والمغرب يعيش تحت سلطة الحماية الفرنسية، نشرت «الدار الفرنسية للفن والنشر» الباريسية كتابا لا يتجاوز عدد صفحاته 104 صفحة، يحمل عنوان «أصناف الحب المغربية». المؤلف صدر بالضبط في سنة 1919، وهو يحمل توقيع أندري رِبِيِيِند، الكاتب الفرنسي الذي سيحصل لا حقا على جائزة الماريشال لويس-هوبير ليوطي في عام 1958 عن كتابه «نصب ليوطي التذكاري». وخلافا للكتابات الاستعمارية المغرقة في التصورات المسبقة عن علاقات الحب والزواج في المغرب، وعن قدرات المغاربة الخارقة جنسيا، وعن طبائع رعايا السلطان مولاي يوسف بن الحسن البدائية، فإن الكاتب حاول، قدر ما يسمح له بذلك وضعه كسليل للدولة الحامية، وصف المجتمع المغربي في تلك الحقبة بدون توابل عجائبية. ولعله فعل هذا نظرا لاعتناقه لتصور ليوطي لنظام الحماية الذي كان يقضي بضرورة محافظة المغرب على تقاليده مع عصرنته وتحديثه. يضم الكتاب، بالإضافة لمقدمة وتمهيد، تسعة فصول تصف الطقوس والممارسات المغربية، حضريا وقرويا، في مجالات الخطوبة وما يليها، وعرس الزواج، وتعدد الزوجات، والحريم، ولثام النساء والدعارة. نقترح على قراء «الاتحاد الأسبوعي» موعدا كل سبت للاطلاع على ترجمة شبه كاملة لمضامين المؤلف. أندري رِبِيِيِند بمجرد الإعلان عن خطوبة أطفالهما، تربط عائلات الشبان المغاربة بينها علاقات قد لا يُنظر إلى بداياتها بعين الرضا في بلدان أخرى، ومنها فرنسا على سبيل المثال. تقوم امرأة أو عدة نساء من أسرة الخطيبة بزيارة أولى لأهل الخطيب. وعادة ما تأتي النساء مساء يوم الخميس ليستطعن الذهاب يوم الجمعة جميعا لأداء الصلاة جماعيا في أحد أضرحة الأولياء المحليين، ولتناول وجبة الغداء على قبر آخر الأقرباء المتوفين. لا ترحل الزائرات إلا في يوم الخميس الموالي، بعد قضاء أسبوع كامل في ضيافة الأسرة التي ستربطها مع عائلتهن علاقة مصاهرة قريبا، مع الحرص، طوال إقامتهن، على معرفة أكثر ما يمكن من المعطيات حول موارد آل العريس وعلاقاتهم، وحول سلوك هذا الأخير. تتعاطى هؤلاء النساء إذن، بصيغة أخرى، إلى عملية تجسس فعلية. لكن الخطيبة ستكون سعيدة بالأخبار التي ستنقلها لها أمها أو أخواتها، ذلك أن عائلة الشاب اتخذت كل الترتيبات الضرورية لإبهار ضيفاتها، علما أن الأخيرات لا يرجعن عادة بمفردهن، بل ترافقهن إحدى قريبات الخطيب التي تأتي هي الأخرى قصد إجراء بحثها، بحث طويل أيضا تتولد عنه انطباعات جيدة. ينضاف إلى هذه الزيارة أمر غريب إلى حد كبير بالنسبة لنا، ومزعج أيضا، بدون شك، بالنسبة للخطيبة، ذلك أنها تكون مجبرة على الخضوع لتحريات جديدة ذات طبيعة خاصة. ترافق نساء الأسرتين الشابة إلى «الحمام»، وهناك، في حضرة العائلة، يقمن بفحص دقيق لمفاتن جسدها. ولا تتوفر الحمامات العربية في المغرب إلا على قاعة وحيدة مشتركة، توضع