بوريل يثمن قيمة الشراكة مع المغرب    جماهري يكتب: مستجدات الخطاب الملكي    أزيد من 3 ملايين مسافر عبروا الموانئ المغربية خلال عملية مرحبا    آيت الطالب يعلن عن قائمة جديدة من الأدوية التي سيتم خفض أسعارها            الوزير بنسعيد: إذا لم يشعر الشباب المغربي بالثقة سنعيش مجددا ما رأيناه في الفنيدق    إصابة لامين جمال تربك حسابات برشلونة قبل قمتي بايرن ميونيخ وريال مدريد        رئيس مجلس الشيوخ البرازيلي: بلادنا تتطلع إلى الارتقاء بعلاقاتها مع المغرب إلى مستويات أعلى    بعد 10 سنوات زواج...طلاق فرح الفاسي وعمر لطفي    فيضانات تازة تودي بحياة سيدتين وتخلف خسائر مادية جسيمة    انقلاب حافلة النقل المدرسي يرسل 20 تلميذا لمستعجلات سيدي قاسم    تعزيز التعاون البرلماني في صلب مباحثات الطالبي العلمي مع رئيس مجلس الشيوخ البرازيلي        "البام " يرشح إبن برلماني من "الأحرار" لخوض غمار الانتخابات الجزئية بخريبكة    الكاتب العام لعمالة إقليم الناظور يترأس الذكرى 26 لوفاة الملك الحسن الثاني    تحذير من أمطار عاصفية هذا اليوم    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء – سطات تطلق عملية واسعة النطاق لتنقية شبكة التطهير السائل بالجهة    تعليق الدراسة اليوم في مدارس العالم للقروي بورزازات بسبب الأمطار الطوفانية    مجلس المالكي يُؤكد سطوة الخيار الفرنسي على التعليم باتفاقيات جديدة للشراكة    ناشط بارز ب"حراك الماء" في فكيك يغادر سجنه    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة بحبات البرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الإثنين    عجز الميزانية بالمغرب يتراجع إلى 26,6 مليار درهم عند متم شتنبر (الخزينة العامة للمملكة)    دولة إفريقية تعلن تسجيل أول حالتي إصابة بفيروس جدري القردة    مناورات بحرية مشتركة بين المغرب وبريطانيا قبالة سواحل طنجة    هزالة الأجر ومدة التعاقد وقضايا أخرى تدفع الأطباء المقيمين والداخليين للإضراب    "لوموند": المغرب لديه "أكبر مسرح" في إفريقيا كلف بناءه 200 مليون أورو لكنه مغلق    فيلم "تيريفاير 3" يتصدر شباك التذاكر    دارون أسيموغلو وسيمون جونسون وجيمس روبنسون يفوزون بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2024    ماريا نديم تظهر لأول مرة مع مولودها وتكشف عن إحساسها بالأمومة (فيديو)    هذا موعد الدورة المقبلة من مهرجان موازين إيقاعات العالم    تراجع أسعار النفط بفعل مخاوف بشأن الطلب في الصين    دراسة: تناول كميات طعام أقل قد يكون له تأثير إيجابي على متوسط العمر المتوقع        الكاف يحدد موعد انتخاباته الرئاسية    عامل إقليم الفقيه بن صالح محمد قرناشي يترأس الذكرى السادسة والعشرين لوفاة المغفور له الحسن الثاني بمسجد السلام حي نزهة 1.    "غلوري" توقف المقاتل جمال بن صديق بسبب المنشطات    ترتيبات جديدة تنظم "إسعاف السفر"    حزب الله يستهدف ثكنة في وسط اسرائيل    "الفوارق في الثروة" تفوز بنوبل الاقتصاد    دراسة: الذكاء الاصطناعي ساعد في اكتشاف آلاف الأنواع من الفيروسات    قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مركز توزيع أغذية في جباليا        جامعة كرة القدم تكرم لاعبين دوليين بالمنطقة الشرقية    المعهد المغربي للتقييس يخلد اليوم العالمي للتقييس    رحيل المفكر اللبناني مصطفى حجازى صاحب كتاب "سيكولوجية الإنسان المهدور" عن عمر ناهز ال 88 عاما    قتلى وإصابات خلال قصف حزب الله لإسرائيل    السلاح النووي والصراع بين إسرائيل وإيران يدقان ناقوس الخطر في المنطقة    توقيف شخص مسلح قرب تجمع انتخابي لدونالد ترامب    من التصيد إلى الاحتيال .. هكذا تحمي نفسك في العالم الرقمي    أعراض داء السكري من النوع الأول وأهمية التشخيص المبكر    أول عملية مغربية لتجميد مبيض تحفظ خصوبة شابة تواجه سرطان الدماغ    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمحة عامة المسألة الوطنية في تجربة 23 مارس

هذه المقالة، مداخلة شاركت بها في الندوة التي نظمها «مركز محمد بنسعيد أيت يدر للأبحاث والدراسات,حول إصداره لكتاب "«الموقف الوطني الثوري من مسألة الصحراء المغربية"» وهو عبارة عن نصوص كانت تعبر في وقتها عن موقف منظمة 23 مارس من معركة استرجاع الصحراء إلى الوطن الأم.
