1 في القاهرة للمرّة الثانية (2011). لكن هذه المرّة ليست للسياحة، وإنْ كانت القاهرة تغري بذلك مثل امرأة مغناج، وإنما لغرض آخر ذي طابع ثقافيّ عربيّ ودولي جد واسع ومتنوّع، يتعلق الأمر هنا بالملتقى الدولي الأول للقصة القصيرة. والفضلُ في هذه الزيارة يرجع إلى السيد فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك، في عهد حسني مبارك، والرسام أيضا. هو الذي دعاني إلى حضور هذه التظاهرة الثقافية الدولية، أما بقيّة الأسماء الأخرى المشاركة، فإنّ بعضها ذهب بدعوة شخصيّة، والبعض الآخر ضمن اتحاد كتاب المغرب: ربيعة ريحان، أنيس الرافعي، شعيب حليفي، عبد اللطيف محقوظ، عز الدين التازي، نجيب محفوظ، عبد الرحيم العلام وعبد العزيز الراشدي الذي لم نكن نراه في الجلسات الصباحية والمسائية إلا نادراً، ذلك لّأنه، حسب ربيعة ريحان، كان «منشغلاً، بكتابة «رواية» عن مدينة نيويورك! ألا يذهب الكتّاب الكبار، مثل السيد الراشدي، إلى العواصم الكبرى لكتابة «رواياتهم»؟ كانت الرحلة من كازا إلى القاهرة جد متعبة، وقد امتدّت خمس ساعات فما فوقها. ففي الساعة السابعة صباحا، كنّا قد وصلنا ، كان نومنا جدّ متقطّع، وإذاً لا بدّ من إغفاءة قصيرة بالفندق ولو طالَ السفر. لكن الجلسة الافتتاحية، بمقر المجلس الأعلى للثقافة، القريب من الفندق المحجوز، ستكون لنا بالمرصاد، ومن الطائرة، كانت القاهرة تبدو فضاءً عمرانيا شاسعا، عشوائيا وصحراويا أشبه بالفضاءات الإفريقية المشتتة هنا وهناكَ. فالرّمل يحيط بها من كل جانب، وأطرافها مجرد بيوت شبه طينية لا غير. وأثناء تقديمنا لجوازات سفرنا، للختم عند شبابيك الشرطة، لعبد الرحيم العلام، رئيسنا في الرحلة، كان لا بد لنا أن نجد أنفسنا خارج الزمن المصريّ المليء بالبيروقراطية والتيلفونات الاستخباراتية، والتثبت بالانتظار إلى حين الإفراج عنا. هكذا يأخذ شرطي الحدود، في هذا المطار الذي أعيد تجديده، جواز سفرك ويسلمه إلى شرطيّ آخر خارج الشباك الذي يذهب مسافة غير بعيدة ويبدأ في تقليب صفحاته، ثم يسرع في الاتصال بالتيلفون بجهة ما وأنتَ تنتظر. هؤلاء هم المصريون في المطار، لا بدّ من الانتظار إلى أن تأتي الأوامر، إذ في هذه اللحظة، سمعتُ صوتا مغربيّا متدمّرا بالفرنسية وهو يحتجّ. وعندما سألتُ عبد الرحيم العلام عن صاحب هذا الصوت المحتجّ، أجابني بأنه صوْت الأستاذ علال سيناصر، وزير الثقافة السابق ومستشار الحسن الثاني. عندها توجّهتُ إلى الشرطي الذي يتحرك خارج الشباك بشكل فوضويّ، ولا يمت إلى المهْنية بصلة: «ألا تخجل؟ ألاتخجل؟ ألا تعرف هذا الرجل؟ أجابني ببوليسية إدارية :» والله يا بيه معذرة»، مع أن سيناصر مدعوّ إلى ملتقى علميّ تابع لمنظمة اليونيسكو كمشارك. كانت برفقته زوجته. 