إن النقاشات الهامة التي ميزت المشهدين السياسي والثقافي ببلادنا في أربعة أشهر الأخيرة حول اللغة والتربية والتكوين, وحول النزعة التكفيرية في مواجهة السعي نحو المساواة والمناصفة بين الرجل والمرأة, وحول مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني , وحول التاريخ والذاكرة الوطنية .. هي نقاشا ت هامة ونوعية بكل ما لها وما عليها , وينبغي بالتالي ,أن يستمر وتتسع فضاءاتها وتتنوع , وينخرط فيها مختلف الفاعلين الثقافيين والسياسيين والجمعويين وذلك بهدف إنقاذ السياسة من الابتذال والفكر من الدوغمائية والجمود ومختلف النزعات المرضية من تعصب وتطرف ورفض للآخر المختلف . ولعل «الزعيق التكفيري» الذي تخلل النقاش حول تعدد الزوجات ونظام الإرث , والكذب الذي طال التاريخ الوطني مع الافتراء على رموزه المحترمة من صانعيه الأماجد , والتجني على اللغة العربية ,وذلك بنعتها بأنها مجرد « لغة شعر ومواعظ « , والدعوة ,جهارا ونهارا , وباسم « الواقعية « , إلى عدم إغضاب اللوبي الصهيوني العالمي « بمقترح قانون» يجرم سياسة التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي..الخ , لعل في كل ذلك وغيره, ما يحث على تنظيم حوار وطني واسع حول تلك القضايا وغيرها , حوار يعيد بناء اللحمة بين الثقافي والسياسي , بين الفعل وبين النظر , بين التعبئة وبين التاطير لها ولأفقها الممكن ,وأهدافها المتاح موضوعيا تحقيقها , إنه الطريق الحريري والحتمي نحو توافقات وطنية عميقة,يتوقف عليها اليوم تحرك قطار الانتقال الديمقراطي بالسرعة المنتظمة المطلوبة نحو محطته الموعودة من جهة , والمدخل الرئيس إلى الحداثة الفكرية والسياسية من جهة ثانية : ففي غمرة تلك النقاشات للقضايا الكبر المشار إلى بعضها أعلاه , كان صوت المثقفين , من أكاديميين ومفكرين ومثقفين حزبيين وجمعويين وحقوقيين وإعلاميين حاضرا بقوة وبشكل حاسم أحيانا ( كحضور المفكر عبد الله العروي الوازن في نقاش المسألة اللغوية مثلا ), ما يفند تلك الأسطوانة المشروخة حول استقالة المثقف وعزوفه عن الخوض في إشكالات وملابسات المرحلة التاريخية الراهنة وتحدياتها . وليس صحيحا في نظري ما ذهبت إليه بعض الأقلام حين اعتبرت أن إثارة الفاعل السياسي ,الإتحادي خاصة ,لقضية تعدد الزوجات ونظام الإرث لا يدخل ضمن أولويات العمل السياسي وبأنه افتعال «لمعركة إيديولوجية « من طرف المعارضة للحكومة الحالية , ذلك أن أي حزب سياسي يتغيا التحديث والدمقرطة للدولة وللمجتمع لا يمكنه أن ينأى بخطه السياسي وهويته الفكرية عن مثل تلك القضايا , وألا يكون المبادر في طرحها والدفاع عن إعمال الفكر بدل الشعارات , والاجتهاد العقلي بدل الاجترار للمألوف فيها من قوالب جاهزة وأحكام جامدة ومحافظة , وإلا سيتحول إلى كائن انتخابي صرف مثله مثل أحزاب « الخردة « التي لا تملك قضية ولا مشروعا مجتمعيا . وبكلمة , فإن وحدة السياسي والثقافي , الفكري والعملي ,وتفاعلهما وحضورهما في الفعل والخطاب هو أهم خلاصة ( قديمة _ جديدة ) أفرزتها تلك النقاشات ووضعتها كتحدي في وجه النخب السياسية والثقافية في معركتها من أجل بناء ترسيخ فكر وقيم ومؤسسات الاختيار الحداثي الذي تنتمي إليه . سأتوقف هنا , وبإيجاز, عند أربع خلاصات أساسية بخصوص ما سميته ب « الزعيق التكفيري « الذي رافق الجدال والسجال حول تعدد الزوجات ونظام الإرث , كمثال على ما سبق ذكره أعلاه , وهي: أولا : إن ما أثارته اشغال المؤتمر السابع للقطاع النسائي الإتحادي,وتوصياته المتعلقة بتعدد الزوجات ونظام الإرث من جدال فكري وفقهي من جهة , ومن ردود فعل هوجاء وتكفيرية من جهة مقابلة , يبين بشكل واضح مرة أخرى , بعد تجربة ومخاض إقرار مدونة الاسرة , الحاجة إلى نقاش وطني عميق وعقلاني وحر حول القضايا العميقة والجوهرية في أي تحديث فكري وسياسي واجتماعي .