من المؤكد أن الإصلاحات المتوالية التي عرفتها الديمقراطية المحلية مكنت من إدخال تغييرات جذرية على اللامركزية بالمغرب، وعملت على تحسين الأنظمة المتعلقة بتمثيل السكان ومشاركتهم في تدبير الشأن المحلي. لكن على الرغم من هذا التطور الملحوظ على مستوى القوانين والأنظمة، وعلى الرغم من المكانة الهامة التي حظي بها موضوع تقوية الديمقراطية المحلية في مسلسل الإصلاحات الدستورية والسياسية التي عرفتها بلادنا. وعلى الرغم كذلك من الاهتمام ، والطموح الملكي القوي بأن تصبح الدارالبيضاء مركزا ماليا رائدا في القارة الإفريقية، وقطبا اقتصاديا جهويا ووطنيا وإطارا لائقا للحياة. على الرغم من ذلك فإن نظام الحكامة المحلية لم يرق إلى المستوى المطلوب، ولم تتمكن مدينة الدارالبيضاء، من القيام بمهمتها الاقتصادية في جر قاطرة التنمية ببلادنا وبمهمتها السياسية في ترسيخ الديمقراطية المحلية، وبمهامها الاجتماعية والثقافية في بناء المجتمع الحداثي، ولتصبح المدينة منارة ثقافية وفنية بالمغرب. فأزيد من ثلاثة عقود من التسيير العشوائي بمدينة الدارالبيضاء كانت كافية لتحول المدينة إلى قلعة من المتناقصات، فالدارالبيضاء وجه المغرب الحديث وبوابته المنفتحة على العالم شهدت تطورا ملحوظا في قطاع الخدمات بجميع أصنافه، وبزغت فيها مقاولات متعددة متخصصة في التقنيات الحديثة للإعلاميات والتواصل ، والدارالبيضاء تضم حوالي نصف الاقتصاد الوطني والمقرات الرئيسية للأبناك والشركات والمصانع والمحلات التجارية الكبرى... غير أنها ما زالت تعاني من البطالة والتسول وتكاثر الباعة المتجولين وتطبيع تجارة البضائع المهربة، وتدني ظروف العيش في الأحياء الشعبية منها والعتيقة، وقلة التجهيزات العمومية، وتراكم النفايات وتعفن مطارحها وندرة المساحات الخضراء، وتلوث الجو والمياه واكتظاظ الطرقات وتدهور حالتها واختناق المسالك الرئيسية باستمرار، والترامي على الملك العام. وقد صنف معهد «ماكينزي» الكائن مقره بالولايات المتحدةالأمريكية مدينة الدارالبيضاء في مؤخرة ترتيب المدن الاقتصادية العالمية، وذلك بعد أيام من الخطاب الملكي الذي سلط الأضواء على الأوضاع السيئة والخصاصات الكبيرة بسبب سوء الحكامة المحلية. ولقد كان من المؤمل أن تعطى وحدة المدينة أفقا جيدا وانسجاما في الرؤية، وتحسنا لنظام الحكامة مما سيوفر الشروط اللازمة لبلورة المشاريع الكبرى على أرض الواقع وتسريع وتيرة النمو بالمدينة وضواحيها. غير أن تجربة 10 سنوات من الأداء الجماعي في إطار نظام وحدة المدينة ومقاطعاتها لم تحقق النتائج المتوخاة منها، إذ أن الطابع العرضي وغير الطبيعي للتحالفات الحزبية والشخصية بسبب عجز النظام الانتخابي الحالي على إفراز اغلبية منسجمة متماسكة تمتلك مشروعا واضحا لتسيير وتنمية المدينة، ومعارضة قوية قادرة على المراقبة وإنتاج البدائل الممكنة، كما أن تضخم المجلس الجماعي والجهاز الإداري (حوالي 18 ألف موظف) مع ضعف في التأطير العالي واكتظاظ في التأطير العادي، وتراجع روح المواطنة والالتزام السياسي وتعطيل روح الإبداع في جميع مجالاته، وترسيخ اقتصاد الريع والمنافع الفردية، ومحدودية الوسائل المالية والبشرية والتقنية وثقل المساطر الإدارية وأساليب الوصاية التقليدية... كلها عوامل أضرت بالعمل الجماعي على مستوى المدينة ومقاطعاتها. وخلافا لما تتصوره بعض الأوساط التي تحن إلى الرجوع لنمط التدبير القديم، مغلفا في صيغ جديدة، فإن عملية وحدة المدينة أصبحت الآن أكبر تحد على المسؤولين مواجهته وإنجاحه، فالتقطيع الحضري كان مآله الفشل الذريع بعد وضعه في المحك خلال مختلف التجارب السابقة. غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن عملية توحيد المدينة لا يجب أن ترتكز فقط على الآليات القانونية والإدارية والمؤسساتية، بل أيضا على توفير الوسائل المصاحبة التي تهم المدينة، وعلى كفاءات