بالتناوب تحت تصرف الرجال والنساء مرتين في اليوم، ومن ثمة، فإن الشابة لا تستطيع تجنب هذا الفحص شبه الطبي الذي يكون قد فقد أهميته حين إبلاغ المعني بالأمر بنتائجه. فعلا، لقد شرحنا في السابق كيف أن الحظر القرآني لا يمنع الخطيبين الشابين من لقاء بعضهما البعض قبل الزواج، بل إن الأمر هذا كثير الحصول. ومع ذلك، فالخطيبة تذهب بكل ثقة إلى هذه اللقاءات، لأنها تعلم علم اليقين أن خطيبها لن يستغل ضعفها، وذلك نظرا لعدة أسباب. إن مجرد ممارسة الجنس من طرف مغربي مع فتاة عذراء يجبره على الزواج بها من جهة. ومن جهة أخرى، ورغم إرادته في إشباع رغبته، فإن عليه أن يكبح اندفاعه لأن لكل أمر أوانه ولأن لحظة الانصياع لرب الحب لم تحن بعد. الوضع إذن أفضل هنا في المغرب مما هو عليه في حضارتنا الأوربية، ذلك أن الرجل يجد نفسه أمام حاجز، حاجز ليس متعذر التجاوز، لكن فعل ذلك يشكل خطرا على من يتجرأ على الأمر لأنه سيحول أجمل يوم في حياته إلى فضيحة. ها هما عشيقانا المسكينان مجبران على كبح رغبتهما. فهل سيفعلان ذلك؟ نعم ولا! سيحبان بعضهما البعض رغم كل شيء، لكن بطريقتهما، وحين ستصبح الرغبة أقوى لديهما من قوة العقل، وترمي الواحد منهما في أحضان الآخر، فإنهما لن يعبرا عنها إلا بشكل مخفف، بطريقة جد سطحية... هذه اللعبة لن تجعل الشابة تفقد شيئا، بينما سينال رفيقها طمأنينة ليلة الزفاف. ليعذرني القارئ على عدم تقديم المزيد من التوضيحات في هذا الباب، لكن جدية هذه الدراسة فرضت علي الإشارة لهذه الممارسة، وهي ممارسة يجري بها العمل ويعرفها الجميع لدرجة جعلتها تحمل تسمية حتى في أوساط المسلمين الأكثر تزمتا. لكنني ألتمس من القارئ السماح لي بعدم ترجمة تسميتها... لكن الوقت يمر بسرعة بين زيارات العائلة ولقاءات الخطيبين، لنجد أنفسنا خلال الأسبوعين الأخيرين السابقين لحفل الخطوبة. الاتفاق بين الأسرتين شامل الآن، واستعدادات العرس ستنطلق، ولم يبق للخطيب إلا دفع المهر المتفق عليه لأهل خطيبته، وهو ما سيقوم به بعد كتابة عقد النكاح من طرف «العدول». ينص العقد على التزام والد الفتاة بتزويجها مقابل مبلغ مالي محدد، وبتزويدها بملابس وأثاث ومجوهرات تساوي قيمتها مبلغ «الصداق» الذي سيؤديه الزوج المستقبلي، علما أن هذا الأخير لا يلتزم بشيء آخر غير دفع المبلغ المالي المتفق عليه. وعقب الانتهاء من هذا الإجراء، يصبح الخطيب مالكا للمرأة التي اختارها له أناس آخرون. ومن ثمة، فإنه سيسرع لكي تصير ملكه فعلا. ولإعطاء نظرة أكثر دقة على التقاليد المغربية، ومنحى أكثر محلية، سنستعرض الكيفية التي تمر بها الأمور في مدينة مثل فاس. في فاس، وبعد تحرير العقد المعقد إلى حد ما، الذي يوثق الالتزام النهائي بالزواج، يرسل الخطيب لزوجته المقبلة هدية تتكون من الشموع والثمر والحليب. وبعد ذلك