في هذا السبت الدافئ، كانت مدينة الرباط قَلبا وطنيا نَابِضا للآلاف مِن القاضِيات والقُضاة الذين أتَوا من كل فَج عَميق ومن مستويات المحاكم و مراتبها المختلفة، يقولو هِيتَ لك نَادي القضاة، نحن أوفياء للتاريخ، ونحن مع الموعد لا نبدل تبديلا، ولا نهاب تهديدا، ولا يخيفنا وعيدا. بالرباط، قرر نادي القضاة ربْطَ وَقْفة من وقَفاتِ التعبير الإبداعي أمام وزارة العدل والحريات، وقرر القضاة النساء والرجال أن يقلصوا المسافات بينهم وبين الرأي العام الوطني والدولي وأن يحققوا القرب بمعناه الواضح الحقيقي من خلال تواصل بدون قيود ولا حدود، حتى يدخل صوتهم بوابات وزارة العدل ويصعد عتباتها ويدخل مكاتبها لينبه ويقول لا نطلب منكم إلا شيئا واحدا، أن تعترفوا باستقلال القضاء وأن ترفعوا كل نفوذكم عن القضاة فلقد سئمنا زمن الحجر والحصار، وأن تتأكدوا أن لغتنا لغة قضاة وقاضيات غير متحزبين ولا مسيسين ولا منتظمين في خلية سرية ولا متحدثين بلسان فرق تتنافس على مقاعد نفوذ أو صناديق نقود أو مواقع انتخابية أو تمثيلية..... ولكن تجمع القضاة و صوت القضاة أثار الفزع، وهكذا، خرج التهديد من وزارة العدل نفسها ومن الندوة الصحفية التي نظمها الوزير، ثم تلاه بلاغ وزارة الداخلية ليلة السبت على لسان ولاية الرباط، وسجل المؤرخون بغرابة وذهول، أنه لم يسبق لا لأوفقير ولا لإدريس البصري في مغرب بعد الإستقلال، ولا للجنرال جوان أو اليوطي في عهد الإستعمار، أن سقطوا في ممارسة العار ووقفوا مهددين معترضين نساء ورجال القضاء بالمئات من رجال الأمن من مختلف الفيالق والفرق، بلباس المواجهة و الميدان، مدججين والهراوات، لا ينتظرون إلا إشارة، انطلق.... لمنعهم من السير نحو مكان اللقاء المقرر أي أمام وزارة العدل، فشاء القدر أن يحصل هذا العار على يد حكومة فيها الإسلامي والشيوعي والليبرالي اتفق وزراؤها أن يرتكبوا أكبر ذنب في التاريخ من دون أن يوجد منهم واحد أو واحدة يرفض المشاركة في الخطيئة التاريخية ويتبرأ منها ومن صناعها ومدبريها ويعلن السخط والغضب عليهم. ولم تعرف مَدينة الرباط وقَلبُها التاريخي مَشهدا جَافا مُخيفا ومُفزعا في تاريخها، مثل ما عرفه هذا السبت الأسود الذي غابت عنه حرية التنقل والتجول بين شوارع العاصمة، بسبب منع المواطنين خرقا للقانون من المرور، وبسبب الإنزال الأمني غير المسبوق والإغلاق البوليسي لكل الممرات والمنافذ والشوارع، خلف السور التاريخي المحيط بمدينة الرباط من عهد يعقوب المنصور، تلك الشوارع التي تسير في اتجاه وزارة العدل والحريات التي يَسكنها وزير العدل والحريات، والتي أصبحت جَزيرة مَهجُورة بعيدة عن الأبصَار، و سِجنا وسط العاصمَة مُطوقا مَغلوقا على ساكنته. هكذا، وفي صُورة رسَمتها ألوان الحُزن، سَقطتْ وزارة العدل من بُرج ماضيها، وأسقط وزيرها ما شيدته اسماء سابقة من وزرائها ومديريها، وارتكب ما لم يَجْرؤ أحد من قبله عَلى إتيَانه، سواء مصطفى بلعربي العلوي، القيسي، المشيشي العلمي، عزمان، الراضي، الناصري....