لا أرى في هذا اللقاء التحاوري, ضرورة ماسة لأتناول مباشرة المادة السياسية والفكرية التي تضمنها هذا الكتاب، وذلك لأن الواقع الراهن للقضية الوطنية قد تجاوز كيفية الوضع الذي كتبت فيه تلك المادة، ولأن أصحابها، هم أنفسهم قد عدَّلوا العديد من زوايا النظر التي كانت لديهم في ذلك الحين.
ومع ذلك، يجب القول من هذا المنطلق، أن الثابت الأساسي، سواء في المرحلة التي عبر عنها الكتاب، وسواء في المراحل اللاحقة بعد ذلك، كان وظل دائماً هو نفسه، الثابت الوطني الداعي والمكرس لمغربية الصحراء، ولإدماجها في الوطن المغربي الواحد الموحد، وبالتالي، النضال ضد الاحتلال الإسباني في إبانه، من جهة، وضد كل أشكال الانفصال والتجزئة من جهة ثانية.
وإذا كان هذا هو الثابت الأصلي والدائم، فإن المتغيرات فيه، كانت ومازالت، بحسب تطور الأحوال والأوضاع، الكيفية التي يجب أن تكون عليها العلاقة في كل وضع ملموس، بين النضال الديمقراطي السياسي والاجتماعي من جهة، وبين النضال الوطني من جهة ثانية. وتلك هي الإشكالية المركزية التي طغت على المرحلة التي تناولها الكتاب، والتي مازالت آثارها أو أشكالٌ منها قائمة إلى اليوم.
أما ما يهمني في هذه الإضاءة السريعة، فلن يزيد عن تقديم بعض الشهادات والملاحظات التي قد تساعد على توضيح خصوصية المسار الذي نهجته منظمة 23 مارس، والذي تميزت به داخل ما كان يُعرف بالحركة الماركسية اللينينية.
وفي هذا الإطار، سأحاول ما أمكن لي أن أتطرق إلى محورين:
الأول، في الحاجة إلى قراءات نقدية شاملة لتجربة اليسار السبعيني، والثاني في الماركسية والوطنية والديمقراطية.
ولا أخفيكم أني كنت أنوي إضافة محور ثالث، يتعرض للوضعية الحالية التي عليها القضية الوطنية اليوم. ويتناول أيضاً الحالة الراهنة لليسار وما طرأ عليه من تغيرات إيديولوجية، إلا أني فضلت أن أترك هذا الجانب بغاية التركيز فقط على زمنية الكتاب الذي بين أيدينا.
أولا: في الحاجة إلى قراءات نقدية شاملة لتجربة اليسار السبعيني
ربما آن الأوان، وأكثر من أي وقت مضى، للقيام بقراءات فكرية نقدية شاملة لكل ما أنجزه اليسار السبعيني خلال العقود السابقة، إن على المستوى الأدبي أو على المستوى السياسي والعملي، بل ولكل ما أنجزته القوى الديمقراطية جميعاً من نتاجات فكرية وبرنامجية. فضائل هذا الاستحقاق المنتظر كثيرة وحاسمة في ما بتنا نلحظه اليوم من فقر وإدقاع إيديولوجي في الساحة الوطنية. والذي ما كان له أن ينحط إلى هذا المستوى المخيف، إلا لغياب المتابعة الفكرية النقدية التفصيلية لإنتاجات أحزابنا الفكرية والسياسية. ولكم أن تتصوروا مجمل التداعيات الفتاكة التي تركها هذا الغياب على حياتنا السياسية عامة، وعلى أجيالنا الصاعدة خاصة.