بأسابيع، تستدعي الأسرتان الأقارب لضريح مولاي إدريس ليبارك والي المدينة الزوجين المستقبليين. يشكل هذا الطقس إشهارا للزواج، ويحتضنه باب القبة خلال يوم جمعة عقب صلاة العصر، علما أن الخطيبين لا يحضرانه إطلاقا. يأخذ كل واحد من والدي الزوجين مكانه في جانب من جانبي القبر، ويصطف الأقارب خلفهما، وحينها يتقدم حلاق العريس ويطلب فاتحة مولاي غدريس لصالح العريسين بينما يؤدي الحاضرون الصلاة... يحظى هذا الحلاق بأهمية خاصة، فهو الذي يقوم بحلق خصلات الرضيع الأولى، ثم بخثانه. وهو يقدم خدماته للطفل مجانا إلى حين عقد قرانه، كما أنه يحلق شعره ليلة زفافه قبيل ولوجه غرفة الزواج. وانطلاقا من هذه اللحظة فقط، يصبح ينال أجرا قصد الاعتناء «برأس الزوج» وحلاقة شعره أسبوعيا. بعد انتهاء زيارة ضريح مولاي إدريس، ينظم حفل خطوبة كبير في منزل أسرة العروسة، حيث يذهب أهل العريس حاملين «مونة» مهداة من طرف هذا الأخير. تنطلق الأغاني والرقصات، وتزين العروس بالحناء التي هي رمز الفرح والإغواء لدى المغاربة. وعقب الانتهاء من وضع الحناء، تهدي الحماة لزوجة ابنها جوهرة ذهبية أو قطعة نقدية. في اليوم الموالي، يحل دور الخطيبة في تقديم الشكر، وهو ما تقوم به بواسطة بعث أكلة لخطيبها يتناولها رفقة أصدقائه، ثم يعيد الأواني الفارغة مرفقة بهدية. وحسب الظروف، فإن مدة من الزمن طويلة أو قصيرة تفصل الخطوبة عن عرس الزفاف، وطوال هذه الفترة، يكون على الخطيب تقديم هدية صغيرة لخطيبته مع حلول كل عيد ديني... في انتظار الهدية الكبرى... لا يرسل الشبان المغاربة الدعوات لحضور عرس زفافهم إلا يومين فقط قبل إقامته. وتتم دعوة الرجال بواسطة دعوات مطبوعة أو مكتوبة بخط اليد حسب الحالة الاجتماعية للأسرة، أما النساء فيتم استدعاؤهن عن طريق الخادمات نظرا لأميتهن. تنطلق الاحتفالات في الصباح في المنزلين معا، بين العريس وبيت الفتاة. وبالطبع، فالرجال يذهبون إلى منزل الخطيب، بينما تذهب النساء إلى بيت زوجة المستقبل. يتم إعداد مأدبة أولى يشارك في تنشيطها المغنون والمغنيات والموسيقيون. ليس هناك عرس بدون موسيقى في منازل المغاربة، وهو أمر لا يثير التعجب بسبب انعدام الحفلات الموسيقية العمومية والمسارح لديهم. كما أن استضافة الفرق الموسيقية في البيوت لا يكلفهم قرشا، ذلك أن المدعوين هم الذين يؤدون المقابل المالي للفنانين. وتتكون المجموعات التي تنشط الأعراس المغربية وتضفي عليها بهاء خاصا، على العموم، من مغنية جيدة تكون في بعض الأحيان جميلة وشابة، ومن أربع أو خمس مرافقات ذوات وجوه لا تجلب الانتباه أو قبيحة المظهر، وذلك بهدف إبراز جمال «الشيخة». ويضاف إلى هؤلاء النساء مغن أو مغنيان وعازف على الكمان يعملون جميعا تحا قيادة «الشيخة» الرئيسية. عقب الانتهاء من تناول الوجبة الأولى وبعد