ولاشك في أن مسألة تعدد الزوجات وطبيعة قانون الإرث الجاري به العمل هما من تلك القضايا التي تفرض على مكونات المجتمع من مثقفين وعلماء دين ومختلف قوى المجتمع المدني وفي مقدمتها الحركة النسائية بأطيافها المتنوعة ,الكثير من الفعل والاجتهاد بما يحقق حولها توافقا مجتمعيا ينصف المرأة ويرفع عنها كل اشكال المعاناة والقهر الناجمين من التعدد للزوجات ,ومن حيف في تطبيق قانون الإرث وذلك وفق روح الشريعة وحاجات العصر ووفق مبدأ المصلحة العامة كما رجحه الفقهاء والعلماء المقاصد يون , واستندوا إليه كمرجعية .. ثانيا : لقد أكد هذا الجدال الذي انزلق فيه من ينصبون أنفسهم أوصياء على إيمان وتدين الناس نحو التكفير والسب الرخيص , أكد , على إلحاحية الحاجة للتدخل القوي للعقل والعقلاء في مواجهة اصوات « الجهل المؤسس والمقدس « , بهدف إنضاج وإنتاج خطاب تنويري في المسألة الدينية عموما, خطاب يستأنف الاجتهاد العقلي والعقلاني لمفكري الإسلام من ا لمتكلمين المعتزلة والفلاسفة والفقهاء المقاصد يين والسلفيين التنويريين النهضويين . فسواء _ مثلا _ مع محمد عبده أو علال الفاسي أو الطاهر الحداد وغيرهم , نجد اجتهادات في الشريعة وفي النص الديني تتفاعل إيجابيا مع دينامية الواقع المتغير وترمي إلى إقامة العدل والمساواة بين الناس على الأرض . ثالثا : إن الدينامية السوسيوثقافية لمجتمعنا اليوم , تكفلت بجعل ظاهرة تعدد الزوجات تتوارى ,وتصبح ,بالتالي , ممجوجة لدى فئات عريضة في المجتمع من مختلف الأجيال , كما أنها ( الدينامية ) ابتكرت آليات وطرق أخرى للتوريث بما يحافظ على وحدة كيان الاسرة أو الجماعة وتعايش أفرادها في إطار من الإنصاف . إلا أن ذلك لا يلغي ضرورة التقنين والتوافق حول هتين المسألتين بما يعمق مكتسبات مدونة الاسرة ويجعلها أكثر تلاؤما مع مقتضيات دستور 2011 المتعلقة بالإنصاف والمساواة بين الرجل والمرأة .. رابعا : لقد أتاح الجدال المذكور , فرصة لاستحضار اجتهادات علماء دين ومفكرين تنويريين حول مسألة تعدد الزوجات وحول الحاجة إلى قانون إرث أكثر عدلا , وفي هذا السياق لا بد من الوقوف هنا, ولو بإيجاز عند مساهمات المفكر الراحل محمد عابد الجابري الذي طالته الحملة التكفيرية الجاهلة في غمرة هذا الجدال : ففي حديثه عن تطبيق الشريعة دعا الجابري إلى الاستناد إلى مرجعية الصحابة ( أبوبكر وعمر رضي الله عنهما ) التي قامت على مبدأ اساسي ووحيد في الاجتهاد هو اعتبار المصلحة العامة « سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه « ( أنظر مواقف ع 28 الدين والدولة وتطبيق الشريعة ) , مؤكدا من خلال أمثلة من العهد العمري تم فيها تقديم المصلحة العامة على النص , فهل يعني ذلك تغيير الشريعة ؟ يقول : « كلا ,الشريعة ثابتة ومطلقة لأنها إلهية , ولكن بما أن قصد الشارع هو جلب المنافع ودرء المضار , وبما أن المنافع و المضار نسبية , تتغير بتغير الظروف والأحوال , فإن التطبيق وحده هو الذي يجب أن يتغير بتغير المصالح , والأمر لايعني تعطيل النص, بل فقط تأجيله بالتماس وجه آخر في فهمه وتأويله» ( نفس المرجع ص 33 ) إن ذلك لعمري, هو المطلوب ,وهو المقصود من أي إصلاح لشأننا الديني , بما يقتضيه هذا المفهوم من مراجعة للتفاسير السائدة والمهيمنة , وإعمال للتأويل والاجتهاد العقلي , ونقد للمذاهب يميز بين الشريعة وبين ماهو اجتهاد بشري لفقهاء في ظروف ونوازل مختلفة ومتغيرة , ويحدث ( بكسر الدال وتشديده ) التشريعات ,ويعلي من العقل كوسيلة وغاية .. ذلك هو ما يشكل مدخلا لا غنى عنه لمواجهة الاصولية التكفيرية والفتنوية . وتلك مهمة مشتركة, يتكامل فيها فعل ومبادرات الفاعل السياسي, بنظر وفكر واستشراف الفاعل الثقافي..