كل ما أود الإشارة إليه هنا ليس أكثر من مسألتين هامتين:: الأولى، إجرائية، والثانية منهجية أو لها صلة بها.
الإجرائية، في أننا بحاجة ملحة إلى تجميع وتوثيق كل ما أمكن من أرشيف هذه الحركة بكل فصائلها وتلاوينها. كما نحن بنفس الحاجة إلى مثل ذلك على المستوى الوطني عامة، من أجل صيانة وتنمية الذاكرة الوطنية من جهة، ومن أجل معرفة أعمق وأصوب لتاريخنا الوطني ولمستقبله، من جهة ثانية، ومن أجل بناء جسور التواصل والتراكم الإيجابي بين الأجيال، والتي عانى من شروخاتها وانكساراتها جيلُنا، ناهيك عن الأجيال الحالية. من جهة ثالثة.
وإني واثق من أن من سيؤرخ للحركة، لابد وأنه سيلحظ ولأسباب عديدة، كل المضاعفات السلبية الناجمة عن ضعف الذاكرة الوطنية على مجتمعنا وعلى أجياله ومساراته المستقبلية.
وهكذا، لا يسعني إلا أن أثمن عالياً هذه المبادرة التي باشرها المركز والمدرجة في هذا المسعى وهذا المبتغى. وأقول بأسف شديد، أن معظم ما كتب في زمن نشأة الحركة قد أصابه التلف والضياع، أو استولت عليه الأجهزة خلال الاعتقالات والمداهمات، ومع أن ظاهرة اليسار الجديد كانت بقدر كبير «ظاهرة مكتوبة» إن صح التعبير، لوفرة ما كتب خلالها، ولطبيعة تركيبتها السوسيولوجية والثقافية. إلا أنه مازال بإمكان مناضليها وممن انتسبوا إليها أن يستدركوا ما ضاع بكتابات جديدة وأمينة عن ذلك الماضي.
أما الإشارة المنهجية، فهي تحتاج منا إلى تأمل نظري عميق أوسع وأشمل من المختزلات التي سأقدمها. وما تذكيري بها إلا لشيوع أحكام قطعية على التجربة الماضية لليسار. وهي أحكام إما استخفافية، تنم عن ثقافة أبوية متعالية، وكانت في جلها صادرة عن بعض فاعلي الحركة الوطنية التقدمية. وإما أحكام تنصلية وتطهُّرية من الماضي جاءت متأخرة ومن بعض أصحاب هذه التجربة أنفسهم. وحتى الدراسات الأكاديمية القليلة، أو على الأقل، تلك التي تمكنت من الاطلاع عليها، كانت بحكم طبيعة العمل الأكاديمي، جزئية التناول ويغيب عنها بشكل تام النقد الفكري التفصيلي لأدبيات الحركة.
ما أستطيع قوله في هذه العجالة وحيال هذه الإشكالية المنهجية الشديدة التعقيد، ليس أكثر من بعض المحاذير المنهجية.
أولا: معيار «الصواب والخطأ» في الممارسة السياسية، لا يكفي لوحده في إصدار حكم تاريخي على أية حركة. فإذا كان النقد السياسي، بل والمعرفي عامة، معياراً لابد منه في أي عملية تقييمية، فذلك لا ينبغي أن ينسينا طبيعة المصالح الاجتماعية التي تعبر عنها تلك الحركة، ولا الشروط الموضوعية للمجتمع التي تتبلور فيها تلك المصالح. ولاشك أن هذه القضية الأخيرة بالتحديد هي الأكثر صعوبة في التحليل، وهي التي تقرر في نهاية المطاف المسار التاريخي العام لأية حركة، إن كانت في اتجاه التقدم أو في اتجاه المحافظة والتقهقر.
