تبادر إلى ذهني هذا السؤال، يومه الخميس 15 ماي 2014، وأنا أطَّلع، باندهاش كبير، على رسالة «تهنئة إلى فخامة رئيس دولة إسرائيل بمناسبة الذكرى 66 لإعادة تأسيس دولة إسرائيل «، كتبها شخص اسمه «مُحمد أزناكي» ونشرتها الجريدة الإليكترونية «الجزيرة ريف». وأقل ما يمكن أن أصف به هذه الرسالة (التي تعكس مدى الانحطاط الفكري والأخلاقي والسياسي والثقافي لصاحبها ولمن يقاسمه نفس «القناعات»)، هي أنها استفزازية بكل المقاييس. فهي تتطاول على التاريخ (وأترك التدقيق في هذا المجال للمتخصصين) وتتحدث عن «إعادة تأسيس دولة إسرائيل»، وكأن الصهيونية، بعنصريتها المقيتة، قد استعادت أرضا، سلبها منها الشعب الفلسطيني وليس العكس؛ وتتطاول على الشعور الوطني للمغاربة (الذين اعتبروا، دائما، القضية الفلسطينية من بين قضاياهم الأساسية)، حين تتحدث الرسالة عن دولة إسرائيل الصديقة (كذا) وتجعل من «فلسطين» (التي وضعها «أزناكي» بين قوسين) مجرد أسطورة، يسوقها «أعداؤكم وأعداؤنا»(كذا)؛ ويختصر هذا المتمسح بالأهداب الصهيونية القضية كلها في محاولة فاشلة لزرع «هذا الكيان العروبي وسط أرض شعبكم التاريخية» لإلهاء «الشعوب الأصلية لمنطقتي شمال إفريقيا والحوض المتوسطي عن قضاياهم الحقيقية في التنمية الشاملة والديمقراطية الحقيقية». وهكذا، يتجرأ هذا الأخرق، الذي أشك في مغربيته وفي وطنيته (وحتى في توازنه النفسي والعقلي)، على قلب الحقائق التاريخية، فيجعل من مأساة الشعب الفلسطيني مجرد أسطورة، وكأن وعد «بلفور»، الذي أسس للمؤامرة الدولية لاغتصاب أرض هذا الشعب، مجرد كذبة تاريخية. وسواء كان أصل هذا المهنئ لدولة إسرائيل يهوديا (وملامح الصورة قد تفيد المهتمين بالأمر) أو من «جنس» آخر، فإنه قد تجاوز كل الحدود في الافتراء وقلب الحقائق؛ إذ يحاول أن يضفي على الدولة الصهيونية وعلى حكومتها العنصرية (التي قادها ويقودها مجرمو حرب، تفننوا في إبادة شعب أعزل) شرعية تاريخية من خلال علاقات وهمية مع الشعب المغربي. وهكذا، كتب هذا المفتري: « نتطلع إلى اليوم الذي تستأنف فيه العلاقات الإنسانية والحضارية والتاريخية بين الشعبين الصديقين المغربي والإسرائيلي، الذي تربطهما قواسم مشتركة عدة، كما يجمع بينهما تاريخ طويل من التبادل الحضاري والتعايش الثقافي». فهل اختلط الأمر على هذا المتصهين، فلم يعد يميز بين اليهودية والصهيونية؟ ومتى كانت للشعب المغربي علاقة بدولة إسرائيل أو ما يسميه بالشعب الإسرائيلي؟ فاليهود عاشوا في المغرب كمغاربة وليس كإسرائيليين. فهل هو خلط مقصود أم جهل مركب؟ وقد وصلت الوقاحة والتطاول بهذا الشخص درجة، يبدو معها المعني بالأمر فاقدا للتمييز ولحس المسؤولية الأخلاقية والسياسية، إذ أعطى لنفسه الحق، ليس فقط في اعتبار مدينة القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، بل وأيضا في النيابة «عن المواطنات والمواطنين المغاربة الأصليين» في تقديم «أحر التهاني وأصدق المتمنيات» إلى رئيس دولة إسرائيل، ومن خلاله «إلى حكومة وشعب دولة إسرائيل الصديقة»... فمن أعطى له الحق في الحديث باسمنا نحن المغاربة؟ أليس هذا تطولا غير مقبول، أخلاقيا وسياسيا ...؟ ثم ما معنى قوله: «إن الشعب المغربي في حاجة للاطلاع على تجربة الشعب الإسرائيلي، في إعادة بناء الدولة، وتجميع شتات الشعب، بعد قرون من النفي القسري والاستعمارات المتتالية»؟ ما المقصود بهذا الكلام؟ ما هي هذه الحاجة بالذات؟ ماذا يريد أن يفهمنا إياه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي يمكن أن تتوارد على ذهن كل من يقرأ هذا الكلام الخطير والمنافي للواقع وللتاريخ. ومن أكبر كذباته، قوله: « إن الشعب المغربي في حاجة للاطلاع على تجربة الشعب الإسرائيلي» في «احترام التعدد الثقافي واللغوي والديني». فما ذا يمكن أن يستفيد الشعب المغربي المعروف بتعدد روافده الثقافية والحضارية والعرقية واللغوية وبتسامحه الديني...، من دويلة معروف عنها أنها تحارب كل مظاهر التعدد؟ فهمها الأساسي، هو أن تقضي على كل مظاهر الحضارة والثقافة الفلسطينية، سواء في مكوناتها المسيحية أو الإسلامية، وتكريس الدولة اليهودية (الدولة الدينية). فعن أي تعدد، يتحدث هذا الجاهل بأبسط سمات الدولة العبرية التي يخطب ودها؟ وأخطر ما تحمله هذه الرسالة، إلى جانب الخلط والافتراء والتطاول، هو طابعها العنصري. فهو، حين يتحدث عن الشعب المغربي، لا يتحدث إلا عن المغاربة الأصليين. ولا أريد أن أخوض في هذا الموضوع، احتراما، من جهة، لأهل الاختصاص، ومن جهة أخرى، تقديرا للثقافة المغربية التي تتسم بالتعدد في إطار الوحدة. وأتساءل، هنا، عن المفهوم الذي يعطيه هذا العنصري ل»الديمقراطية الحقيقية» التي تلهينا عنها «أسطوة فلسطين». فهل يفهم معنى كلمة الديمقراطية؟ ذلك أن حديثه عن المغاربة الأصليين، يعني أن هناك مغاربة غير أصليين. ولعله، يقصد العرب وغيرهم من الذين استقروا بالمغرب منذ أكثر من 12 قرنا، وأصبحوا، عرقيا وثقافيا وحضاريا ولغويا ودينيا، جزءا لا يتجزأ من الكل الذي هم المغاربة. ثم، هل يعلم أن الديمقراطية الحقيقية هي التي جعلت من مغاربة، حصلوا على الجنسية الفرنسية، وزراء ومنتخبين في هذا البلد الديمقراطي؟ وهل يعلم أن رئيس وزراء هذا البلد ليس أصله فرنسيا، وإنما حصل على الجنسية الفرنسية منذ مدة لا تزيد عن 20 سنة؟ وهل...؟ وهل...؟ وهل...؟ خلاصة القول، ليس هناك، في الإنسان، أثمن من الحِلم والعقل؛ وليس هناك، في العواطف، أغلى من الشعور بالانتساب إلى الوطن؛ وفي القيم ، ليس هناك أعز من الكرامة ومن الشعور بالمسؤولية. ومن حرمه الله من كل هذا، فلا نملك سوى الرثاء لحاله والدعاء له بتحسن أحواله!!!