في واحد من آخر حواراته التلفزيونية، وبعد أن تجاوز الثمانين، صدم الصحافي الشهير وليام باكلي محاوره بالقول إنه يشعر بالملل من الحياة ومستعد تماما للرحيل. تجمد وجهه المكتئب للحظات ولمعت عيناه الدامعتان، ثم أكمل مبررا هذه الرغبة: «فعلا أنا مستعد للتوقف عن الاستمرار. أشعر أني فقط عالق وأنتظر، لو أن هناك حبة دواء لو تناولتها ستعيدني إلى عمر الخامسة والعشرين، فلن أبتلعها». هذه الكلمات الحزينة لا تعكس بالتأكيد حياة هذا الصحافي الكبير الذي امتص عصير السعادة قطرة قطرة. فهو ليس فقط صحافيا نشر الكثير من المقالات التي لا تنسى، بل أيضا مؤسس ورئيس تحرير للمجلة الشهيرة «ناشيونال ريفو»، كما أنه من أشهر الشخصيات التلفزيونية ومقدم أحد أشهر البرامج الحوارية التي تجادل فيها مع أهم الشخصيات السياسية والفكرية. كما أنه، بغير رغبة منه، أصبح عراب الكثير من الصحافيين المحافظين الذين ما زالوا، رغم رحيله منذ سنوات، يرون فيه الرمز الذي استطاع أن يعرض الأفكار المحافظة بأكثر الأساليب جاذبية وإقناعا. لم يحدث ذلك بسبب أسلوبه الفريد في الكتابة والنقاش فقط ولكن بسبب شخصيته الساحرة التي تجعل حتى خصومه يقعون في حبه. ولكنه أيضا تميز على مستوى الأدب فله الكثير من الروايات الناجحة وكذلك مجموعة من الكتب الفكرية والسياسية. على مستوى الحياة الشخصية كان مثالا على الرجل السعيد الذي عاش حياته طولا وعرضا، فهو مشهور برحلاته البحرية التي يخترق فيها المحيطات ويحط بأجمل المدن الشاطئية لديه الكثير من الصور الذي تظهر فيها ملامحه المبتهجة ورياح المحيطات المنعشة تدغدغ وجهه. كان سعيدا في زواجه ومحاطا بالمعجبين والمعجبات، ولديه ابن ناجح في مهنته ككاتب وروائي. كما أنه أيضا عاشق للموسيقى الكلاسيكية خصوصا باخ وعازف مجيد. ربما حزنه هذا نتج لعجزه عن الاستمتاع في الحياة بسبب تقدمه في السن وما يأتي معه من أعطال جسدية لا مهرب منها. ولهذا يتمنى السعداء من كبار السن من لم يعرفوا الأمراض طيلة حياتهم أن يرحلوا بسلام وهم غاطسون في النوم. ستكون نهاية مناسبة لحياة سعيدة، من دون أن يدخلوا في المساومات الخاسرة مع الأمراض التي لا تتوقف حتى تكمل مهمتها. الشعور بأنه بات مسجونا بجسد متعطل هذا سبب والسبب الآخر هو أنه فقد أصدقاءه، وهو ككل الصحافيين الذين لا يمكن أن يحققوا شروط عملهم إلا من خلال الالتحام بالواقع لأن الصحافة هي متابعة متواصلة، وانغماس غير منقطع بالتفاصيل المثيرة للحياة اليومية. الأصدقاء مصدر كبير للاتصال بالتدفق المنعش للحياة. يقول أحد المقربين له «لا يحب لحظات الوداع. يكره عندما يقرر الأصدقاء الرحيل من السهرة واحدا تلو الآخر. يريد أن يكون محاطا دائما بأصدقائه. قام مرة بكتابة أحد مقالاته وهممت بالانصراف، ولكنه قال اقترب، اجلس بجانبي،لا تذهب». صنع باكلي مجده من خلال الكثير من المعارك الفكرية والسياسية التي خاضها، والتي لم هُزم في بعضها. ولكن من خلال السخرية استطاع أن يحول الهزائم إلى نصف انتصارات. ومن أبرز المعارك التي خاضها دفاعه عن السيناتور جو مكارثي في حربه على من اتهمهم باعتناق الأفكار الشيوعية، باكلي كان من أكثر الشخصيات التي شنت حربا لا هوادة فيها على الأفكار الشيوعية، وعلى رموزها واعتبرها التهديد الأساسي للولايات المتحدة الأميركية، ولكنه أيضا اعترف بعد ذلك أن مكارثي ذهب أبعد مما يجب. مجلته تعرضت أيضا للنقد الشديد بحجة أنها عارضت حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ في الستينات من القرن الماضي، ولكنه اعترض على تدخل الحكومة في فرض هذه الحقوق. الحكومة، بحسب العقيدة السياسية المحافظة التي روج لها، يجب أن تظل