2 بعد «الإفراج» عنا من طرف الشرطة البيروقراطية، أخذونا في سيارة سطافيتْ مهترئة مكدّسين مثل الغنم إلى الفندق. مررنا على محطة «باب الحديد» للقطار الذي وظفه المخرج يوسف شاهين في أحد أفلامه ولعب فيه هو دور البطولة (فيلم قديم بالأبيض والأسود). أجرينا الإجراءات الروتينية، وتناولنا مفاتيح غرفنا وصعدنا إليها بواسطة المصعد كل إلى طابقه. وبعد تناولنا طعام الفطور، انتشرنا في بهو الفندق إلى أن أخذونا في نفس السيارة إلى «المجلس الأعلى»، هنا سيكون افتتاح الملتقى. ونحن نصعدُ درج المجلس إلى القاعة الكبرى، جلست لأستريح، فإذا ب»شخص» شبه سمين، يرتدي سترة صفراء رياضية من النوع الممتاز يقف أمامي ويسألني: «هل عرفتني يا إدريس؟، أنا عبده جبير، ألا ترى بأنني ثخنتُ؟» قمت بسرعة لأعانقه، ودعاني للقائه في مطعم «ليغريونْ» بميدان «طلعت حرب». وهكذا كان بعد عشائنا الجماعيّ بالفندق، ذهبنا في سيارة أجرة إلى هناك.كان يجلس غير بعيد عنا الرسام والناقد التشكيليّ المعروف عادل السيوي. وعندما رآني، اعتذر لعادل وأتى إلى طاولتنا نحن الثلاثة: العلام والعوفي وأنا. رحّب بنا وتحدثنا في قضايا كثيرة، ثم أقسم بأن يؤدّي عنا كل ما شربناه، وقد بدا لي الرجل بعيداً عن أيّة ضائقة مالية، وذلك بسبب اشتغاله بالكويت، أصبح يعيش خارج القاهرة في ضيعة فلاحيّة رفقة خيوله، لكنه لمْ يتخلّ عن أصالته وحقيقته الإنسانية. ذهابا من الفندق، بعد العشاء، وإيابا إليه بعد منتصف الليل، لكن القاهرة لا تنام بالليل، أما بالنهار فثمة صخب وفوضى وازدحام في السير. لم يكن لنا، أنا والعلام ونجيب العوفي، وقت فائض للارتماء في أحضان فضاءات القاهرة الليلية العديدة، ونستمتع بأجوائها الحميميّة. كانت جلسات المجلس الأعلى صباحا ومساء تأخذ منا كل وقتنا المزدحم، لذلك كنا نسرق بعض الوقت لنتخلص من «عناء» الكلام الأدبيّ والنقديّ. ففي فندقنا نادى عليّ القاصّ الكبير زكريا تامر لأجلس إلى جانبه في البهو المستطيل حيث يجلس إلى جانب الكاتب العراقي عائد خصباك (شقيق القاص المعروف شاكر خصباك أيام الستينيات والسبعينيات). هذا هو ملح الملتقى: أنْ نستمع إلى ابنة الروائي والقاص يوسف إدريس وهي تقرأ قصصها باللهجة المصرية. إنّ ميدان «طلعت حرب» هو وجْهتنا الليلية كل مساء، فيه نقتل الوقت ونقتل عناء النهار، منه نعود متخمين بليل المدينة الذي لا ينتهي. وفي غرفنا نمطّط ليلنا إلى ما قبل الفجر. إن الحياة لهي حياة واحدة، أمامنا الليل والنهار، أمامنا الكتب الصادرة حديثا، الموجودة في مكتبات الميدان. أمامنا الوقت الكافي لاسترجاع الأنفاس اللاهثة. كان جابر عصفور لطيفا معنا حين ترؤّسه لجلسة نقدية شارك فيها المغاربة، شكرا له وشكرا لمصر في ربوعها.