عند بارث، كما عند سارتر، الرغبة ذاتها في التوفيق بين التاريخ والحرّيّة، والنفور نفسه من الإيمان الفاسد وسوء الطوية الذي ينطوي عليه الأدب البرجوازي الذي يستكين إلى »الخمول الثقافي«. لا عجب- إذاً- أن يعترف الأول بدَيْنه للثاني فيكتب: »لقد كان لقائي مع سارتر ذا أهمّيّة كبرى بالنسبة إليّ. كنت، لا أقول أعجب، إذ ليس لهذه الكلمة معنى، بل كنت أرتجّ، وأتحوّل، وأوخذ، بل إنني كنت أحترق بكتاباته ومحاولاته النقدية.«. وعلى رغم ذلك، فلا ينبغي أن ننسى أن الكاتبين ينتميان ثقافياً إلى جيلين متعارضين: الأول إلى الجيل الوجودي الذي تغذى على الفينومينولوجيا والذي كان يعتقد أن الذات هي التي تعطي للأشياء معانيها، بينما ينتمي الثاني إلى الجيل البنيوي الذي يرى أن المعنى يحصل ويجيء إلى الذات، ويقتحمها. لذا، فرغم أن بارث كان يؤمن أن بإمكان السيميولوجيا أن تعمل على إنعاش النقد الاجتماعي »فتلتقي مع المشروع السارتري«، ورغم أنه كان يبدي إعجابه بمفهوم الالتزام، إلا أنه لم يكن قَط ليطيق لغة النضال التي لم يستطع سارتر أن يحيد عنها. ألم يذهب صاحب »ماهو الأدب؟« إلى حدّ اعتبار فلوبير، على سبيل المثال، »مسؤولاً عن القمع الذي أعقب الكمونة لأنه لم يكتب ولو سطراً واحداً للحيلولة دونه.«؟ وكلنا يعلم إلى أيّ مدى يذهب صاحب »الأيدي القذرة« بهذه المسؤولية، حيث لا يعتبر الإنسان مسؤولاً فقط عن التاريخ والسياسة والآخرين، وإنما مسؤولاً عن الوضع البشري برمّته. لم يكن بارث يقبل هذه المباشرة التي يضعها سارتر بين الأدب والواقع الاجتماعي، فكان يرى أن العلاقة بينهما لابُدَّ وأن تتوسَّطها اللغة. لذا فهو كان يميّز بين: -اللغة التي هي منظومة من القواعد والعادات التي يشترك فيها جميع كُتّاب عصر بعينه. - الأسلوب الذي هو الشكل، وما يشكِّل كلام الكاتب في بعده الشخصي والجسدي. -الكتابة التي تتموضع بين اللغة والأسلوب، وعن طريقها يختار الكاتب ويلتزم. الكتابة هي مجال الحرية والالتزام. اللغة والأسلوب قوى عمياء، أما الكتابة فهي فعل متفرِّد تاريخي. »اللغة والأسلوب موضوعان، أما الكتابة فهي وظيفة. إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، وهي اللغة الأدبية وقد حوّلها التوجيه الاجتماعي، هي الشكل وقد أُدرِك في بعده الإنساني، وفي ارتباطه بالأزمات الكبرى للتاريخ«. في بعض الأحيان يستعمل رولان بارث لفظ (الأدب) دلالة على الكتابة، إلا أنه ينبّه أنّه لا يعني به »جملة أعمال، ولا قطاعاً من قطاعات التبادل والتعليم، وإنما الخدش الذي تخلِّفه آثار ممارسة هي ممارسة الكتابة«، وهو يقصد أساساً النص، ويعني »نسيج الدلائل والعلامات التي تشكِّل العمل الأدبي«. ما يقوله سارتر- إذاً- عن الأدب يقوله بارث عن الكتابة والنصّ، أو عمّا يعنيه هو بالأدب. لكن بينما يربط الأول الأدب بالالتزام السياسي للكاتب والمحتوى المذهبي لعمله، فإن الثاني ينفصل عن معلِّمه معلناً »أن قدرات التحرير التي تنطوي عليها الكتابة لا تتوقَّف على الالتزام السياسي للكاتب الذي لا يعدو أن يكون إنساناً بين البشر، كما أنها لا تتوقَّف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة.«. خلخلة اللغة هي إقامتها على أرضية يطبعها الانفصال: وهذا الانفصال يكون، زمانياً، ضدّ الماضي الجاثم، وسيكولوجياً ضد التقليد والاجترار، واجتماعياً ضدّ الرتابة والروتين، وانطلوجياً ضدّ التطابق والوحدة، وأيديولوجياً ضد الدوكسا وبادئ الرأي. نضال الشخص-الكاتب وعقيدته لا يسريان تلقائياً على كتابته، ولا علاقة آليّة تربطهما بالأدب وبالكتابة. ذلك أن الأدب لا يمكنه أن يعالج إلا اللغة، و»اللغة ينبغي أن تُحارب داخل اللغة«، وعبرها، يُعالج الأدب ما عداها، ما دامت اللغة جهازاً »يخترق المجتمع بكامله، ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده«.