يعتبر الاستشراف الترابي La prospection Territoriale، أساس القرار السياسي للمنتخب المحلي، أو على الأقل التوطئة التمهيدية، الواضحة أو الخفية أو المقنعة لهذا القرار؛ وكذلك الأداة التي يعتمدها المسؤول السياسي المحلي لتحديد إستراتيجية تدخله. فكل تفكير سياسي حول مستقبل تراب معين - مدينة، جهة، تكتل عمراني، فضاء متروبولي، ثنائية قطبية حضرية - من شأنه أن يحدد ويؤطر وينعش المجال، وبالتالي يساهم في رسم معالم واقع الغد. وفي هذا السياق يقول المفكر الفرنسي Jean Jaurès، « يوطوبيا اليوم ستصبح حقيقة الغد «. خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، اكتست تقنية الاستشراف الترابي أهمية بالغة لدى العديد من الدول. وغالبا ما كان ينجز هذا التمرين بطلب سياسي، وطنيا أو بين جهويا أو محليا؛ إما في إطار قانون أو بقرار لجنة وزارية أو بتدخل مباشر من الدولة. لهذا السبب تعددت مكاتب الدراسات المتخصصة في هذا الميدان، وتنوعت المناهج والأساليب العلمية المعتمدة بشأنه، وإن كان هدفها واحد وهو استكشاف مستقبل التراب ، من أجل تحديد إستراتيجية التهيئة والتنمية الخاصة به. وعلى خلاف ما كان سائدا خلال عقد السبعينات، حيث كانت تنجز دراسات الاستشراف الترابي لإعداد وثائق التخطيط المجالي وللإجابة عن السؤال التالي: في أي اتجاه سوف تتطور الأمور على مستوى التراب؟، في إطار من المهنية والتشاور؛ فقد أضحت هذه التقنية، منذ بداية عقد التسعينات، تعتبر أداة لاتخاذ القرار الاستراتيجي الصائب وللإجابة عن أسئلة أخرى، من قبيل: ماذا يجب أن نعمل؟ وكيف؟. أمام هذا الوضع، أصبحت النخبة السياسية المحلية تتساءل حول مدى جدوى وفعالية هذه التقنية لخدمة وتوجيه القرار السياسي المحلي، وقدرتها على صياغة قرارات المنتخبين بشكل مباشر أو غير مباشر. للإجابة عن كل هذه التساؤلات، سوف نعالج الموضوع من الزوايا الثلاث التالية: أولا: الاستشراف الترابي كأداة سياسية، يدرك المنتخب السياسي تمام الإدراك أن « الاستشراف « عملية تضمر في ثناياها العديد من المخاطر لسبب بسيط كون استكشاف المستقبل مجرد تقدير وتكهن ينأى عن كل توثيق. وهو فكر حر وخالص وبريء، ولكن في نفس الآن يعتبر من صميم رهان السلطة Enjeu de Pouvoir، إذ من المستحسن، بل من المفروض في بعض الحالات أن يدرك السياسي كيف يرى نظراؤك ومساعدوك ومعارضوك ومنافسوك وكذا أصحاب القرار، مستقبل الفضاء الذي يعيشون في أحضانه. كشف خبايا وفك ألغاز المستقبل الذي يهم السياسي ويهم الآخرين، ويهم كذلك التراب في تقطيعه وجاذبيته؛ وصبغ أغوار المتوقع والممكن هو تمرين خطير وتحفه المجازفة، ما دام أنه قد يخطئ في التقدير، وقد يكون الهدف منه التأثير على رأي الناخبين. وفي جميع الأحوال، يمكن تجاوز هذه الاحتمالات غير الايجابية في الوقت الذي تتوفر فيه حسن النوايا. من الممكن أن يكون الاستشراف الترابي حافزا على فرز دينامية طموحات جماعية أو سببا في خلق الشعور بالإحباط والكبت، أوفي