ثانياً: في تاريخية الحركة، لابد من الانتباه إلى أنها لم تكن سوى أحد التعابير السياسية لتحول ثقافي/ إيديولوجي شمل جل فئات المثقفين وامتد إلى ميادينهم المختلفة في الفكر والفن وكل أشكال الإبداع. وكان هذا الكل تعبيراً عن تحول المثقفين من ظاهرة محض اجتماعية إلى أنتلجنسيا بكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى، وأساسه بروز وشمول ظاهرة «المثقف العضوي». ويمكن لنا بعد تثبيت هذه الواقعة، أن نتساءل بعدها، لماذا حدث التفكك والتراجع، ولماذا انطفأت تلك الظاهرة كفقاعة عابرة؟
ثالثا: من البديهي في أي تحليل يصبو إلى العلمية والموضوعية أن يتناول الشرط التاريخي الكوني والقومي والوطني لظهور اليسار ولتوجهاته، فلا أقل من أن المرجعية الماركسية والاشتراكية المنظور إليها كأفق قريب، كانتا، قبل الانهيار الكبير والمعلوم، بؤرة استقطاب كوني لقوى التقدم في العالم. ومن بين هذا الشرط التاريخي أيضاً، ما أفصحت عنه ديناميات الصراعات كونياً وقومياً ووطنياً من تراكمات مضادة، لم تكن قوتها ظاهرة باليقينية التي عليها اليوم، والتي أفضت في النهاية إلى ما فيه الحركات الاشتراكية من تيه ومواقع دفاعية.
ولكي أوضح هذه الفكرة، ولو قليلا، يكفي على المستوى الوطني، أن أذكرَكُم بالتقلص المتتالي للقواعد الاجتماعية المنظمة للتحرية اليسارية المغربية على مر العقود السابقة، بدءا بالعزل السياسي المتعمد من قبل الحكم للفلاحين، مرورا بالانشقاقات العمالية وتكلساتها وصولا إلى انهيار الحركة الطلابية وتفكك المثقفين, كأنتلجنسيا قوامها المتقف العضوي. وليس بعيدا عن هذه الحالة كل الفئات الاجتماعية الأخرى التي كانت لها صلة ما باليسار.
حاولت في ما سبق أن أؤشر إلى بعض الملامح المنهجية التي ينبغي الانتباه إليها عند تناول تجربة اليسار السبعيني وخياراته. ولا شك لدي في أنها ستضع علينا أسئلة عديدة فرعية بغية ضبطها وتعميق مضامينها. هذا ما يتعدى حيز هذه المداخلة المتواضعة. ولذلك علي أن أنتقل فورا إلى المحور الثاني.
في الماركسية والوطنية والديمقراطية
ثلاث مقولات شكلت مع بعضها البنية الفكرية والسياسية والتنظيمية لمنظمة 23 مارس. وما أريد أن أقدمه عنها، كما أسلفت، ليس أكثر من بعض التوضيحات والوقائع التي ربما تكون غائبة عنا، سيما وأنني كنت من مقرريها وشاهدا على تجربتها.
ولعل أول ما ينبغي البدء به، أن المنظمة منذ تأسيسها نبذت بوعي العفوية التنظيمية التي حاولت تيارات أخرى أن تكرسها كخيار تنظيمي لليسار الجديد، وهذه الخاصية هي انعكاس مضاد لتجربة المؤسسين في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذي البنية الجماهيرية المفتوحة، كما الرأي الآخر كان في أغلبه انعكاسا للتجربة المركزية في الحزب الشيوعي المغربي.
منذ البدء إذن، اختارت منظمة 23 مارس المركزية الديمقراطية كناظم تنظيمي لعلاقاتها الداخلية. لكن، وعلى الرغم من شروط العمل السري، تميزت منظمة 23 مارس بالخصوص بتعددية الآراء والحوارات الداخلية التي لم تنقطع حتى في أحلك الظروف وفي كل القضايا، ومن بينها قضية الصحراء المغربية.
