لا تعيش الشعوب المتحضرة دون عقل. ويمكن للشعوب غير ذلك أن تعيش دون ذاكرة ما دام الحاكم يملك تاريخها ومستقبلها ويصنع ثوراتها. بهذه الحكمة البليغة أنهى أليكسيس دوطوكوفيل كتابه القيم * الديمقراطية في أمريكا*. ويحدث أن تتفاقم أزمة الإنسان عندما يخطئ المثقفون قراءة التاريخ، إذ المعلوم أن الأوصياء على براءة التاريخ من تفاصيل الشيطان ، كما يقول رايموند أرون ، هم المِؤرخون. ولهذا في مواجهة تاريخ وفقه السلطان يقوم فقه التاريخ العميق في كل تعبيرات الشعوب.يقوم في الأغنية والنكتة و الحكاية وآداب النصائح والآداب السلطانية...، والمؤكد أن كل الشعوب تملك تاريخها وتحتمي به ضد حكامها. ومن المؤكد أن حقل السياسة هو حقل المبارزة الكبرى بين الحكام وشعوبها، إذ بالقدر الذي يسعى الحاكم إلى رسملة التاريخ بالقدر الذي تتمنع ذاكرة الشعوب في تمليك هويتها وتاريخها.المسألة بالنسبة للأول مسألة سياسة وبالنسبة للثانية مسألة وجود.في هذا الصدد لا شيء يفسر * قانون* نصرة الفنانين وختمهم لأغانيهم بالدعاء للحاكم، وقانون إخلاص الأغنية لتمجيد الثوار ضد استبداد وطغيان الحكام. المغني يزور التاريخ والأغنية تحفظ التاريخ. السياسة و حقلها هما أرقى تعبير إنساني عن الهوية والتاريخ بالحوار الذي حل محل العنف وحالة الطبيعة، وفي الوقت الذي صنع الحاكم المستبد جهازه القمعي أنتجت الشعوب جهازها السلوكي والأخلاقي والذهني الإيديولوجي. يريد الحاكم من الأول رسملة التاريخ واستعباد الإنسان، وتريد الشعوب من الثاني التحرر و الأنسنة وحماية تاريخها وهويتها وماهيتها. ولهذا اعتبر شرط التوازن بين سلطة الجهاز القمعي والجهاز الإيديولوجي شرطا حاسما في بناء الدولة وإنسانيتها وعقلانيتها. وقد اتفقت كل الفلسفات الإنسانية وجودية وماركسية وعقلانية ومثالية... وغيرها في تقييم مسار الدولة انطلاقا من هذا الشرط. في حقل السياسة دافعت الشعوب عن تاريخها من الاحتواء والمسخ بخطاب وأداة مميزين، خطاب العقل وتجلياته وأداة الحزب كأرقى المؤسسات التي نافحت عن هوية شعوبها بمنتهى الكفاحية والنضال أمام مسخ وقساوة الحاكم. إن تجربة الأحزاب الوطنية في المجتمعات التي تعرضت لمظلمات الحروب الأهلية والاستعمار ة الاستبداد... تؤكد مسار حفظ الذاكرة هذا.فإطلالة صغيرة في تاريخ بريتوريا أو أوغندا أو رواندا أو المغرب أو الكمبودج أو الشيلي أو دول قوس الماء في أسيا (الكمبودج وسريلانكا...)، أو دول ثورات البرتقال (أوكرانيا ويوغوسلافيا...) تكشف جهود الأحزاب في حماية تاريخ شعوبها من محنة الحاكم المستبد. انبعثت الأحزاب في هذه المجتمعات من رحم الشعب وعبرت عن آماله وآلامه وقدمت شهداء وقرابين لآلاه الموت.وكيفت جلدها ووسائلها مع سلوكات وأسواط الجلاد وقرارات وخطط الحاكم...، فكانت كل ردود فعلها فرصة للحاكم لكتابة تاريخه الخاص الذي يطوي تاريخ الشعب.كان الحاكم يكتب دستوره ويضع قوانينه، ويصنع مؤسساته وأحزابه... ويهندس حقله السياسي و يصنع الفاعلين فيه و يرسم حدود وإحداثيات لعبهم. وفي كل مجتمعات المظلمات الكبرى كان الحاكم لا يتورع عن قلب منطق التاريخ ومنطق السياسة ومنطق الأخلاق، إذ ليس مستغربا أن كل أحزاب الحاكم تأسست بعد أن تشكلت كفرق برلمانية.كان الحاكم يصنع أغلبية لمدافعة الأحزاب الوطنية في أفق رسملة التاريخ والسياسة والإنسان.كان هدفه واضحا كتابة تاريخ جديد فارغ من المبدأ والالتزام... وإشاعة الريع واللامبدأ و اللاتاريخ. من هنا جاءت بالضبط حكاية الفرق البرلمانية التي تصنع أحزابها و تصنع تاريخ الحكام أو التاريخ كما يبغيه الحاكم. والمغرب الذي عاش نفس الظروف ونفس المآسي و المظلمات لا يمكن أن يحيد عن القاعدة دفعة واحدة رغم حجم الجهود التي يمكن أن تبذل داخله وحجم التدافعات والتطورات التي قد تخترقه. ففي كل المنعطفات الكبرى يتحرك عقل السلطنة ليطوق عقل الدولة.يلجأ لآلياته الكلاسيكية... التفجير من الداخل، الاحتواء،إعادة إحياء الانقسامية، إعادة تحريك زبناء الدولة الفاعلة في الداخل و الخارج، الاعتقال، تشويه الأفراد والتنظيم، الاعتقال، المساومة، الإغراء... تطول الوضعية، ترتب الدولة الفاعلة خططها وسيناريوهاتها، تعيد ترتيب الحقل السياسي كما يجب، تخلق التوازن السياسي... تضمن حيازة وامتلاك التاريخ...تعيد عقارب التاريخ إلى الوراء...وتعفو عن المتمردين كأي أم حنون أو أب مهتم أدبا ابنهما المتنطع...لا شيء يعلو فوق سلطة الأب والأم... ألسنا نحكي يوميا التاريخ الذي كتبه آباؤنا وأجدادنا.....