بشرية، وتدبير إداري جيد، ووحدات مؤسساتية تضع المشاريع الكبرى والمخططات في إطار تكاملي مع كافة الشركاء المحليين كل حسب اختصاصه. صحيح أن تدبير المدن العملاقة يتم انطلاقا من تصور سياسي، لكنه يتم كذلك بواسطة الوسائل المادية والبشرية والتقنية، فإذا لم تكن تتوفر على هذه الوسائل فإنه يصبح من الصعب التخطيط بفعالية ونجاعة للمستقبل. إن الحكامة الجيدة للدار البيضاء تبدأ ليس فقط بخطابات وبرامج سياسية أو بمنتجين، ولكن بكفاءات تملك القدرة على التسيير، وتمتلك المعرفة الجيدة والتحلي بالأخلاق النبيلة، إنها المعايير الثلاثة التي يجب أن تحدد اختياراتنا من أجل تدبير جريء قادر على إيجاد حلول للمشاكل القائمة. فالحكامة الجيدة لا تقتصر على السلطة والاختصاصات الممنوحة لمجلس المدينة، بل أيضا ما يمكن أن توفره من قدرات عالية على مستوى الإدارة المحلية، وكفاءات لدى مختلف الفاعلين السياسيين مما يطرح بحدة المسؤولية المشتركة للدولة والأحزاب السياسية والمواطنين. إن مجلس المدينة إطار لمناقشة الملفات الكبرى وإذا لم يكن يتوفر على الوسائل الضرورية لإعداد الملفات والمشاريع، فإن نظام اتخاذ القرار وأجهزة التنفيذ سيصاب بالعجز وستمنى السياسة الحضرية بالفشل. وعلينا أيضا أن نساير إيقاع ما يحدث على الساحة الدولية، فلن تحل مشاكلنا فقط بالانكباب على القضايا الداخلية بنظرة داخلية ضيقة، ولكن أيضا بالانفتاح على العالم والانخراط في مقاربة حداثية من أجل الدارالبيضاء ومن هنا علينا أن ندرك أن عهد توأمة المدن الشكلية قد انتهى، وعلينا كمنتخبين أن ننفتح على فاعلين آخرين وعلى آليات جديدة للتعاون والشراكة على مستوى الاستثمار وخلق الثروات، والاعتماد على الخبرة أينما وجدت ، وتشجيعها في إطار مقاربة جودة الخدمات الجماعية المحلية (شركات الاقتصاد المختلط، شركات التنمية المحلية، التعاون الثنائي أو المتعدد الاطراف..). ومن هذه المنطلقات فإن تطوير نظام وحدة المدينة، والرفع من فعاليته وتخليصه من معوقاته الرئيسية يستدعي في نظرنا: أولا: تغيير نمط الاقتراع لكي يصبح اقتراعا يحقق الملاءمة الضرورية بين نمط الاقتراع الفردي في مجالس المقاطعات التي يجب أن تعزز اختصاصاتها في كل ما يرتبط بقضايا القرب، وأن تتوفر على الوسائل المصاحبة لذلك، وبين نمط الاقتراع اللائحي النسبي في مجلس المدينة مع إعطاء الامتياز لفائدة اللائحة التي حصلت على أكبر الأصوات «نصف مقاعد مجلس المدينة» وتوزيع الباقي طبقا لمبدأ النسبية، مع التقليص من العدد الهائل للمنتخبين. ثانيا: إصلاح التدبير الإداري المحلي، بانتهاج تدبير إداري فعال وبكفاءات بشرية بحوافز تشجيعية ووحدات إدارية تلعب دورا أساسيا على مستوى إعداد الملفات والمشاريع، وبالأخص على مستوى التنفيذ السليم والجيد لقرارات ومقررات المجلس الجماعي، بما يضمن تناسق أدوار كل الهيئات والإدارات المتدخلة في تدبير شؤون المدينة. ثالثا: تمتيع الدارالبيضاء بنظام خاص لتدبيرها، أساسه توحيد سلطة القرار بالمدينة وتبسيط المساطر الإدارية وتخفيف الوصاية القبلية، وتنمية الموارد الذاتية للمدينة بإصلاحات جبائية تمكنها من الاستفادة من بعض مداخيلها وجباياتها كالرسم المفروض على الأرباح العقارية، والرسم المفروض على السيارات(فينيات)، مما يمكن من ربط المسؤولية الواضحة بالمحاسبة الواجبة. بيد أن انعكاسات الإصلاحات العامة رغم أهميتها ليست كافية، إذ لا يمكن أن تنهض المدينة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، إلا إذا امتلكت مشروعا تنمويا خاصا بها ويندرج في إطار سياسة متكاملة لإعداد التراب الوطني وتعبئة كل الشركاء المحليين وحثهم على الانخراط بدون تردد في بلورة المشروع المندمج للتنمية الحضرية لتصبح بالفعل مدينة الدارالبيضاء قطبا اقتصاديا وماليا رائدا، ومركز إشعاع ثقافي ونموذجا للتكافل الاجتماعي ، وإطارا لائقا للحياة.