لقد عرفت المنظمة في هذه المسألة أطروحات عديدة، لكنها كانت في معظمها تقر بمغربية الصحراء وبضرورة استرجاعها الى الوطن الأصلي، وإن تباينت التكتيات السياسية المؤدية إلى هذا الاسترجاع. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن المنظمة اتخذت لجنتها المركزية قرارا في هذا الشأن في أول اجتماع لها وبعد شهور قليلة على تأسيسها في 1970، أي قبل أن تصير المعركة حامية وبرسم التنفيذ العملي، وتحت سقف مغربية الصحراء وضرورة تحريرها واسترجاعها، أوصت ل.م. بتشكيل لجنة تذهب الى المنطقة المحتلة لاستقصاء الأحوال في عين المكان ولتقديم مقترحاتها العملية في هذا الشأن.
ومن المفيد هناك أيضا، الاشارة إلى واقعين لما أثاراه من تشويش لدى قواعد واسعة لليسار الجديد، ومن تشويش على الحقيقة التاريخية أساسا.
الواقعة الأولى، وهي المقالة التي نشرت في مجلة "أنفاس" تحت عنوان" «فلسطين جديدة على أرض الصحراء»"، والتي استقبلت من لدن قواعد اليسار وكأنها الموقف الرسمي للتنظيمين (23 مارس وإلى الأمام)، بينما هي في الحقيقة خلاصات لحوار أجري مع المرحوم مصطفى الوالي، بغية ايجاد روابط تنظيمية مع من كان معه من أجل القضية الوطنية المشتركة. وللحقيقة والتاريخ، لم يظهر مصطفى الوالي في هذا الحوار أي نزعة انفصالية، ولم يكن يستعمل حتى كلمة" «الشعب الصحراوي»"إلا عابرا وبالمعنى العادي الخالي من أي مضمون سياسي، بل كان تعبيره المفضل "«الشخصية الصحراوية»"على غرار ما كانت تقول به أدبيات المقاومة الفلسطينية آنذاك عن الفلسطينيين الأردنيين. ولتقديرات تخصه، طلب أن يكون الحوار مقالة لأهم الأفكار التي طرحها دون توقيعه. المهم في هذه الواقعة، أن قيادة 23 مارس أصبحت في حينها على هذه المقالة التي لا تحمل اسم صاحبها،والتي قد تتسبب في تشويش ما على موقف المنظمة.
والواقعة الثانية: فهي رسالة ضائعة كسابقتها موجهة من قيادة المنظمة في الخارج إلى مسؤولي المنظمة في الداخل، تضمنت انتقادات القيادة بالخارج للبيان السياسي الصادر عن المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومن بينها كان انتقاد الصياغة الملتبسة الواردة في البيان والمتعلقة بقضية الصحراء. والجدير بالملاحظة هنا أن حملة القمع الأولى لسنة 72 أصابت أساسا كوادر المنظمة، واضطرت بعض قيادتها الى الهجرة خارج الوطن، كما أحدثت الملاحقات ارتباكا تنظيميا كانت آثاره فاعلة في زمن انعقاد المؤتمر الطلابي.
أردت من كل ما سبق القول، أن قضية الصحراء كانت حاضرة بقوة ومنذ البداية لدى منظمة 23 مارس وأن مغربيتها ظلت ثابتا من ثوابتها بالرغم من كل الالتباسات التي اكتنفت مسارها النضالي.