محدودة الوظائف وقصيرة الأذرع. وما يجعل شخصية الصحافي باكلي أكثر جاذبية وتعقيدا، هو تعدد مواهبه وقدرته على فعل أشياء متنوعة لا يستطيع أن يجيدها غيره، فهو يكتب ويناظر عن أكثر القضايا السياسية والفكرية تعقيدا، مع أنه قال مرة إنه يكتب عن السياسة فقط إذا دفع له المال، ولكنه لا يتردد بطعن خصومه بأكثر السكاكين سمية. كتب مرة عن الليبراليين اليساريين خصومه الآيديولوجيين بأنهم كرماء فقط بأموال غيرهم، وبأنهم «يزعمون أنهم يريدون الاستماع لوجهات النظر الأخرى، ولكنهم يصابون بالصدمة والإهانة إذا عرفوا أن هناك وجهات نظر أخرى!»، لباكلي أيضا الكثير من العبارات التي تجمع بين اللؤم والطرافة، فقد انتقده مرة أحد الشخصيات لأنه لا يجلس مستقيما على الكرسي وأنه دائم الميلان والانحناء، فرد عليه: «لو كان لديك المعرفة التي لدي، لانحنيت مثلي». وفي مقولة أخرى طريفة رغم رائحة الغرور التي تفوح منها، يكتب: «لن أقوم بإهانة ذكائك بالقول هل تؤمن بالفعل بما قلت للتو». وفي موقع آخر يعبر بكلمات لا تبدو مقبولة إلا منه. يكتب: «أود أن آخذك على محمل الجد، ولكني سأهين ذكاءك إن فعلت». في أحد كتبه يجمع باكلي مئات الرسائل التي وصلته من القراء، وردوده عليها طيلة السنوات الخمسة والثلاثين التي قضاها رئيسا للتحرير. في الكثير من هذه الرسائل، يدخل باكلي في نقاشات فكرية وسياسية، ولكن هذا ليس الممتع في الكتاب. الجزء الأكثر حيوية وإمتاعا هو الردود الذكية والطريفة على رسائل القراء المعجبة والساخرة والمهينة أحيانا. في إحدى الرسائل قالت له إحدى القارئات المعجبات بأن عقله الجميل لم ينعكس على شكله غير الوسيم، وأرفقت مشطا مع الرسالة، فرد عليها: «لقد قمت بتمشيط شعري، فماذا علي أن أفعل بعد ذلك؟!»، في رسالة أخرى بعثها له مجموعة من القراء يسخرون منه بالقول إنهم يضعون صورة كبيرة له في الصالون وفي كل مرة ينهض أحدهم يقوم بقرصه على أحد خديه، فيرد: «لا أمانع لو قبلتم يدي!»، أحد القراء الحانقين وصفه بالناطق باسم الشيطان المعتمد على الغش والخداع والألاعيب القذرة لتحقيق غاياته. ويضيف القارئ: «سأثق بالثعبان قبل أن أثق بك أو أثق بأي أحد تدعمه». ليرد عليه رئيس التحرير الشهير بلغة ماكرة غير مبالية: «ماذا ستفعل إذن لو دعمت الثعبان؟!»، تتواصل الرسائل المتهكمة اللاذعة التي تجد ردودا أكثر لوذعية. في واحدة من الرسائل يقول أحد القراء: «تركيبك للجمل في غاية السوء»، ليرد عليه: «لو كنت تملك قدرتي في تركيب الجمل لأصبحت ثريا!». أحد القراء المحافظين المحبين له ينتقده بسبب قصة شعره التي تظهره بمظهر المنتمين لليسار ويطالبه بتغيرها، فيأتي رد الكاتب «لو أن مظهري بدا جميلا أيضا،ألا أتظن سيكون ذلك كثيرا جدا؟!». أما أحد القراء المعتوهين فيخبره برغبته في الدخول للانتخابات الرئاسية ويطلب دعمه. لا يضيع باكلي الجمهوري هذه الفرصة ليسخر من خصومه. يكتب له: «أنصحك بالدخول في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي. ستكون أكثر تأهيلا من جميع المتنافسين الحاليين». كل هذه الردود تعبر عن الروح الساخرة التي رافقت هذا الصحافي الكبير طوال تاريخه المليء بالصراعات الفكرية والسياسية. هل أمنياته الحزينة بالرحيل في بداية هذا التقرير تؤكد على أنه خسر هذه الروح في آخر أيامه؟ الحقيقة لا. بعد ثوان من تصريحه بتلك الكلمات الحزينة، بدا كما لو أنه أراد أن يسخر مما قاله. كانت الفكرة المثيرة حاضرة في ذهنه المتوقد على الدوام. اشتعلت عيناه وعدل جلسته وقال لمضيفه مستذكرا مقولة أحد الكتاب: «مشكلة كبار السن الذين يرغبون بالرحيل، هم الأطباء الشباب الذين يصممون على إبقائهم على قيد الحياة!».