، واستعادت من جديد أم الوزارات المشعل من جديد من يد الوزارة، فسقطت شعارات استقلال القضاء، وهيبة القضاء، وسمعة القضاء، لما تعاملت السلطة مع نادي القضاة بأسلوب من العربدة بكل المقومات والقيم، ووصل الامر إلى تطويق القضاة بالمئات من رجال الأمن حتى وهم داخل مقر ناديهم الإجتماعي، أي في مكان خاص بالقضاة، وبالطبع لم يكن من المستبعد أن يهاجم تجمعهم وتهرق دماؤهم وتكسر أذرعهم وضلوعهم. لقد دخلت السلطة، من خلال تطويق القضاة وممارسة الإهانات في حقهم، متاهات خطيرة ضربت فيها مقتضيات الدستور الذي يعترف بحق التجمع والتظاهر السلمي وحق تأسيس الجمعيات، ووقفت السلطة ضد الدستور الذي يفرض عليها توفير كل الأسباب لممارسة المواطنين لحقوقهم، وعاملت القضاة معنويا بالعنف والقسوة والإحتقار، وقالت لهم عبر وزارتي العدل والداخلية ما معناه، إن حماية القاضي وضمان سلامته وأمنه الشخصي أمور لا تدخل في دفتر التحملات للوزارتين، وقالوا للقضاة جهرا بأن الوزارتين هما الوصيتين على القضاة، وأن الوزارتين يمكنهما أن ينتزعا صلاحية الملك الدستورية، ويعتديا على سلطاته كرئيس للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولم يتذكرا غَضَبة الملك الحسن الثاني قبل ثلاثة عقود، لما علم باعتقال وتعذيب القاضي سابقا العثماني، مثلا من عشرات الأمثلة.... والآن، وقد وقعت الواقعة ونزعت السلطة ووزير العدل معها، القناع عن وجهها الحقيقي اتجاه مكانة القضاء والقضاة لديها، فهل يحق أن يلتزم القضاة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء المنتخبون والمعينون الصمت أمام ما جرى للقاضيات وللقضاة يوم السبت الأسود، أوليس من واجبهم اليوم أن يعلنوا رأيهم ليعرف الجميع هل يزكون ويقبلون ما حصل للقضاة، وهل سَيقبلون الإهَانة التي لم يَسبق لها مثيل والتي طالتهم أنفُسُهم من خلال أعضاء نادي القضاة، وهل سيُصَفقون لوزارتي العدل والداخلية وينحنون على بطونهم لقرارات العربدة والحماقة التي مست الجسم القضائي، وهل سَيتبرؤون من قُضاة ومن قاضيات نادي القضاة ويعلنوا تحالفهم مع انتهاك قيم الدستور في مجال القضاء، وهل سيقبلون المشاركة في الجريمة التي ارتكبت ضد حرية التجمع والتظاهر والتعبير لما منع القضاة من الحق في التعبير وفي التجمع، وهل سيقبل أعضاء المجلس الأعلى للقضاء محاكمة القاضيات والقضاة وطردهم موالاة منهم للوزارتين وللوزيرين وخشية من سلطانهما ؟؟ ويبقى السؤال الكبير هل سيستقيل القضاة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، تضامنا مع القضاة ورفضا للإهانة التي طالت كرامة القضاة ؟؟ أنا من الآن أنتظر ذلك منهم. إنني أعلن أمامكم، أيتها القاضيات, أيها القضاة في نادي القضاة، أنتم مفخرة لنا و للوطن، أنتم تبشرون بعدالة مستقبل الوطن، هذا ما تعبر عنه مواقفكم، لأن المواقف و التصرفات في النهاية هي ما يكشف حقيقتنا، و كما يقول البير كامي ALBERT CAMUS : Nous finissons toujours par avoir le visage de nos vérités