قد يفقد الكاتب أي معنى لوجوده إلا معنى وحيدا هو أنه اختار قدره، وكان حرا يوما ما، عندما ترك كل مغريات العيش السهل، وقرر أن يكون كاتبا، شاعرا أو روائيا أو ناقدا أو حتى كاتب طرائف وملح، للناس المعذبين. بالتأكيد هو مصير حرّ لأنه لا يرتهن لأحد وليست له مطالب تجاه الدولة، لن يكلفها منصبا ماليا، هو مهنة بقدر ماهو صفة رمزية، لكن رمزيته تعلو اليوم على مهنيته، وقد تكون سبيلا إلى مهنية منقوصة. أسوق هذا الكلام بعد تجربة عشتها الأسبوع الماضي حين ساهمت في لقاء ثقافي بأقصى الشمال المغربي، كان المطلوب أن أقدم محاضرة عن ?معنى أن تكون كاتبا?، كان من نصيبي ثانوية في مدينة مرتجلة، يمكن أن تسمى تجمعا سكانيا، أو أي شيء آخر إلا مدينة، هي?بني بوعياش? التي عاشت أعنف المواجهات قبل سنتين،... لحسن حظي أني لم أكن وحيدا وإنما صحبة الشاعر والروائي ووزير الثقافة السابق «محمد الأشعري»، هو في ثانوية وأنا في أخرى، لم أكن أعرف حينها أنه في اليوم نفسه سينتحر شاب مجاز في الأدب، غير بعيد عنا هناك، قرأت ذلك بعد يومين في الصحف. ربما، عندما كان الهالك يحضر عدة الشنق، كنت أجتاز عتبة ثانوية «ابن رشد» للحديث عن شيء مفارق للموت اسمه ?الأدب?. ولما ولجت قاعة المحاضرات كان التلاميذ فرحين، يوشوشون بعضهم بشغب محبب. لم أكن قد بلورت حينها أي شيء عما سأقول، لكن صورة تصدرت القاعة أسعفتني، كانت صورة الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي، مع مقولة له مفادها أن أهم شيء في الوجود هو: ?القراءة والكتابة بجميع اللغات?، حاولت حينها أن أتحدث عن حرية المصير الذي يصنعه الأدب، وقادني الحديث إلى الإغراق في مناقشة المسألة اللغوية، مستحضرا مقولة الزعيم، كانت صورته تظلل المكان. حين انتهيت من الحديث كنت أعتقد أني اجتزت حقل ألغام، فأن تتحدث عن الأدب باعتباره مصيرا فأنت تحكي عن لغة حية لها ذاكرة، لا لغة تواصل، وبالنتيجة لن تكون هي الأمازيغية، التي كنت في أحد أعتى معاقلها، حضرت نفسي جيدا -وأنا العروبي- لتقبل الاستفزاز، لكن المفاجأة أن لا أحد حدثني عنها في النقاش. سألني التلاميذ عن معنى أن تكون كاتبا في ظل هيمنة الفرنسية كلغة سرية للدولة وللمستقبل المهني وللأدب الناجح. فتكلمت بارتياح عن لغة «بالزاك» غير الموجودة إلا في مخيلتنا، حدثتهم عن الفرنسية المتوهمة التي باتت ذريعة للتملص من الخطاب السوي المفهوم، وعن تلك التي يتم تصريفها بضمائر من الدارجة وببنية نحو عربي. كانت صورة الأمير هناك تحثهم على القراءة والكتابة بجميع اللغات، التي لم تكن بالتأكيد من بينها الفرنسية الممغربة.