إثارة الإشاعة لترجيح كفة السيناريو الأكثر تفاؤلا وتعبئة للرأي العام، حتى وإن كان أقل واقعية، وهو الاختيار الذي يلجأ إليه في الغالب الأعم أصحاب القرار، من منتخبين ومسؤولي الدولة بمختلف مستوياتهم. الاستشراف الترابي كما سلف، هو تمرين ذهني أو بعبارة أخرى دراسة تقنية تمكن من رؤية المستقبل الممكن والمحتمل والمتوقع؛ المستقبل الذي يصبح قارا ومحددا وغير قابل للتفاوض، بمجرد ما يصبح مكتوبا ومرسوما ومؤطرا برهانات الفاعلين وبتطورات الأحداث المعلنة وبالقرارات المتخذة أو التي سوف تتخذ. وهو دراسة خبرة قد تسلب المواطن حريته في اتخاذ القرار أو على العكس من ذلك قد تجعل الأمور تفتح على كل الاحتمالات. تعتبر هذه التقنية مغامرة في حد ذاتها. ففي الوقت الذي تميط فيه اللثام عن الحقيقة وتفصح عن الاختلالات والصعوبات وتسلط الأضواء على التوترات وتكشف عن الشكوك والتوجسات، فهي تثير لدى الناخب المحلي إما ردود أفعال مناهضة أو حماس مفرط اتجاه أمور أو قضايا أو مشاريع معينة. وفي نفس السياق يتيح الاستشراف الترابي إمكانية تشخيص المشاكل التي يعاني منها تراب معين، ويؤكد بوضوح الرهانات والاستراتيجيات، بل حتى السياسات التي يجب إتباعها. كما يمكن أن يتحول إلى آلية لتأييد أو تكريس موقف فكري معين، وفي بعض الأحيان لتزكية قيادة أو مجموعة سياسية. فبالتحكم في الآليات والتقنيات التي تتيح إمكانية قراءة المستقبل ورسم آفاق ومصير مجال ترابي، يدرك المنتخب المحلي أنه يطرق باب الممكن لتقلد منصب السلطة أو المسؤولية لتدبير الشأن العام المحلي. ثانيا: الاستشراف الترابي كمنهجية لإعداد مشروع،انطلاقا من مقولة المفكر الفرنسي الشهير Pasteur،» القدر لا يفضل سوى العقول المهيأة «، يثار سؤال مشروع حول طبيعة الإجراءات التمهيدية التي يمكن إتباعها لإنتاج مستقبل تراب محدد وملموس، اجتماعي وثقافي، اقتصادي وسياسي، نتمناه ونريده ونرغب فيه؟ الجواب هو استشراف الحاضر وتوقع الغد بناء على فهم وتفسير وتحليل اليوم والبارحة. أما الباقي فهو مجرد نتاج الحلم والخيال وإرادة الفرد أو الجماعة أو الأغلبية، وكذلك نتاج بعض القرارات الإستراتيجية.وغالبا ما تتم بلورة وتجسيد كتابة المستقبل، بشكل فردي أو جماعي، في مكونات مشروع ترابي. وعلى الرغم من كون المشروع الترابي كما سلف، مجازفة توقعية في حد ذاتها، فهو مع ذلك تمرين مطلوب لاعتبارات أربع: - مادام أن غاية المشروع الأساسية هي معرفة وفهم وتفسير المستقبل المجهول الذي يعتبره الكثيرون مقلق ومخيف، فهو يعتمد في تحقيق ذلك على تقنية الاستشراف الإدراكي Prospection Cognitive. وفي هذا الإطار يقول الأستاذ Ohlin Clark: « يهمني المستقبل لأنه في أحضانه سوف أقضي بقية حياتي «. وهذا هو الهاجس نفسه بالنسبة للمنتخبين الذين يهمهم مستقبل ترابهم، لأنه في أحضانه سوف يتعاقبون أو ينهزمون أو يموتون سياسيا. وهذا ما يفسر لجوء النخبة المحلية المشرفة على تدبير الشأن العام للاستشراف الترابي