ولعل التمعن في خلفيات هذه القناعة، يأخذنا إلى العنصرين التاليين:
أولا: التركيبة العضوية للمنظمة: فمن المعلوم أن جل مؤسسي المنظمة جاؤوا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي هو امتداد للحركة الوطنية، والذي شكلت المقاومة وجيش التحرير جزءا أصيلا من هويته العضوية. ونحن ندرك ما كان لقضية تحرير الصحراء من دور تمهيدي في شأن الاتحاد، أضف إلى ذلك أن الاتحاد وخاصة قبل منتصف الستينات، كان حزبا جماهيريا مفتوحا وكاسحا. الشيء الذي مكن أطر المنظمة وهم اتحاديون وفتئد من العمل التنظيمي المباشر مع فئات شعبية متنوعة، خارج الساحة الطلابية ومدها العضوي الذي ستشهده في السبعينيات. وينطبق هذا على المجموعتين المؤسستين (مجموعة مراكش والبيضاء) الناشطتين في جمعيتي "»الرابطة الفكرية" و"جمعية الوعي«" ..ومما لاشك فيه أ ن الانتماء المبكر للمدرسة الاتحادية الوطنية، والعمل الحزبي مع فئات شعبية عريضة كان لهما التأثير القوي على الوعي الوطني والسياسي للمنظمة. وهو الوعي الذي سيترسخ، وسيصير له ارتباط تاريخي مباشر بالقضية بانضمام مجموعة أخرى من المناضلين المقاومين وعلى رأسهم الأخ بنسعيد والأخ عبد السلام جبلي وغيرهما. العديد من الذين عاصروا وناضلوا وقاوموا في المرحلة الاستعمارية، عدا القضية الوطنية التي هي موضوعنا، يمكن لنا في دراسة تفصيلية أن نتتبع بصمات تلك الخبرة النضالية المكتسبة من الانتماء الباكر لحزب وطني عريض الشعبية على وعي المنظمة في مسارها الجمعي، وفي قضايا عدة، وقد ألمحت إلى الجانب التنظيمي منها في خطوات التأسيس الأولى، وفي الجملة كان التأثير الأبرز في مجموع هذا المسار، ومع الانفتاح الأيدلوجي الذي سأبينه، تنامي الحذر من تقديس العفوية في كافة أشكالها، ومن أشكالها تقديس الجماهير والطبقات الكادحة، بدل امتلاك القدرة على النظرة الواقعية النسبية للصراع الاجتماعي في كل مرحلة.
ثانيا: المرجعية الأيديولوجية المنفتحة: لقد أطلق على الحركة عنوان الحركة الماركسية-اللينينية«. لكن هناك أيضا تميزت المنظمة في مسارها التاريخي بغلبة واضحة لتيار ماركسي لم يتموقع دوغمائيا في أي من الماركسيات الدولتية، نسبة لأحزاب شيوعية حاكمة. بل كانت بالأحرى منفتحة على كل الاجتهادات الماركسية الانتقادية من شتى المدارس وخاصة منها الاجتهادات الماركسية العربية المستقلة. هذا ما سيظهر على وجه الخصوص في المراجعات والانتقادات الداخلية والمتبادلة والدائمة بقصد مواءمة إرشاداتها مع خصوصيات أوضاعنا الوطنية والعربية.
دعنا نرى الآن كيف تبلورت الخاصيتان السابقتان على مواقف المنظمة من قضية الصحراء بدءا من التصور الوارد في الكتاب الذي بين أيدينا.
من الواضح أن التصور السياسي الذي حكم مواقف المنظمة وقتئد، كانت يجتمع في آن واحد، وعلى قاعدة مغربية الصحراء، بين مهمتين غير متساويتين في الزمن، وغير متطابقتين في القوى الاجتماعية الخاصة بكل منهما. والمهمتان هما: التغيير الديمقراطي الجذري للنظام السياسي من جهة، وتحرير الصحراء واسترجاعها من جهة ثانية. إلا انه لم يكن بإمكان هذه المعادلة التطابقية بين المهتمين، ان تدوم طويلا لدى منظمة كانت تتمتع بالخصائص التي شرحتها سابقا. اذ كان ولابد من أن تستوعب الحقائق التي أظهرتها توا لممارسة الموضوعية. ومن بينها:
إن معركة تحرير الصحراء من الزاوية العملية، كانت معركة آنية وضاغطة وذات أولوية، وكانت تحتاج في مقدمة ما تحتاج اليه، الجيش والديبلوماسية، وهما معا من أدوات الدولة. وما كان بالامكان التغاضي عن أن الدولة كانت منخرطة في معركة التحريرو الاسترجاع بكل امكانياتها. ومهما كلفها ذلك من مخاطر، وكيفما كانت اخطاؤها في الماضي وقصورها الديمقراطي في الحاضر.
إن معركة تحرير الصحراء تحتاج الى إجماع وطني، بما فيه السلطة وقواها الاجتماعية. وفي هذا المسار، ما كان يمكن عزل الموقف الايجابي الذي اتخذته المنظمة من المسيرة الخضراء عن هذا الاجماع الوطني الضروري سياسيا وعمليا،وهذا بينما لم تكن المعركة الديمقراطية تضم في ذات السيرورة سوى القوى التي انتسبت تاريخيا ونضاليا اليها، و بالتالي فموازين القوى بين المعركتين، وان كانتا مترابطتين جدليا، فهما غير متطابقتين ولا متساويتين في آن واحد. والمطلوب ايجاد الحد الديمقراطي الامثل وليس الأقصى للجمع بينهما جمعا جدليا ومتناميا.