عودة كل المدعوين إلى أماكنهم، تقوم «الشيخة» لأداء رقصة غير متناسقة وفاحشة. ... يأخذ المدعوون، تباعا، قطعا نقدية من «شكارتهم»، يبللونها بقليل من البصاق ثم يلصقونها على جبهة ووجنتي وذقن «الشيخة»، لا يمكن لضيف محترم أن يعطي للراقصة اقل من أربعة دورو. وبعد انتهاء العملية، تخبئ «الشيخة» النقود ثم تعود للجلوس فوق ركبتي المدعو الذي يكون بإمكانه لحظتها مداعبتها. وإذا كان المشهد هذا يتكرر حسب عدد المدعوين، فإن ترتيبه من طرف الراقصة يستحضر الوضع الاجتماعي لكل ضيف. وفي النهاية، تأخذ «الشيخة» لنفسها نصف المبلغ الإجمالي وتوزع النصف الآخر بالمساواة بين مساعديها النساء والرجال. لكن هذا لا يعني أن الضيوف لن يدفعوا أموالا إضافية، بل إن النساء يفعلن ذلك أيضا، وفق ما سنراه لاحقا. إثر اختتام المأدبة الأولى، تجلس الخطيبة أمام الحاضرات، وهي تضع ملابس فاخرة ومجوهرات غالية الثمن، وجهها مزين والعطور تنبعث من جسدها. لقد استحمت سبع مرات وخضعت لطقس «الحناء الكبرى» التي تجعلها أكثر إثارة. ... تتقدم القريبات أولا، وبعدهن باقي المدعوات، نحو العروس لتقبيلها ووضع الهدايا تحت قدميها: ملابس، مجوهرات، قطع نقدية ذهبية أو فضية... نفس الطقس يحتضنه منزل الخطيب مع اختلاف بسيط، ذلك أن المدعوين يلصقون هباتهم المالية على جبينه مثلما فعلوا مع «الشيخة». المغاربة لا يحددون موعدا معينا في دعوات أعراسهم، إنهم يعتبرون ذلك عديم الجدوى وغير لائق إزاء أصدقائهم. ولذا، فإن المدعوين يأتون إلى الحفل في الوقت الذي يلائمهم، وهم متأكدون أن الأكل متوفر لهم متى وصلوا. وبالفعل، فبمجرد انتهاء الضيوف المتحلقين حول مائدة الأكل من تناول الطعام، يتم إعداد مائدة أخرى لفائدة الوافدين الجدد. يمر اليوم الأول في الاحتفالات في المنزلين، علما أن كل واحد من الخطيبين يظل في منزل أهله، ما يجعلهما لا يعرفان بعضهما البعض قبل ليلة الزفاف. ها هي الساعة الثالثة صباحا تحل أخيرا، والموعد المنتظر يدنو. يشكل أقارب وأصدقاء الخطيب موكبا ليذهبوا إلى منزل الخطيبة، حاملين الشموع المشتعلة. وهناك، يطلبون منها مرافقتهم عن طريق أداء أغنية تليق بالمناسبة. تتعالى الزغاريد من داخل البيت للرد على الموكب، وعقبها مباشرة، يفتح الباب وتظهر الخطيبة وهي ترتعد بفعل الأحاسيس الجياشة والخوف، وقد لبست «حائكا» يحجب رؤيتها على الحاضرين. وبينما تحيط نساء الأسرة والصديقات بالشابة، يتقدم الموكب المنار بالشموع نحو المنزل حيث جهزت غرفة «الدخلة حيث ستتم «الذبيحة». ... يسكب العطر على العروس بسرعة، وتتم مساعدتها على ولوج غرفة الزفاف التي ستحتضن الأمر المقضي. تصل إلى مسامعها أصداء دعوات ونصائح «النگافة» التي تعود إلى الخشبة من جديد، كما لو أنها تسعى إلى وضع نقطة الختم على عملية الزواج التي قادتها.