من أجل ضبط توقعاتها وتدقيق قراراتها السياسية. - الاعتبار الثاني يخص مهنة الاستشراف نفسها. فصبغ أغوار المستقبل الممكن لتراب معين لا يتأتى إلا بتجميع العناصر والمؤشرات والقرائن المادية التي ستتيح وضع إستراتيجية للوصول إلى الهدف المنشود. بالنسبة لتراب محدد، الاستشراف الاستراتيجيProspection Stratégique، هو وضع السيناريوهات الممكنة والمسالك المحتملة لرسم الخطة المناسبة للتهيئة والتنمية. هذه الخطة / الإستراتيجية التي سوف يصيغها المنتخب المحلي في شكل قرار سياسي حاسم، يجسد تصوره المفضل الذي من المفروض أن يعممه ويفسره ويقنع به ساكنة الجماعة الترابية المعنية، تمهيدا لتنفيذه. - الاعتبار الثالث، وهو سياسي محض يتعلق باختيار المنتخب المحلي نهج تقنية الاستشراف التشاركي Prospection Participative لصنع مستقبل جماعي متوافق عليه. لتحقيق ذلك، يفتح الحوار للإخبار والتشاور ولإتاحة الفرصة للمساهمة وبسط الأفكار والاقتراحات للنقاش. وهذه المقاربة قد تكون مكلفة، لأن الممارسات الجماعية والتشاركية، حتى وإن كانت محكمة القيادة والتأطير، تكون في بعض الحالات غير محسومة النتائج، موجهة وغير بريئة ومحفوفة بالمطبات والكمائن. - الاعتبار الأخير، وهو غير مباشر ولا يقل أهمية عما سبق، إذ يعتبر الاستشراف الترابي أداة فعالة للسياسة البيداغوجية، ذلك أن تكليف لجنة أو مجموعة أو فريق عمل بهذه المهمة، من طرف المنتخب التربي المسؤول له عدة مزايا. فالتفكير بشكل جماعي في مستقبل تراب هو تمرين ممتع، ينشط التشاور ويثير النزاع ويكشف عن المكبوتات والإحباطات وفقدان الثقة، وكذلك عن الرغبات والمواقف الرافضة وغير المؤيدة بالنسبة للمشاركين. غير أن هذا التمرين الجماعي يجب أن يتم في احترام لضوابط محددة ومعروفة مسبقا، وفي أجواء تطبعها حرية الرأي والتعبير. ثالثا: الاستشراف الترابي كوسيلة لتدبير تدخلات الفاعلين المحليين، في كثير من الأحيان يكون الاستشراف الترابي سببا في إحداث تغييرات عميقة في نسق أو منظومة الفاعلين المحليين. فهو يغري بمشاركة كل أعضاء النخبة، النشطين والمغمورين وحتى كثيري الغياب، ويثير اهتمام الصحافة المحلية ويعبئ حتى مصالح الدولة غير الممركزة. وباعتبار أن هذا التمرين جماعي ومفتوح أمام العموم، فغالبا ما يسفر عن تعديل وإعادة تركيب كلي أو ظرفي وعلى المدى البعيد، لموقف وتموقع الفاعل المحلي على المستوى الاستراتيجي. والأمثلة في هذا الباب كثيرة بخصوص إدخال تغييرات عميقة ومستدامة على الاستراتيجيات الترابية للتخطيط والتنمية السارية المفعول. وهذا التغيير في المواقف والقناعات لدى الفاعل المحلي ما هو إلا تفاعل طبيعي للمنظومة المحلية المشرفة على تدبير الشأن الترابي، مع النتيجة التي خلصت إليها تقنية الاستشراف، والتي يمكن اختزال مزاياها في الأمور التالية: - خلخلة الأوضاع الراكدة للمجلس السياسي المحلي من أجل تقديم أفكار، إثارة حوار، تثمين قيادي، تهيئة الرأي العام لسياسات