هاتان الاطروحتان الواقعيتان كانتا كافيتين لتنبيه المنظمة في مخاض الدفاع عن مغربية الصحراء، ولو بعد تجريب قصير، لكي تعيد النظر في علاقة التساوي والتطابق بين نضالها الديمقراطي ونضالها الوطني.
لكن رب قائل، وهل كانت المنظمة بحاجة اصلا الى ما يشبه فتوى ماركسية لتهتدي الى موقف وطني صائب؟
من البديهي انها لم تكن بحاجة إلى ذلك، ككل القوى الوطنية الاخرى التي لم تشكل الماركسية مرجعية لها. لكن حتى وان غضضنا الطرف عن اللحظة الجدالية التي فجرتها التناقضات الداخلية بين فصائل وتيارات الحركة الماركسية، فإن المراجعة الماركسية للمسألة الوطنية كانت فاتحة لما هو ابعد من الموقف المطلوب في القضية الوطنية بحد ذاتها. لقد كانت في العمق خطوة اخرى في إعادة بناء الوعي الماركسي للمنظمة وفق الخصوصيات الوطنية في شموليتها، فلا غرابة بعد هذه المراجعة الاولية ان تنفتح المنظمة على قضايا وإشكالات نظرية أعمق وأبعد من قضية الصحراء بحد ذاتها.
واكتفي هنا بالاشارة الى بعض عناوينها في عجالة خاطفة، ومع ما قد يحتويه الاختزال من ابتسار للمضامين .
الدولة ككيان تاريخي، لها مصالحها وتمايزاتها عن السلطة والنظام السياسي. فالدولة ليست ببساطة سلطة الطبقة الحاكمة وقضية الصحراء نفسها تبين انها قضية الدولة اكثر وأكبر من أي مصلحة طبقية نبزها بزا.
المجتمع ككيان تاريخي فاعل ايضا.. وليس مجرد برواز شكلي فارغ لصراع طبقي يجري بداخله، والذي مازال هو الآخر جنينيا او مشوها بالاحرى وغير ناضج. ومن هنا، برزت أهمية التنوير الثقافي والديني منه بالاخص، كما برزت محورية قضايا المرأة والاسرة والشباب. وفكرة التأخر التاريخي المجتمعي والفوات الايديولوجي وكل القضايا التي كانت ثانوية في التحليل الطبقي العام الارثوذوكسي ومن هنا أخيرا، جاء الشعار المركزي "»دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع«".
إرجاع الاعتبار للتراث الفكري الليبرالي الديمقراطي، والذي كانت النظرية الاشتراكية استيعابا وتجاوزا جدليا تاريخيا له. ومن جملة هذا التراث ارجاع الاعتبار لمركزية المسألة الديمقراطية في الراهن والمستقبل.
تلك كانت قضايا نظرية إشكالية كبرى طرحتها بالترابط المراجعة الماركسية للمسألة الوطنية أو المراجعة الوطنية للماركسية كما أحبذ القول.
واذا كانت المنظمة قد قطعت أشواطا في هذا المخاض الفكري، فمن الزعم الادعاء بانها قد استنفدت كل مضامينه والتي ستظل اشكالياتها قائمة وقابلة، ودوما للانماء والاغناء والتجريب العملي.
وعلى تلك الخلفيات الفكرية المتنامية، رأينا كيف ان المنظمة قامت خلالها بمراجعات نقدية متتالية لخطها السياسي وصولا الى العمل الشرعي والانخراط في النضال الديمقراطي الاجتماعي الاصلاحي.
في المسألة الديمقراطية, أرى لزاما علي ان اقدم التوضيحين التاليين انصافا لتاريخ المنظمة.
