهما وعند أقرانهما. أي أن الأساسي عند أجيال اليوم، هو حق الإستهلاك، أما واجب الإنتاج فذلك ترف يؤمن به جيل «الديناصورات» مثلي. في مكان ما، عادت إلي صور ماضي فتوتي وشبابي الأول (كم بعدت الآن)، عادت من خلال ذات النقاش الذي كان يجمعني بوالدي، حين كان يمج أغاني بوب مارلي ولا يستسيغ كثيرا شكل ناس الغيوان، هو الذي سيقوم بمبادرة ما انتظرتها منه قط، حين قرر أن يأخدني وأنا ابن 14 ربيعا لأحضر سهرة لناس الغيوان بالمسرح البلدي القديم للدارالبيضاء سنة 1978. لم يكن مهما عنده أن يتمتع هو، كان مهما عنده أن يحقق لي متعتي أنا. المثير أنه تغير هو أيضا في علاقته مع تلك المجموعة المغربية من حينها. علي الإعتراف أن ذات الأمر تحقق معي اليوم، مع أبنائي، حين جعلاني، بإصرارهما أعيد اكتشاف أصوات فنية ممتعة حقا، مثل المجموعة الإنجليزية «وان ديريكشن» و الأمريكي «برونو مارس» عازف البيانو الشاب، والثنائي الفرنسي «دافت بانك» والمجموعة الأسترالية «فايف سيفن أوف سامر» (خمس ثوان من الصيف).. لقد أعاد كل واحد منهما لي ريبرتوار الموسيقى العالمية التي صنعت جيلي، حيث وجدت في بعضهم صورة لمن كنت أعشقهم ولا أزال، مثل: بوب مارلي، إميليو هاريس، بوب ديلان، بول سايمن أند كارفانكل، جون بيز، كيث سيفنس، كيني روجرس، بينك فلوي، فيل كولينس، إريك كلابتن، بي دجيز، تريسي شابمن... إلخ. ما الفرق بين البارحة واليوم، مغربيا؟. أمس لم أفرح قط بحضور مباشر لتلك الأسماء الخالدة. اليوم، الجيل الجديد من المغاربة، منتمون أكثر لزمنهم، لأن لهم فرصة حضور نجومهم المفضلين فنيا، مباشرة تحت سماء البلاد. هذا درس آخر عن معنى التحول المغربي. شكرا «موازين».