معينة، محاصرة وتطويق معارضة، مفاوضة الدولة، تمرير إشارات عبر الصحافة، استقراء الرأي بخصوص كلمة أو فكرة أو تعليل معين. وقد تتطور الأمور إلى أن تصبح العملية حسب بعض المسؤولين السياسيين كمسرحية يتواصل من خلالها الفاعلون المحليون. - أما الاستعمال السياسي الثاني لهذا التمرين فيتمثل في إثارة استشارة متقدمة، مفتوحة أو منغلقة ومقتصرة على فاعلين دون غيرهم. كما قد تستعمل كإطار لاختبار أو تصديق أو تمرير قصري لسياسة جديدة أو لمجموعة من التدابير الطموحة أو لضمانات معدة لفائدة المعارضة أو السلطة المحلية أو الحكومة. وفي حالات أخرى، تعتمد هذه التقنية كأداة تسويقية للحلم بالمستقبل ولإطلاق العنان للخيال من أجل دحر ومحاصرة المعارضة. - المسؤولون السياسيون تواقون للأفكار الجديدة، وكل الخطب المهمة التي تتلى باسم النخبة المحلية تكتب من طرف غيرهم، حيث تعتبر الخبرة الاستشرافية في هذا السياق بمثابة علبة أفكار جاهزة ومتجددة، على عكس الخطاب السياسي الذي يتطور بوثيرة بطيئة، ويجعل من أحكام وأقوال الخبراء الغطاء الذي يعطي معنى لهذا الخطاب، خصوصا بالنسبة للقرارات التي تهم الغد. وفي الأخير، الكل يعلم أن الدراسات المنجزة في هذا المجال تعتبر الاستشراف الترابي أداة تواصل خطيرة وحاسمة في الحقل السياسي، لهذا السبب نجد المنتخبين السياسيين يدققون كثيرا في اختيار مجموعات العمل والمواضيع ومنشطي جلسات الحوار والمقررين، ويعتنون بصفة خاصة كذلك، بالطريقة التي يتم بها تحرير والمصادقة ونشر عروض الحال أمام النخبة أو الجمهور العريض. لذلك أصبحت غالبية الجماعات الترابية وكل النخب السياسية المحلية واعية بأهمية الاستشراف الترابي كأداة فعالة وحاسمة في ميدان التواصل السياسي. ولتكريس هذه المقاربة أحدثت في بعض الدول أو الجهات جامعات صيفية للاستشراف الترابي. وبالنسبة للذين اعتادوا على هذا النوع من التمرين، فقد جعلوا منه وسيلة للتسويق الترابي الداخلي والخارجي، فتعددت بهذه المناسبة الشعارات Slogans والملصقات الإشهارية والفيديوهات والأشرطة الوثائقية، لإعطاء صورة ايجابية وديناميكية وجذابة لهذا التراب، الذي قد يكون مركزا أو مدينة أوجهة أو تكتل حضري أو قطب ثنائي أو فضاء متروبولي. وبطريقة غير مباشرة، يكون هذا العمل الذي يدخل في خانة ما يطلق عليه بالذكاء الترابي، قد منح شهادة ميلاد موثقة للفضاء المجالي المعني، تتضمن ثلاث عناصر أساسية لكل تنافسية ترابية قوية، وهي: الهوية العميقة - الوظيفة المتميزة - التمثيلية البارزة. وحتى نضع هذا المجهود المتنوع والمتكامل للخبرة الاستشرافية، في سياقه السياسي وإطاره الترابي المناسب، لا بد من التذكير أنه ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن الحملات التواصلية المذكورة مع بداية كل قرن جديد أو عشية الانتخابات الجهوية والمحلية. * مهيء حضري - باحث مفتش جهوي سابق للإسكان والتعمير وإعداد التراب والماء والبيئة -جهة فاس بولمان واطار اتحادي