اولا: بدأت الارهاصات الاولى في تلمس أهمية النضال الديمقراطي الاصلاحي مباشرة بعد ذلك الفشل الدرامي لحركة 3 مارس والتي كان يقودها تيار من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وهو على أبواب تحوله الى الاتحاد الاشتراكي. لقد كان الخلاف مع هذه الحركة في ان المنظمة كانت تعطي كل الاولوية المطلقة لبناء الحزب الثوري على أسس إيديولوجية وتنظيمية واضحة، ودون سوى ذلك من الممارسات الراديكالية الاخرى.
إن فشل الحركة بذلك الشكل الدرامي عرى من جانب آخر على أن الجماهير والصراع الاجتماعي عامة ليس بتلك الحالة الثورية الممتدة والمتصاعدة كما تصورها اليسار على اثر انتفاضة 23 مارس. ومن تم انكشف الفراغ التكتيكي الذي كان يكتنف ممارسة اليسار في تعاطيه مع النظام القائم، وهو الذي لم يكن يتعامل مع النظام الا تعاملا استراتيجيا فقط. وحتى تلك المطالب الدنيا، التي كان يطالب بها اليساري بين فينة واخرى كإطلاق سراح المعتقلين وحرية التعبير وغيرها، لم تكن في واقع الحال سوى شعارات مناسباتية اعتراضية واحتجاجية تعبوية، ولا تشكل بذاتها جزءا في منظور تكتيكي مبني على تقدير واع لموازين القوى ولمتطلباتها في كل مرحلة. من هنا بدأ الاحساس بمكانة واهمية وأدوار النضال الديمقراطي الاصلاحي، وفي الصلب منه انتخاب المؤسسات التمثيلية ذات المصداقية، والنضال في الوقت نفسه من داخل المؤسسات المقامة حتى ولو كانت دون المستوى المطلوب، وصولا الى التعبير الثوري المنشود.
ثانيا: لا يعني ارجاع الاعتبار للتراث الليبرالي الديمقراطي، ان المنظمة كانت ذات منحى شمولي على طراز الاتحاد السوفياتي. ونقدها لكل التجارب الشمولية البيروقراطية كان ينم عن مشروع مجتمعي اشتراكي انساني وديمقراطي. المعضلة في ان المنظمة لم تقدم في تجربتها وقتذاك تصورا مؤسساتيا لما سيكون عليه النظام البديل، بل اكتفت في هذا الصدد بتحديد الماهية الطبقية السياسية لهذا البديل الجامع بين كل القوى الوطنية الديمقراطية في المرحلة الانتقالية. وما عدا ذلك ظلا مشوشا وغامضا الى أن تم لها الخيار الديمقراطي الاصلاحي.
وفي الخلاصة الختامية، يمكن ان نعتبر ان المراجعة الوطنية للماركسية، كما أحبذ القول سواء في نصوص الكتاب الذي بين أيدينا، أو في غيره، كانت بحق جسر عبور المنظمة نحو وعي اكثر عقلانية، والاكثر تشبعا بالتاريخانية، ما أمكن لها ذلك، ونحو وعي أكثر وضوحا وأشد تماسكا في المسألة الديمقراطية.
واذا تركنا جانبا التغييرات النوعية التي حدثت على المشهد السياسي خلال هذا الزمن الذي يفصلنا عن نصوص الكتاب، بدءا من القضية الوطنية نفسها، وتركنا جانبا معها, التحولات الايديولوجية والحزبية التي جرت على معظم الجسم الماركسي سابقا، فان افضل ما اختم به هذه المداخلة/ الشهادة ان ألفت انظاركم الى خطورة اللعب بالمسألة الوطنية في مواجهة التحدي الديمقراطي. انظروا الى ما يجري حولنا في الوطن العربي، في سوريا والعراق وليبيا، وبشكل اخر في لبنان، فانكم ستوافقوني الرأي، ان كل الحركات التي فصلت بين المسألتين، او استخفت بالمسألة الوطنية بتحالفها مع قوى خارجية امبريالية ورجعية من اجل ايصالها الى السلطة، زاعمة انها تريد بناء الديمقراطية اولا، كان المآل تدمير الدولة والكيان المجتمعي وتقديم تكلفة انسانية، باهظة الثمن في حروب لا مخرج لها بعد.
انه درس التاريخ في الماضي و الحاضر, فلا ديمقراطية حقة الا على أرضية وطنية صلبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.